نص خطبة القدس في نظر الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهري، ثم اللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم يا رب العالمين.
وداع شهر رمضان:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه) كما هو المروي عن رسول الله (ص) في آخر جمعة من شهر رمضان، يقول: «دخلت عليه فلما بصر بي قال: يا جابر هذا آخر جمعة من شهر رمضان فودعه وقل: اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً»([2]).
﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾([3]).
منذ أن جاء الإسلام الحنيف ثبّت مجموعة من المفردات، منها ما يتعلق بالليالي، ومنها ما يتعلق بالأيام، ومنها ما يتعلق بالأحداث، واندفع المسلمون في تجسيد ذلك واقعاً خارجياً، مما ولّد في داخلهم حالة من الشعور بالمسؤولية، مما دفعهم في تحقيق ذلك تثبيتاً وتأسيساً لما هو بعده.
القدس في الذاكرة الإسلامية:
للقدس أهميتها وقدسيتها، وهي واحدة من المدن التي تربعت بقلب الإنسان بما هو إنسان، ثم باتت تأخذ خصوصيتها من خلال أولئك الأعلام الذين طرقوا أبوابها وثبّتوا فيها مجموعة من المبادئ والقيم والمفاهيم، من الأنبياء والرسل والأولياء ومن فُتح على يده.
فللقدس رمزيتها وتعني الكثير للإنسان، كما تعنيه بالضرورة لمن ينتمي لدين الإسلام الحق، خاتم الرسالات. وقد اقتطعت القدس من واقع الأمة وتاريخها الكثير، وشغلت مساحة من القرآن الكريم، واعتنت بها السماء اعتناءً ملحوظاً من خلال آيات تنوعت تراكيبها، لكن المشار إليه واحد وهي القدس.
كما أن السنة المطهرة مشبعة بالنصوص التي تعنى بهذه المدينة، لذلك حظيت هذه المدينة بالمكانة الخاصة في قلوب المسلمين عامة دون استثناء إلا من لا يحمل شعوراً بالمسؤولية تجاهها، ولا يحمل ارتباطاً خاصاً بالإسلام.
فرمزية القدس إسلامياً يقدمها لنا القرآن الكريم والسنة المطهرة والأدبيات العامة والسلوكيات التي تسهم في تقديم هذه المدينة لنا.
هي أولى القبلتين وثالث الحرمين كما في الكثير من الروايات التي اعتنى بتوثيقها حملة الحديث، وهي منتشرة في كتب الفريقين الخاص منهم والعام. كما أن القرآن الكريم قد أصل لهذه المدينة وأعطاها بعداً دينياً واضحاً.
ففي سورة المائدة مثلاً: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إْذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكَاً وَآتَاكُمْ مَا لَم يُؤْتِ أحداً مِنَ العَالَمِيْنَ~ يَا قَوْمِ ادْخُلُوْا الأَرْضَ المقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوْا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِيْنَ﴾([4]).
إذن للمدينة أهميتها في الدستور الأول، ولولا الأهمية التي تحظى بها، ولولا ما تعنيه لواقع الأمة يومها وما هو المستقبل، لإيماننا أن الغيب واحدة من المفردات التي اتكأت عليها الرسالة المحمدية في عبورها الزمن، لما كان لها هذه العناية في أقدس ما لدى المسلمين وهو الكتاب الكريم. والشواهد على ذلك كثيرة.
و هي مسرى النبي الأعظم محمد (ص) وبذلك تشكل وتمثل محطة من محطات الإسلام الخالدة الكبرى، حيث ملازمة علم الغيب للكثير من آناتها، لأن مسألة الإسراء والمعراج تحسب بالآنة الواحدة. فالنبي (ص) في إسرائه ومعراجه قطع الكثير من العوالم المثقلة بحكم المادة والمشبعة بالبعد المعنوي.
ومسألة الإسراء والمعراج من المسائل التي أولاها العلماء والفلاسفة أهمية خاصة لأنها تمثل لهم منفذاً لمعالجة إشكالية فهم الروح، وما الذي تعنيه الروح. وسبق لي في بعض السنين أن تعرضت لهذا الحقيقة، وأصّلت لها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، بما هو المتفق أو المفترق عليه.
إن للإسراء والمعراج قيمته وانعكاسه والواضح على بناء وتفريع هذه الأحكام اليت تؤمن العلقة بين المسلم ومبدئه.
إن هذه المدينة تكتسب خصوصية من خلال صلاة الكثير من الأنبياء والرسل والأولياء والعباد الكُمَّل بل العبّاد بالمطلق. ولا شك أن تكرر العبادة في مكان تضفي عليه قدسية، لذلك أعطى الإسلام في التقسم الفقهي أساساً من هذا النحو، فهنالك المسجد الحرام ومسجد النبي (ص) والمسجد الجامع، ومسجد السوق، ومسجد الكوفة، والمسجد الأقصى، ومسجد الحي، ومسجد العشيرة، وهكذا. فلكل من هذه المساجد خصوصيته، ففي المسجد الأقصى خصوصية، وهي أن الأنبياء ترددوا على هذا المكان بوجودهم المادي، أي أثناء حياتهم، وتقلبوا بين جنباته، وأدوا طقوس العبادة من تبتل وانقطاع وخشوع وخضوع أمام عظمة جبار السماوات والأرض. وهذا يمنح المكان الذي دخله الأنبياء وتعبدوا فيه وكتب له أن يسرى بسيد الأنبياء والرسل إلى السماء خصوصية خاصة.
فتوحات القدس:
لقد فتح المسلمون بيت المقدس على مرحلتين، إذ دخلوه أيام الخليفة الثاني فاتحين، وبعد الفتح شرعوا في عمارته، وكشف النقاب عن مجموعة من الروايات التي كانت مكتنزة. وهذا ما نراه اليوم في حياتنا عندما يحدث حادث ونريد أن نربطه بحياتنا، إذ نستحضر ما لدينا من روايات، بينما تكون قبل ذلك غائبة أو مغيبة.
فبعد فتح بيت المقدس انبرى من هنا وهناك من يقول: سمعت رسول الله، وقال رسول الله، وهكذا.
أما الفتح الثاني للقدس فكان أيام صلاح الدين الأيوبي التكريتي، وهو من الكرد، وذلك سنة 583 هـ . فقد طرد الصليبيين من القدس.وعندما نذكر الصليبية فلا نعني بها المسيحية، ولا بد من التفريق وعدم الخلط. ففي الدراسات التاريخية يفرقون بين الصليبية والمسيحية، إذ إن المسيحية ديانة سمحة، وهي دين النبي إسماعيل (ع) أما الصليبية فهي تكتّل وتحزب وعنصرية، وقد أريقت بسببها الكثير من الدماء، بل لم ترق دماء على وجه الأرض أكثر مما أريق على يد الصليبية، وهم الذين غرسوا بذرة الصهيونية العالمية، وأداروا حركة الماسونية. فالمسيحية غير الصليبية، وهي دين محترم، وفي الدين الإسلامي روايات كثيرة تعنى بنظم الحياة مع هؤلاء في كافة المجالات العبادية والمالية، ولكن عندما يرفع شعار الصليب ويسيَّس ذلك، تجد النكبات التي نراها اليوم في العالم. فجميع النقلات التي حصلت في العالم المستضعف بأسره كانت للصليبية يد فيها، وهؤلاء يستدلون بالنصوص المحرفة والمتقولة والمنسوجة على لسان النبي عيسى (ع).
كان صلاح الدين الأيوبي قائداً عسكرياً ممتازاً من الناحية العسكرية، وقد حاصرها في أول رجب ودخلها ليلة الإسراء والمعراج، وأخرج منها الصليبيين وطردهم، وكان انتصاراً كاسحاً، لكنه أخفق في القراءة السياسية للمشهد، إذ بنى على أن عدو عدوه صديقه، وفشل في ذلك. فقد قرّب اليهود، ومكنهم من بعض المواطن، وهذه واحدة من المآخذ على حركة صلاح الدين الأيوبي الفاتح آنذاك.
أما رمزية القدس عربياً فتتمثل بكونها أرضاً عربية كنعانية تضرب في تخوم التاريخ. فهي عربية بثقافتها وآدابها، فلو استنطقت حَجرها لقال: أنا عربي، ولو ناجيت سماءها لقالت: أنا عربية، ولو شربت من مائها لكان في كل قطرة منه ما يدلل على أنها عربية، وهذا ما يحمّل العروبة الكثير من المسؤولية تجاه هذه المدينة التي تستصرخهم.
ورمزيتها العربية تتلخص في خصائص كثيرة:
1 ـ وجود لغة مشتركة بين أهل هذه المدينة وعموم المحيط من حولها، فجميع الدول المحيطة بها عربية، وهي بنت العرب. واللغة العربية سيدة اللغات وأشرف اللغات بتشريف القرآن الكريم لها، فاللغات من حيث الأصل لغات إنسانية ولا خصوصية لإحداها على الأخرى، ولكن حيث خاطب الله تعالى نبيه الخاتم بلسان العرب، فهذا يعطي للغة العربية قدسية قيمة وقدسية خاصة. كيف لا؟ والثقل الأول والثاني عربي في جوهره، فمحمد (ص) عربي، والقرآن عربي، وآل محمد عرب.
2 ـ الثقافة المشتركة بين أبناء القدس وسائر المحيط من حولها، من المحيط إلى الخليج، فالمسارات الثقافية كلها تمثل ظاهرة واضحة تعني في ما تعنيه أن القواسم التي يتم الاتفاق والالتقاء والانطلاق بناء على وجودها، هي الوحدة في المنطلق والهدف، ما لم تنحرف البوصلة، فإشكالية الأمة، وما استوجب الإخفاقة في أكثر من موطن زماناً ومكاناً وحدثاً هو انحراف البوصلة، إما بسبب القادة أحياناً، أو بسبب الأمة والشعوب، وأحياناً تشترك الأمة مع الشعوب في حرف البوصلة، ولك أن تقرأ تاريخ هذه المدينة لتدرك ذلك بوضوح.
إن الثقافة تعني الأدب، من الشعر والنقد والنثر والتاريخ والسير والقصص، كما تعني الفن، من السينما والدراما والفلكلور الشعبي وغيرها. كل ذلك يحكي قيماً يحملها ذلك المجتمع فيعبر عنها بقوالب متعددة. وهذا حتى في زمن الرسول الأكرم (ص).
فلما هاجر النبي (ص) ووصل إلى المدينة المنورة كان للفن الشعبي دور في لفت النظر العام لما يحصل من وصول النبي (ص) المدينة المنورة وتشريفه إياها. فقد استقبلوه وهم ينشدون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وهي أنشودة خالدة عبرت الزمن، لأن للفن فيها إسهاماً، وهذه رسالة لمن يحارب الفن ويقتله في صدور حامليه، فالنبي (ص) لم يصادر هذه القيمة في ذوات الناس، فلماذا نحاربها ونصادرها نحن في ذوات الناس ونقاتل أفرادها الذي يحملونها؟
3 ـ كونها تمثل قطعة من جسم الوطن العربي الكبير: وهذه واضحة بينة يؤكدها التاريخ العربي والإسلامي والإنساني.
أما واقع المدينة بعد الاحتلال في النكبة عام 1948 فكان خلاصة ما أراد أن يصل إليه أرباب الصليب والذي على أساس منه نزا الصهاينة من اليهود على أكتافهم، وكان الضحية هو الإسلام والمسلمون والمدينة الموؤودة (القدس).
ونسأل هذا السؤال: هل كان ذلك لضعف عند العرب والمسلمين؟ الجواب: كلا، فاليهود لم يكونوا يتجاوزون ثلاثة إلى أربعة آلاف شخص في أقصى حد، نعم، كان لهم احتضان ماسوني صليبي عالمي، أما المسلمون فهم متهالكون يتناحرون فيما بينهم، والدولة العثمانية تحتضر وتريد أن تتخلص من أبنائها، ومن هؤلاء الأبناء الذين وئدوا القدس.
لقد شغلت القدس مساحة من ذهنية علماء الإمامية، فعلماء الإمامية ما انفكوا في يوم من الأيام، منذ أن حصل ما حصل، عن الاهتمام بهذه القضية وإعطائها الكثير من أولوياتهم، وهذا واضح، بل لا يستطيع أحد أن يزايد على هذا المربع، غاية ما في الأمر أنه يحتاج إلى قراءة.
إن الصفحات البيض في تاريخ علمائنا التي تؤسس للأخوة والمحبة والسلام والتعاون والرحمة والألفة لا نسلط الضوء عليها، إنما نسلط الأضواء على فلان ماذا قال في حق فلان؟ ونجعل منها (قضية فلسطين) ونسلط الضوء على فتوى فلان أو فلان، ونشغل أذهاننا وأوقاتنا وجهودنا وأفكارنا والآخرين بهذه القضايا. حتى بلغت بنا النوبة اليوم أن بات الواحد منا يقتل الآخر فكرياً وثقافياً وحضارياً على أساس من الاستعانة بالفتوى، وهذا واضح. وإلا ففي تاريخ علمائنا من النورانية والإشراق والالتفات إلى أهمية المسؤولية وخطورة الواقع الشيء الكثير.
يوم القدس العالمي:
وعلى رأس هؤلاء السيد الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) الذي جعل من آخر جمعة من شهر رمضان يوماً مرتبطاً بقضية فلسطين وبيت المقدس.
ونسأل الآن عن موقف علمائنا قبل ومع وبعد السيد الإمام، فنجد أن الموقف كما يلي:
أما على صعيد الفتوى فما انفك علماؤنا وفقهاؤنا يصدرون الفتاوى دعماً للقضية الكبرى، والقضية الأم، وهي أن تعود فلسطين إلى أهلها، وأبرز ما في ذلك قضية القدس، وبيت المقدس وأن يعود إلى أهله المسلمين.
فالسيد الإمام خطا خطوة عملية تطبيقية تمثل إسقاطاً خارجياً أكثر من الفتوى المكتوبة، وذلك عندما استطاع أن ينزل الشعوب إلى الشارع. فمن الطبيعي أن يكون هنالك حصار للفتوى، وإلا فإن الفتوى عند انطلاقتها الأولى اجتاحت العالم الإسلامي من سور الصين إلى تخوم أمريكا. لكن شتات الأمة وضياعها وانحراف البوصلة فيها أوصلنا إلى ما أوصلنا إليه.
مشكلتنا كمسلمين اليوم، وكعرب في دائرة أضيق، وأصحاب مذهب، أننا لا نحاكم الأفكار إنما نحاكم الأشخاص، ولا نرد بالمنطق والعقل وما يقتضيه الدليل إنما الهوى والرغبة وأحياناً يكون الدافع أكثر من ذلك والعياذ بالله. وإلا فإن الفتوى في صالح القضية، وهذا أمر واضح لا يحتاج للاستدلال.
فعندما يخرج العالم الإسلامي في وقفة واحدة في يوم واحد وهو يؤدي صلاته وصيامه في سبيل استرجاع الحق لأهل الحق، ألا ينبغي أن تحنى الرؤوس إجلالاً واحتراماً وشعوراً بروح الانتماء وقيمة الإسلام الكبرى؟
ومما صدر من علمائنا من مواقف مشرفة بحق القدس دفع الحقوق الشرعية، وهو ما أفتى به السيد الإمام الحكيم (قدس سره) للإسهام في تخليص القدس من براثن الصهيونية.
أما الخطاب الديني في المدرسة الإمامية فلا تجد شعراً أسمى وأرقى وأجمل وأنبل وأكفأ مما سطرته أقلام انطلقت من قرائح أتباع هذه المدرسة، ودونكم أعيان الشيعة وما سطر فيه، وشعراء الغري للخاقاني وما ورد فيه، وغير ذلك من الكتب.
آخر جمعة من رمضان يوم عظيم مقدس، نسأل الله تعالى فيه أن يعيد القدس لأهلها كما كانت عزيزة، وأن يكحل نواظرنا بطلعة الباقي من آل محمد وأن يخلص القدس من أسرها، وأن يكتب لنا ولكم السداد والتوفيق، ويغفر ذنوبنا وذنوبكم ويكفر عنا وعنكم سيئاتكم، ويقربنا من محمد وآل محمد ويبعدنا عن أعدائهم. وأن يجعلنا في هذا البلد آمنين مطمئنين مستقرين، ونستشرف عيشاً سعيداً وحياةً كريمة أفضل. وأن يهيئ لولاة الأمر في هذا البلد بطانة صالحة وأن ننتقل من مربع إلى مربع أكثر إشراقاً وسكوناً، وأن يدفع غائلة الأعداء عنا وعن جميع بلاد المسلمين، وأن يحفظ الحوزات العلمية، وأن يبقي المراجع حصناً لنا، وأن يرحم من مضى منا، وأن يشفي مرضانا، وأن يغني فقراءنا ويفرج عن أسرانا ويشفي كل جريح، وأن يفك أسر الأمة، ويعيد لها هويتها، ويحفظ جميع من يمثل وجوداً إنسانياً على وجه الأرض.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.