نص خطبة: العيد وتأصيل المبادئ والقيم

نص خطبة: العيد وتأصيل المبادئ والقيم

عدد الزوار: 486

2017-10-08

الجمعة 1438/12/10هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

غفر الله لنا ولكم وأسعد الله أيامنا وأيامكم بمناسبة العيد الكبير العظيم الأضحى، أعاده الله علينا وعليكم.

اللهم أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل التقوى والمغفرة، وأهل العفو والرحمة، أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً، ولمحمد وآل محمد شرفاً وكرامة ومزيداً، أن تصلي على محمد وآل محمد، كأفضل ما صليت على أحد من عبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين. اللهم أدخلنا في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد، وأخرجنا من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد. اللهم إنا نسألك خير ما سألك به عبادك الصالحون، ونستعيذ بك مما استعاذ منه عبادك المخلصون. صلواتك عليه وعليهم.               

الفرح في يوم العيد:

قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قَالَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُوْنُ لَنَا عِيْدَاً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِيْنَ﴾([2]).

العيد كل يوم فيه جمع، وهو مشتق من العَوْد، أي كأن الجمع عادوا إليه. وقيل: بل هو مشتق من العادة، لأنهم اعتادوا عليه أو اعتادهم.

وفي الحديث الشريف عنه (ص) أنه قال لأحد أصحابه: «إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم»([3]). ومن المعلوم أيها الأحبة أن للعيد مراسمه، وهي كثيرة، حثت الشريعة عليها ودفعت باتجاهها، ووعدت عليها ثواباً عظيماً، وأثراً اجتماعياً كبيراً. ابتداءً بالصلاة على محمد وآل محمد، مروراً بصلاة العيد، ثم المحطات الكثيرة، ليختم العمل بعد ذلك بالصدقة. فالفرح حق مشروع للجميع، ومن يصادر الفرح ويسرق البسمات يعد جانياً على مستحقات الآخرين، فمن الجميل أن يتحرك الإنسان باحثاً عن إشاعة أجواء الفرحة ورسم الابتسامات في أكثر من مكان ومكان، كي يكون ممن استجاب لدعوة الحق، وممن فعّل تلك الدعوة في الواقع من حوله.

فالنبي الأعظم محمد (ص) يقول: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة»([4])، فربما يبخل الإنسان في أن يتصدق بشيء من ماله مهما كان بسيطاً،  ولكن لا يسعه أن يبخل بابتسامة يرسمها في وجه أقرب الناس إليه، كالأبوين والزوجة والأبناء، ثم يتسع معها متى ما تدرب عليها كطقس يومي، دفعت الشريعة باتجاهه وحفزت عليه، وعكس ذلك تماماً عندما لا يكون الإنسان في هذا الاتجاه، فما عسى أن تكون الأمور؟ إذ يستبدل بالابتسامة العبوس، وبطلاقة الوجه وجهاً مكفهراً، فما عسى أن تكون الأمور في بيته ودائرة عمله وأصحابه في مساحات الفرح العام والخاص، والمسارات الاجتماعية الواسعة التي لا بد منها؟ وطيف يكون التلاقح مع الأمم والشعوب في مساحات شاسعة؟ إن ذلك لا يتأتى إلا لأصحاب الهمم الرفيعة والنفوس التي لا تقرأ في المشهد إلا صورة الجمال.

وعن النبي محمد (ص) أنه قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ومن المعروف أن  تلقى أخاك بوجه طلق وبشر حسن»([5]). إلا أن البعض مع شديد الأسف يبخل حتى بالابتسامة وطلاقة الوجه، وكأنه يخشى على خلايا وجهه. مع أن ما يستهلكه الإنسان في مساحة تعبيس الوجه أضعاف أضعاف ما يستهلكه في طلاقة الوجه وتركه على طبيعته.  وشتان بين ما وُظفت له هذه وتلك.

صلة الرحم:

ومن الأمور التي يقف بنا الشارع عندها طويلاً صلة الرحم، ولعلّي أركز على هذا الجانب قليلاً، لأنه بات أمراً ملحاً، ففي الزمن السابق كانت القطيعة تحصل بين الدول وفق المصالح والمكتسبات، ثم أخذت الدائرة تبحث عن مساحات تتنقل فيها، وضاقت الدوائر، فصار الإقليم من الدولة الواحدة لا يطيق الإقليم الآخر في الدولة نفسها لأسباب كثيرة، كالأمن والسياسة والاقتصاد والمال، أو العامل الأخطر، وهو النفس الأمارة بالسوء والعياذ بالله.

ثم ضاقت هذه الدائرة على نفسها حتى في الإقليم الواحد، فصارت المدينة الواحدة في الإقليم نفسه لا تستوعب المدينة الأخرى، إنما تريد أن تتطور وتتقدم على حسابها.

ثم ضاقت الدائرة أكثر، فأصبحت الأحياء في كل مدينة وقرية تعيش تلك الحالة. وما مرت الأيام حتى حصل الأمر في القبيلة الواحدة، ثم ازداد الأمر سوءاً حتى صار في العائلة الواحدة، كلٌّ يريد أن يحذف الآخر ليصل على أكتافه إلى أهدافه. ثم ضاقت وضاقت حتى دخلت البيت الواحد، فصار الأب يمثل قطباً، والأم تمثل قطباً آخر، وإذا ما دخل عنصر جديد، وهو من مكون الأسرة بطبيعة الحال، كالزوجة الثانية مثلاً، فحدّث ولا حرج، فمع من يصطفّ الأولاد؟ هل يصطفون مع الأم؟ أم الأب؟ أم الزوجة الثانية؟ وعلى هذه فقس ما سواها. حتى يصل الأمر إلى أن أحد الأبوين لا يكلّم الآخر إلا على نحو الندية، لا على نحو المحبة والشراكة والتعاون، إنما على نحو ما له وما لها، وما عليه وما عليها، حتى غاب نسيج الرحمة والمحبة والعطف والسلام والحنان في داخل البيت الواحد. لذا لا تستغرب مما نراه هنا أو هناك من عدم الانسجام، لأن الأمور تستصحب نفسها كما هو واضح.

إن صلة الأرحام من أصدق المظاهر التي أراد لها الشارع المقدس أن تكون حاكمة على مشهد العيد، فحث عليها وانتدب، وشدد في حتمية القيام بها، لا لشيء إلا لأنها تمثل الأرضية الصحيحة السلمية التي يمكن أن يبنى عليها البناء، أما إذا انهار هذا البعد، وأصبحت القاعدة مهزوزة، فمن الطبيعي أن يتداعى ذلك البناء، وإذا ما قُدر له الارتفاع فسيكون ارتفاعه أساس خاطئ.

والقرآن الكريم يؤسس لهذه القاعدة والمفهوم الإسلامي الكبير، فيقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوْا اللهَ الّذِي تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾([6]). فنحن مسؤولون عن التقوى وصلة الرحم، وأوسع الأبواب في التقوى هي صلة الأرحام، وليس بالضرورة أن تكون صلة الرحم بالتزاور حصراً، ولا بالعطاء تحديداً، إنما هنالك الكثير من الممارسات التي تندرج تحت هذا العنوان، لكننا للأسف بتنا نتقي شر أقرب القرابة إلينا في مجتمعنا هذا، وهي مصيبة كبيرة، إذا حكمت المشهد ذهبنا أدراج الرياح.

يقول النبي الأعظم محمد (ص): «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه»([7]). أي أنه ربط الإيمان بالله واليوم الآخر، وأوقفه على صلة الرحم. وبمفهوم المخالفة يتضح أن من يقطع رحمه فلا إيمان له لا بالله ولا باليوم الآخر، وكم هي الخسارة كبيرة في قطع الرحم؟ وكيف الحال بمن يعمل على تمزيق الصف وفري الأبدان؟

ثم إنه من السهل على المرء أن يتلمس النتائج السلبية لقطع الأرحام في المجتمعات التي لا تبني مسيرتها على أساس هذا المفهوم في شرق الأرض وغربها. فكيف باتت أحوال هؤلاء وأوضاع معيشتهم؟ هل إنهم يعيشون السعادة الحقيقية التي مرتكزها ومحورها البعد المعنوي؟ نعم، هنالك مظاهر مادية، نقرأ من خلالها المشهد ونستكشف عوامل السعادة، لكن هذا هو الظاهر.

وبمثال بسيط نقول: لو أن أحداً لم يستحمّ ولم يغتسل لأيام، لكنه لبس أجمل الملابس وأكثرها جدّةً، فما عساك أن تحكم عليه؟ هل من خلال القالب الظاهري في الثوب واللباس؟ صحيح أنك تحكم عليه من خلال الظاهر، إلا أنه عندما يدنو منك للسلام عليك تتكشف الكثير من الأمور. فالحال مع المجتمعات التي لا تفعّل هذا المفهوم المقدس بهذه المثابة، غاية ما في الأمر أن الأمور المادية سهلة التلمس والوقوف عليها، أما الأمور المعنوية فمن الصعب استكشافها، لأنها تحتاج إلى إعمال عقل وصفاء روح وتوجه، على العكس من ذلك في الأمر المادي الحسي، فإنه يتأتى حتى للبهائم، التي تستطيع التمييز الحسي بسهولة، ودونكم حظائر البهائم، أو الأفلام التي تعنى بحياة الحيوان، بل أحياناً يكون الحيوان في هذا المجال متقدماً على بعض أبناء البشر مع شديد الأسف.

في الحديث الشريف عن النبي (ص) في قطيعة الرحم وما هو المترتب في عالم الآخرة: «ثلاثة لا يدخلون الجنة([8]): مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم»([9]).

وإدمان السحر أيضاً من الموبقات التي نراها اليوم، فكلما حصل لأحدهم أمر، أو تغير مزاج فلان أو فلانة، قيل له: اذهب إلى فلان، أو شيخ فلان، ممن هو خبير في هذا الشأن. وبذلك يخدعون الناس، ويدمرون بيوتهم، وقد يعتدون على أعراضهم أحياناً، لأن باب التوكل على الله تعالى قد أُغلق من قبل هؤلاء، وضُيقت مساحته، بل إن الإيمان الصادق بالله سبحانه وتعالى قل منسوبه، وهي مصيبة وكارثة، فكم من العوائل تفككت، والبيوتات دُمرت، والمجتمعات ألغيت والدول غابت بسبب هذا التخلف والابتعاد عن مساحة الله والتقرب من مساحة الشيطان. وهؤلاء من أبناء الشياطين، أياً كانوا، ومن أي فرقة أو مذهب أو دين خرجوا. فما دام يسلك هذا السبيل فهو من أبناء الشياطين، والروايات حذرت ممن يسير في هذا الاتجاه، والفتاوى في الرسائل العملية حَرمت. وما يحصل في هذا الجانب إنما هو حرق للنفوس والبيت بالمال، أي أن الواحد منهم يحرق نفسه بأمواله. وهذا ممن لا يذوق طعم الجنة.

وعن النبي الأعظم (ص) أن رجلاً قال له: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعون، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، قال (ص): «لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم الـمَل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»([10]). ومعنى تسفهم المل: تطعمهم الرماد الحار.

 فلسان حال هذا الرجل أنه يقول: إنني أصلهم، وأكون سلّماً لهم ليبلغوا أهدافهم وغاياتهم، وأتنازل عن مصالحي ومكاسبي في سبيلهم، إلا أنهم يقطعونني، وهذا لسان حال الكثير منا اليوم. يقول الشاعر:

وإن الذي بيني وبين أبي   وبين بني عمي لمختلف جداً

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم  وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً

هذا هو منطق الوعي والدين والعقل، وخلاف ذلك منطق الجهل والشيطان، فتراه بقدر ما تمد له يدك يقطعها، وبقدر ما تنفتح عليه روحياً يرميك بالشرر، ويتعقب من ورائك الأثر.

هذا الحال في زمن النبي (ص) والأئمة (ع) وفي كل حين، فالمشكلة ليست في النبي (ص) ولا في غيره، إنما هي في المجتمع من حول النبي (ص) وهنالك العديد من الآيات في القرآن الكريم تبين أن المجتمع في زمن النبي (ص) لم يكن بدرجة عالية من التكافؤ ووضع الرسالة، وإلا لما كان المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمخلفون من الأعراب وغير ذلك ممن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وممن قالوا عن النبي (ص): هو أذن، وهلم جرا، حتى وصلوا إلى بيت النبي (ص) فاتهموه في بيته. وهؤلاء لم يأتوا من خارج دائرة الإسلام، إنما كانوا من المسلمين ومن الصحابة، ومع الأسف إلى يومنا هذا نرى بعض القنوات المحسوبة علينا تنال من النبي (ص).

من هنا كان جواب النبي (ص) للرجل: أنك إن كنت على ذلك كما تقول، فكأنك تطعم هؤلاء الرماد الحار، وهذا ما نلمسه نحن اليوم، فأنت عندما تبادر بالسلام على البعض ممن يسعى في مقاطعتك فكأنك تطعمه رماداً حاراً مما انطوت عليه نفسه، ولا تتصور أنك تعاقبه بعدم السلام عليه، فالعكس هو العقوبة، فإن هو أدبر فأقبل، وإن هو قطع فصله، وإذا اكفهرّ فابتسم، وإذا انطوى على نفسه فانفتح، وإذا جلس في بيته فتحرك في أوساط المجتمع، فهي هديته لك. فعلينا أن نتحرك بهذه الروحية.

بعض أسباب السلوكيات الشاذة:  

ثم إن لهذه المقاطعة والسلوكيات الشاذة لها أسباب عديدة، أذكرها على نحو الفهرسة:

1 ـ الماضي السيئ: فالبعض لديه عقد من الماضي لا يريد التخلص منها، فيخرج من سيئ ليقع في أسوأ.

2 ـ الحاضر الملغوم: فهنالك من يخرج من دائرة الماضي السيئ فيقع في الحاضر الملغوم، سواء كان ملغوماً مادياً أم نفسياً ومعنوياً وروحياً.

3 ـ المستقبل المخيف: فالبعض يعوزه التوكل على الله تعالى، لأن المؤمن المتوكل على الله تعالى لا يخشى شيئاً، ولا يعنيه من عواقب الأمور سوى رضا الله تعالى.

4 ـ دائرة المحيط: فالإنسان قد يكون بطبيعته مبتسماً منفتحاً، إلا أنه عندما يجلس مع اثنين أو ثلاثة من المعقدين، يسلك طريقتهم ويتأثر بسلوكهم، فينعكس ذلك على الأسرة والأبناء جميعاً، وعلى الطلاب في المدارس وما إلى ذلك من أبناء المجتمع. لا سيما إذا كان التأثر في المراحل الأولى من حياة الطفل، فيكون الضرر كبيراً، والشاعر يقول:

إن الغصون إذا قومتها اعتدلت     ولا تلين إذا صارت من الخشب

5 ـ تعطيل العقل: وهذه كارثة الشعوب اليوم، فهنالك من يسمع كلام الله في كتابه فيقول: إنني لا أستطيع الهروب من الواقع! فيتجاوز كلام الله وكلام النبي (ص) وسيرة أهل البيت (ع) والصحابة المنتجبين، وفتاوى المراجع ويلجأ إلى قناعته الخاصة.

نسأل الله تعالى أن يعيد العيد علينا وعليكم، وحال الأمة في أحسن مما هي عليه، وأن يجعلنا آمنين مطمئنين في هذا البلد، وأن يحفظ جميع بلاد المسلمين وأن يحفظ الحجاج ويعيدهم إلى أهلهم سالمين غانمين، وأن يجزي فاعلي الخير بالخير، وأن يحفظ زوار الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) وأن يعيدهم إلى أهلهم سالمين، وأن يشركنا في صالح أعمال هؤلاء جميعاً من المؤمنين والمؤمنات، وأن يُخرج البشرية مما هي فيه من ضياع وشتات وحروب ودمار، وأن يشرفنا بالنظر إلى طلعة الخلف الباقي من آل محمد.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.