نص خطبة :الفتنة والامتحان في واقع الأمة (2)
قال الإمام الرضا (ع) لابن شبيب: يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين (ع) حتى تسيل دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنبٍ أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، دقيقاً أو جليلاً. يا بن شبيب، إن سرك أن تكون معنا في الغرف المبنية في الجنة فالعن قتلة الحسين. يابن شبيب، إن سرك أن يكون لك من الأجر مثل ما لمن قتل مع الحسين (ع)، فقل متى ذكرتهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا بن شبيب، إن سرك أن تكون معنا في الرفيق الأعلى، فافرح لفرحنا، واحزن لحزننا، وعليك بولايتنا، فلو أن أحداً أحبَّ حجراً لحُشر معه يوم القيامة» ([2]).
عظم الله أجورنا وأجوركم بسيد الشهداء وأهل بيته وأنصاره الشهداء الأبرار الأوفياء، ورزقنا الله وإياكم شرف الوصول إلى تلك العتبات الطاهرة، وأشركنا الله وإياكم في صالح دعاء وزيارة من كُتب له الوصول، داعين الله تعالى لهم السلامة والعودة إلى أهلهم سالمين.
الفتنة في الشريعة وتاريخ المسلمين:
يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوْا أَنْ يَقُوْلُوْا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْنَ ~وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِيْنَ﴾ ([3]).
وفي الحديث الشريف: «لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تُغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا» ([4]).
كان الحديث في الأسبوع الماضي حول الفتنة، والفتنة هي التي أنهت الأمور إلى ما انتهت إليه في مشاهد ومواقف متعددة. فمن حديث ما جرى على الزهراء (ع) يُعلم ما ابتليت به الأمة من الفتنة التي سقطت في أتونها، إلا ما خرج بالدليل.
ثم استمرت المسيرة في حالة من الهدوء، مع انحدار واضح في السلوك الخاص والعام، حتى آلت الأمور إلى علي (ع) في خلافة ظاهرة، وإلا فإنه الإمام والخليفة، كما نص على ذلك الكتاب المنزل على قلب النبي المرسل محمد (ص).
وقد أراد الإمام علي (ع) أن يغلق مجموعة من الملفات العالقة التي أرهقت كاهل الأمة بعد وفاة النبي (ص) جراء ما تراكم من أحداث، اشتدت تارة وضعفت أخرى، لكن المحصلة أن القافلة لم تكن مندفعة باتجاهها الصحيح. وكانت تلك المحاولة منه (ع) في أن ينهي متعلقات تلك الملفات، قد استوجبت منه أن يدخل بالأمة في امتحان جديد، حيث فتنت الأمة في العدالة الإنسانية العامة التي أرادها عليّ (ع) للإنسانية عامة، لكن الأمة في تلك المرحلة، وبعد ربع قرنٍ من الزمن، لم تشأ لها الأقدار ذلك، وبعبارة أصح، لم تساعد الأمة على رسم معالم قدرها في الاتجاه الصحيح، لذلك رسبت في هذه المرة، وكانت في حال أسوأ مما كانت عليه في مرحلتها الأولى.
فكان في تلك المرحلة حروب ثلاث طاحنة، أكلت جيلاً من الصحابة ممن رأوا وسمعوا وتقلبوا بين يدي النبي (ص) سواء إلى جانب علي (ع) أم في صفوف الناكثين والمارقين والقاسطين، ففي النتيجة أنهم صحابة، سمعوا النبي (ص) وعايشوه، ولكن لكل موقعه، وللتاريخ حكمه، ومن أراد أن يقترب من مساحة هؤلاء لا بد أن يتريث قليلاً قبل إصدار الأحكام، فنحن لا نتفق مع من يقول: إن الصحابة عدول مطلقاً، لأن من تسبب في إراقة قطرة دم من مسلم، لا شك أن مصيره إلى النار، وإن جالس النبي (ص) سنين طويلة وجاهد بين يديه، وأسهم في إحداث حالة من الإنجاز العسكري في واحد من المواقع أو أكثر، فالميزان هو العاقبة والثبات على المبدأ والاستقرار فيه. وحيث إن البوصلة النبوية قد أشارت إلى علي (ع) فحسب، فالحق مع علي يدور معه حيثما دار، والقرآن مع علي يدور معه حيثما دار، بل إنه القرآن الناطق، فإننا لا نتوقف، ولو لحظة واحدة بالجزم أنّ ما قام به علي (ع) وسار عليه آله، هو الحق المطلق، وأن من ناصبه فعليه أن يختار لنفسه حكماً كما اختار المسار الذي أراده.
إن الشريعة تحذر الأمة من غائلة الفتن: ﴿واتَّقُوْا فِتْنَةً لَا تُصِيْبَنَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ ([5]). وهذا ما حصل، فالجرائم التي ارتكبها من ناهض طريق الحق عبر مسيرة التاريخ الطويل، لم تقف ضرائبها المدفوعة على تلك العناصر التي أحدثت ذلك الإرباك، وحدّت من حركة القافلة المتجهة نحو هدفها، إنما كان هنالك تشظٍّ للظلم هنا وهناك، مما استوجب ضرائب باهضة التكاليف، في الأموال والأنفس والأعراض والمبادئ والقيم والتراث والموروث وكل شيء.
يقول رسول الله (ص): «تَعَوَّذُوا بالله من الفتَنِ ما ظهر منها وما بطن» ([6]). فبعض الفتن ظاهر بيّن، كفتنة المال والزوجة والجاه وما أشبه ذلك، على أنها لا تقف عند هذا الحد، فربما كان العلم موضوعاً للفتنة، وكذلك الفتنة في الدين والتوجه لله، وفي التقلبات التي ربما دعا الإنسان إليها الداعي، وهناك الفتنة في لملمة وبعثرة الأوراق في نسيج المجتمع الواحد، والفتنة في القادم إلينا من الثقافة المستوردة التي ربما لا نستشعر خطرها اليوم، وننتظرها في الآتي.
المرأة ميزان الصلاح:
وأود في هذا المقام أن أسلط الضوء على فتنة المرأة. فالمرأة تشكل نصف المجتمع، لكن المسؤوليات المناطة بها أكثر مما كُلف به النصف الأول، كما يحب الرجال أن يوصفوا به، وأنهم أصحاب القيمومة والسيطرة والموقف وكل شيء، فالمنجم الصحيح والمدرسة الأولى هي المرأة، وإذا ما صلحت المرأة صلحت الأمة، فهي منها وإليها، أما إذا فسدت ـ لا سمح الله ولا قدّر ـ فإن الأمة ستضيع شتاتاً، وتتبعثر في أكثر من مكان واتجاه. والنساء المتميزات في التاريخ كُثر، ولكن على رأس الكوكبة النيرة منذ آدم وحواء حتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تقف سيدة النساء من الأولين والآخرين، الشهيدة المظلومة الزهراء بنت النبي محمد (ص) .
إن المرأة تعني ـ فيما تعنيه ـ الأسرة الصالحة المؤمنة الرسالية المتقدمة في مواقعها، والتي تبعث الحياة والحراك في وسط الأجيال المتدافعة جيلاً بعد جيل، ولك أن تنتزع من حياة النبوة ومسار الرسالة خديجة الكبرى، ثم اقرأ ورتب واستنتج، وإذا ما دلفت قليلاً إلى أحضان الإمامة الحقة في علي (ع) فلك أن تتصور لو أنك جرّدت علياً من فاطمة وقرأت المشهد كيف يكون؟ والنتائج إلى أين تنتهي؟
وما نحن فيه اليوم من ذكرى عاشوراء، لو تصورنا أننا جردنا الطف من زينب الكبرى، ماذا يكون المشهد؟ وكيف يكون؟ تلك السيدة الجليلة، التي تشكل المثال الأعلى للعصمة المكتسبة التي لم تجارها فيها امرأة إلا بلطف سماوي خاص، وقد حظيت زينب بلطفين: اللطف اللاهوتي، والنصوص في ذلك كثيرة، واللطف الناسوتي، والنصوص فيه كثيرة أيضاً، بل هي أكثر.
وكفى لزينب مكاناً ومقاماً أنها ما ذكرها معصومٌ إلا وأتبع ذكرها بنعت يدلل على أجواء العظمة فيها، فلو جردت كربلاء من زينب فلا كربلاء، ولو جردت الحسين (ع) من زينب فلا حسين في التاريخ كما هو اليوم، فهي اللولب الذي استطاع أن يخطو بكربلاء هذه الخطوات الشاسعة، فكم هي الثورات التي قامت هنا وهناك من آل الحسن أو الحسين، إلا أنها لم تحظ بنصيب من الخلود والبقاء، لأن زينب لم تكن موجودة فيها، فقد شاطرت الحسين (ع) ثورته في الطف، والحصة التي كانت بيد الحسين (ع) ، وإن نوّرتها الدماء الطاهرة، فهي ليست أثقل في الميزان مما نهضت به السيدة زينب (ع).
وأنتم اليوم تعيشون طفرة إعلامية من نوع خاص، فالإعلام يستطيع أن يشوه الحقائق ويقلبها بكلمة واحدة أو صورة، وقد عملت زينب (ع) على العكس من هذه المناورة المفضوحة المكشوفة، واستطاعت أن تثبت الحق بكلمة الحق، لأنها لم تكن تفرغ إلا عن لسان أبيها أو أمها أو النبي محمد (ص).
أيتها الأخت المؤمنة الرشيدة الرسالية، يا من تَرَين في زينب (ع) قدوة بعد أمها، ويا من حملت الزهراء وزينب شعاراً تتحركين وراءه في كل مساحة تطأينها، وتنصبينها أمامك عند كل هدف تتطلعين إليه، بين يديك أمانة كبرى هي الأسرة فيما تعنيه، بالأبوين إن وجدا، وبالزوج إن وجد، وبالأولاد ذُكراناً وإِناثاً. والمسؤولية في الأسرة ليست مفردة بسيطة يتم تجاوزها بكلمات، إنما تعني البناء، لذا نقرأ في الحديث عن النبي الأعظم (ص) : «ما بُني بناء في الإسلام أحب إلى الله عز وجل من التزويج» ([7]). أي بناء الأسرة وتشكيلها.
فالأسرة تعني ـ فيما تعني ـ المجتمع، والمجتمع يعني الأمة، والأمة إذا كانت تستحق هذا العنوان فهي تعني السعادة المطلقة التي نصبو إليها، بالفعل أو بالقوة، لكننا في مدارجها.
ويأخذنا المجتمع إلى تقسيم لا بد من الإشارة إليه ولو سريعاً، فهو قد يكون صالح البناء والأسس، وهو ما نطمح إليه، فيكون هناك اختيار من الزوج للزوجة، وفق ضوابط شرعية واجتماعية وأسرية، ينظمها القرار المطلق بين الرجل والمرأة، لا الفرض والقسر من قبل الأبوين أو أبناء القبيلة الواحدة.
أيها الأحبة: دعوا الأولاد يحددوا ويختاروا حيث شاؤوا، نعم قدموا لهم النصيحة كما ينبغي، أما أن تلووا أذرعتهم، ويُقسَروا على التزاوج من بنات العم أو الخال أو غيرهما، فهذا ما لم ينزل به الله من سلطان، فإن اختار الرجل من القرابة فنورٌ على نور، وإن لم يشأ فعلينا أن نترك له الخيار، وليتحمل المسؤولية في القادم من الأيام، فهذا عامل مهم في جانب الصلاح.
هذا عن المجتمع الصالح. أما القسم الآخر فهو المجتمع الفاسد القواعد والأساسات، ومن خلال الإشارة للأول يتضح الثاني. فالإيمان مطلوب في تشكيل الأسرة، ولكن لا ينبغي أن نجعل منه الركيزة الأولى والأخيرة، إنما ينبغي أن يصاحبها مجموعة من الركائز التي لا بد أن نلتفت إليها، وأسأل الله تعالى أن تتاح لي الفرصة في يوم ما لأستعرض قسماً منها.
أما القسم الثالث، فهو المجتمع المتأرجح بين هذا وذاك، يأخذه المد والجزر يميناً وشمالاً، بحيث يلبس يوماً لباس التقوى والورع والإيمان والحراك والرسالية والتقدم في مشاريعه العلمية والعملية، ويوماً تكبو به البطنة، فلا تجد بعد إلا بهيمة همُّها علفها، وليس ثمة شيء أكثر من هذا. وهذه الجوانب المتأرجحة تتمثل في ما هو أصيل فيها، أي أنه السبب المباشر، وما هو متفرع على الأصل الأول، ومنها ما هو عامل خارجي، وهذا العامل الأخير، لا يزال يرهق كاهل الأسر، ويعرقل الكثير من مسارها التصحيحي والبنائي.
البناء المتوازن للأسرة:
إننا نطمح أن يسود الموقف البناء المتوازن للأسرة: فعلينا أن نعطي المرأة حقها كما ينبغي في تشكيل أسرتها، صحيح أن السلطة والقوامة بيد الزوج، إلا أن الأب الذي يلبس عباءة الحَجّاج، أو واحد من طغاة العصر، لا يستحق أن يمنح ولاية على نفسه، ناهيك أن تكون على امرأة، ألزمه بها ضابط شرعي، ألا وهو العقد المقدس بينهما، فالرجل الشريف الراشد الكامل الذي يرمي ببصره بعيداً، هو من يشعر بالمسؤوليات المناطة الملقاة على عاتقه، فحيثما قام بها استطاع أن يصل.
وهنالك جماعة أخرى من الصنف اللاأبالي، لا يهمها ما يحصل هنا أو هناك، فهو يتعامل مع الزوجة كواحدة من الحيوانات التي يقتنيها المرء في بيته أو مزرعته، وليس له من هم سوى أن يعمل ويكدح، ويصل ليله بنهاره ليحصل على المال الذي يقتات به، وكأن هذه المرأة في نظره متاع من أمتعة المنزل.
وربما انحطَّ البعض إلى أسفل من ذلك، ولا أريد أن أهيج المواجع، ولا أقض المضاجع، ولا أن أنكأ جراحاً، أو ألامس مساحة ربما لا يرغب البعض أن أقترب منها، وإلا فإن الملف طويل، والقائمة أطول من ذلك بكثير، ولكن علينا أن نعيش النَّصَف من أنفسنا إذا أردنا أن نُنصَف وننصف الآخرين.
ثم إن هناك جماعة أخرى تعيش حالة من عدم الثبات والاستقرار أيضاً، فهي مؤمنة صالحة راشدة في الظاهر، لكنها ليست ثابتة، لذا فإن الإيمان قيد الفتك ـ كما في الحديث الشريف ـ وهذا لا يعني حالة التمكن من العدو فقط، كما حصل لمسلم بن عقيل، فالإيمان قيد الفتك مع النفس، إذ إن المؤمن لا يفتك بنفسه، وقيد الفتك مع الزوجة، فلا يفتك بزوجته، وبين الصديق وصديقه، فلا يفتك الصديق المؤمن بصديقه، ولا يفتك المؤمن بمجتمعه، ولا بأمته.
العنف... أسبابه وآثاره:
علينا أن نقف قليلاً مع هذه النقطة لنسأل أنفسنا: كم يتحرك الإيمان في وجداننا؟ وكم يشكل من قوة الدفع في داخلنا في الاتجاهات عن يمين وشمال؟ والنتيجة أن الطرف السيّئ، أو ما يؤول إلى السيّئ، إذا ما تحرك في داخلنا فإن النتيجة ستكون في غاية الخطورة، إنه العنف بكل أشكاله، ومنه عنف الزوج تجاه الزوجة.
إننا في القرن الحادي والعشرين الميلادي، والخامس عشر الهجري، وتصوروا أن هناك من يصلي ويحافظ على الصلاة، ويحضر في مجالس الحسين (ع) ويبكي فيها، ويلطم صدره وظهره، لكنه لا زال يتعامل بعقلية الجاهلية الأولى مع زوجته، ويتصرف على أساس القواعد الفرعونية مع أبنائه.
والعنف الشخصي قد يكون في الأولاد، وهذه نتائجه التي نراها واضحة بينة.
أيها الأحبة: من يتسبب في إراقة قطرة دم مسلم، في أي زمان أو مكان، يكون مسؤولاً عنها، والأسرة من أهم العوامل الدافعة لذلك. والعنف الشخصي يحتاج إلى كلام طويل عريض.
أما العنف العام، فقد يمارس من السلطة في دوائرها، الصغيرة منها ثم الأكبر فالأكبر، وقد تدفع السلطات في بعض البلدان شعوبها كي تمارس العنف، ولولا وجود الأرضية، وهي نتاج الأسرة، لحصلت الاستجابة.
فعلينا أن نلتفت كثيراً، لأن ملفات المستقبل مليئة بعلامات الاستفهام الكثيرة، والخطوط الحمراء التي ينبغي أن نقف أمامها.
وللعنف في داخل الأسرة عوامل كثيرة، أهمها:
1 ـ غياب السلطة الأبوية:
وهو ما نشتكيه اليوم، وتشيكيه الأمهات في بيوتها مع شديد الأسف، فتجد الأب خارج دائرة المملكة الخاصة له، التي بناها على أساس العقد الشرعي، وتوافق فيها على بناء الجيل.
نقول: حتى مجالس العبادة وتحصيل العلم، لا ينبغي أن تكون على حساب الأسرة، لأن هذا المفصل هو المفصل الخطر، ولا ينبغي للبعض منا أن يتباهى بقضاء الساعات الطويلة من حسينية إلى حسينية، ولا يدري ما يجري في بيته، ولا يعلم أين يذهب أهل ذلك البيت وهو خارج مساحة البيت، والأمر أنكى وأخطر عندما تتخلى المرأة عن مسؤوليتها في كشف الحقيقة للزوج، عن اتجاه الأولاد، لا سيما البنات.
ونحن لا نرغب، ولا نسمح لأحد أن يشكك في بناتنا، وأن يوزع التهم هنا وهناك، فبناتنا تقيات ورعات مؤمنات، لأنهن تربين في بيوت أساسها محمد وآل محمد (ص). ونحن وأنتم من السائرين على نهجهم، والمتمسكين بحجزتهم، فلا ينبغي أن نترك مغمزاً أو مهمزاً أو ملمزاً لأي كان أن يشكك. والأخطر من ذلك أن يصبح خطيب المنبر الحسيني مذياعاً للإشاعات هنا أو هناك، فللمنبر الحسيني رسالة وهدف، لا أنه يتصدى للتشكيك، فإن كان يحمل مسؤولية فعليه أن يلتزم بضوابطها الشرعية. وعندما ينقل لنا شخص ما قضية معينة، فعلينا أن نقول له: هل لديك القدرة على المواجهة؟
إني أجزم أن 99% من القضايا لا أساس لها إلا الاستجابة للشيطان، والرغبة في خلط أوراق المجتمع، وبعثرة الجهود، وتشكيك الأخ في أخيه، والأب في بناته، وهو ما لا نرضاه، فنحن من تلك الحجور التي طابت وطهرت، ومن تلك القواعد والأصول والمناشئ المبادئ والقيم، ومن يحاول أن يثير التشكيك في مسيرة من أجل الوصول إلى ضريح سيد الشهداء (ع) فهو آثم، ومن يحاول أن ينبس ببنت شفة من تشكيك ولو بمفردة في حق امرأة خرجت من بيتها من أجل مجالس العزاء هنا أو هناك فهو آثم، وليست النتيجة في الآخرة فحسب، إنما عليه أن ينتظر عواقبها في الدنيا، ومن كشف ستراً كُشف ستره، والله تعالى سنن القوانين وجعل لها الضوابط، ولا بد من مراعاتها، ففي إجراء بعض الحدود اشترط أربعة شهود، يشاهدون مجتمعين في مكان واحد على كيفية واحدة.
قد يكوّن البعض تصوراً، ويتخذ موقفاً بناءً على اتصال هاتفي من شخص ما خارج دائرة القرابة، والله تعالى يقول: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوْا أَنْ تُصِيْبُوْا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوْا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنْ﴾([8]). فلا بد أن ننظر إلى القائل، ومناشئ ومستوجبات إخباره وأقواله ,فغياب سلطة الأب عن البيت تثير العديد من المشاكل لدينا.
2 ـ التضييق واللصوصية من الأب على الأبناء:
فالبعض يتعامل مع الولد بشكل دائم على أنه متهم، فيما يتعامل الولد مع أقرانه من أبناء الناس بودٍّ ومحبة وصداقة وألفة وقراءة حسنة، لكنه عندما يرجع إلى البيت يجد قائمة من الإشكالات بين يديه، وليس من لغة معه إلا اللغة الصعبة من الضرب والتعنيف، وهناك من المشاكل التي تنقل إلينا ما يعدُّ مصيبة، فنحن نجلس في المجالس، ونستمع بعد يومين لقصة الإمام الحسين الشهيد (ع) وكلنا يعلم ما جرى بعد الشهادة، فأطفال الإمام الحسين (ع) من البنات والصبية الصغار تتقاسمهم حوافر الخيل. تصور أن يأتي أحد الأجلاف الأمويين ليلطم طفلة بعد أن يسلب ما في أذنيها. ويجلس أحدنا في الحسينية ويبكي، ولكن انظروا إلى بعض الأمثلة لدينا من الضرب المماثل، فهناك بنت اختلف أبواها، فراحت الأم تبكي، والبنت في العادة أقرب للأم، وعندما ترى دموع أمها فلا شك أنها تقف إلى جانبها، حقاً كان ذلك أم باطلاً.
تقول إحدى الأخوات: لاذت تلك البنت ببنتي لتشكل حاجزاً ربما يجعل في ذلك الأب المتعجرف رحمة، لكنه رفع يده ولطمها على وجهها حتى احمرت عينها، وحملت للمستشفى، وإذا بالشبكية قد فصلت عن العين، وهو ممن يبكي على زينب وبنات الحسين (ع) .
3ـ تسريب أسرار الأسرة إلى خارج البيت:
أيها الآباء والأمهات، أيها الإخوة والأخوات، ممن تسعون إلى بناء الأسرة وتحافظون عليها: الله الله في أسراركم، لا ينبغي لأسراركم أن تتجاوز غرف النوم، ولو إلى صالة الطعام، فما يخصك مع زوجتك ليكن في حدودكما.
إن البعض ـ مع شديد الأسف ـ عندما يجلس في الجلسات الليلية التي ابتليت بها الأمة ابتلاءً عظيماً، يستدرجه البعض بحكم الصداقة والألفة واقتراب النفس من النفس، فيفضي إليه بما شاء الله من أسرار بيته وما يجري له مع زوجته.
لقد أرسل الله تعالى لكل امرئ ملكين يكتبان ما يعمل، وهذان يعملان بصورة مستقلة عن بعضهما، لا يلتقيان أبداً حتى بعد أن يموت، فيجمعان ملفيهما، ويذهبان إلى الحساب منفصلين، فلا يأتيان سوية، وهذا في كلام أهل البيت (ع) وليس مني. فالله تعالى يستر علينا، وهو يحب الساترين، ويجب أن نكون نحن كذلك، لأن هناك كلمة واحدة أحياناً في كشف سر قد تسلب نعمة، وأهم ضحايا كشف الأسرار العائلية وأبرزها هي الزوجة. بل إن الكثير من قضايا الطلاق تكون المرأة نفسها هي العامل الأساس فيها.
ثم الأطفال، من ضحايا كشف الأسرار، والقائمة تطول لو أردت استعراضها، وكذا الأبوان، فكم من الأبناء يودون التخلص من آبائهم؟ وكأن الآباء ما سهروا ولا تعبوا ولا ربَّوا. وقد يتمنى البعض موت الأب كي يرث منه شيئاً مثلاً.
ومن ضحايا ذلك أيضاً الزوج نفسه، فقد تضطر المرأة للدفاع عن نفسها، وبعضهن تمرن على الألعاب القتالية، وربما تعرض بعض الأزواج لردة فعل غير متوقعة وهو يحاول ضرب زوجته. وقد يكون مستحقاً، لأنه إن تحول إلى وحش كاسر فماذا تفعل المرأة وهي تتعرض للضرب منه؟
وقفة مع العزاء الحسيني:
قال أبو عمارة، قال لي أبو عبد الله (ع): أنشدني للعبدي ([9]) في الحسين بن علي (ع)، قال: فأنشدته فبكى، قال: ثم أنشدته فبكى، قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار([10]). فقال لي: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين شعراً، فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنة([11]).
والعبدي هذا له الكثير من الشعر الشجيّ في الحسين (ع) . ومما يؤسف له أننا إلى الأن ليست لدينا شهادة دكتوراه في شعرائنا، ولا في موروثنا، ولا غيرها من العناوين العديدة. ولا يتعذرْ أحد بأن هذا الرسائل تُقبل أو لا، فالدراسة عن بعد متوفرة اليوم ومفتوحة، وكذلك المناخ اليوم أفضل من السابق بكثير.
وسبب استشهادي بهذه الرواية، أننا اليوم نرى بعض (الرواديد) اليوم غير ما كان عليه الجيل السابق، سواء في سمتهم أم أدائهم أم طريقتهم أم غير ذلك، وهذه ثقافة اليوم، ولا بد أن نتعامل مع ثقافة اليوم بالتي هي أحسن.