نص خطبة: العوامل المقيدة لحركة العقل الفاعل (1)

نص خطبة: العوامل المقيدة لحركة العقل الفاعل (1)

عدد الزوار: 742

2012-11-03

 

العقل أصل التعبد:    

قال النبي الأعظم (ص) لمولانا علي (ع): « يا علي، إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأبواب البر، فتقرب أنت بعقلك »([2]).

للعقل قيمة كبرى، إذا ما وجهه الإنسان باتجاهه الصحيح، وبالعقل يمكن أن يتخطى المرء الكثير من العقبات المصطنعة أمام طريق العدالة العامة على وجه الأرض.

وأول ما خوطب العقل، وهو الذي قيل له: أقبل فأقبل، ثم قيل له: أدبر فأدبر، فقال له المولى عز وجل: بك أثيب، وبك أعاقب ([3]).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً، ففي كتاب الكافي للثقة الثبت الكليني (قدس سره الشريف) بابٌ ولواحق تعنى بهذا الجانب.

وأنت إن وجدت خللاً في مسيرة أو خطاب أو نظم من نظم الحياة، كالسياسة والاقتصاد والنفس والتربية والاجتماع والعسكرية والرياضة وغير ذلك، فلا تبحث كثيراً عن السبب الكامن وراء ذلك، فإن الطريق قصير، والبوصلة موجهة، والواقع يفرض نفسه، فالعقل لم يوظف كما ينبغي.

في القرآن الكريم آيات كثيرة سلطت الضوء على ما للعقل من أهمية، بل جعلت الفهم الصحيح للنص النازل موقوفاً على العقل.

موقع العقل في حوزة قم:

والعقل كباقي القوى الكامنة في الإنسان، تشتد وتضعف، ولها روافدها، ويتصحّر العقل بقطع تلك الروافد عن المصب، وتتحول البحيرة إلى غدير، ومن غدير إلى مستنقع، ومن مستنقع إلى وحل. وهذا في أمور مادية ظاهرة يستطيع الجميع أن يضع يده عليها. أما في الجوانب المعنوية المعرفية والعبادية والسلوكية وما إلى ذلك، فالمثال المتقدم يقرب لنا واقع الحال فيها، غاية ما في الأمر أنها تحتاج إلى إعمال نظر ودقة وتفحص.

إن عقول الناس متباينة فيما بينهم، والحكيم هو من يتعرف على هذا المركز المهم والجهاز الحساس في داخله، ليحدد بعد ذلك وجهته كي يقتنص ما يمكن أن يقتنص.

والحوزة العلمية في قم المقدسة من الحوزات التي أعطت للعقل قيمته، وحررته من مجموعة من القيود، فترتب على ذلك حالة من التنوير والحراك والاستشراف. كثير من المراكز العلمية تضع لها خطط عمل، ولكن تقيد تلك الخطة العملية بمجموعة من القيود، فما تلبث تلك الخطة أن تصاب بالعطب جراء ثقل القيود من حول تلك الخطة.

وللعقل في حوزة قم المقدسة خيار ومساحة كبيرة، يستطيع من خلالها أن يحلق في أي فنٍّ من فنون المعرفة، ولا أقول: دون حسيب أو رقيب، لأن الخطوط الحمر عليها حراسها، ولكن كثيراً ما نتقيد نحن بما هو دون الخطوط الحمر، مما يتسبب في أننا لا نصل إلى نتيجة، ولا نتقدم جراء ما يدفعنا العقل باتجاهه.

إن قيمة العقل في تلك المدرسة الكبرى العريقة، تتجلى من خلال إلغاء تلك القيود التي تحدد من حركته، لذا فإن المشارب العقلية والنتاج العقلي في قم لا ينكره إلا المنكر للبديهي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن هذا العطاء والنتاج الضخم جداً، لا سيما فيما يبتني في سيره الإنتاجي على الخطوط العقلية، لم يكن مستنداً إلى العقل الذي أزيلت عنه القيود، ولا ينكر ذلك إلا المكابر. والسبب في ذلك أن هناك عوامل كثيرة اشتركت فيما بينها، منها أن مجموعة من العقول المتفتحة المتنورة المصطفاة شخصت أن من الصالح أن تلج حياض الحوزة، وترفع من قيمتها العلمية من باب المسؤولية، ويقف على رأس الهرم هنا نخبة من المجتهدين والفلاسفة وأرباب الكلام، لذا تتعدد الوجوه، لكنها تلتقي في نهاية المطاف على صعيد واحد.

العقل مصدر هام من مصادر التشريع، ومكون أساس في حركة الاجتهاد، وهذا مما اتفق عليه، ودوره في الاستنباطات الشرعية للأحكام التي أرادها الله تعالى أن تسيِّر مسيرة البشر في اتجاهها الصحيح، واضحٌ وبيّن.

خطورة القيود المكبلة:

والقيود التي تكبل حركة العقل وتحددها كثيرة، نستعرض بعضها لنستجلي مدى خطورتها لو بقينا مرهونين لأسرها، بل إن الإرباك في بعض زوايا المجتمع اليوم ـ وهو المجتمع الخير الطيب الذي يتطلع للأفضل ـ إنما هو لكون الإنسان لا يريد أن يتفلّت من القيود من حوله. فلو كنا نشعر ونتلمس مرارة ما يجري، وخطورة ما سوف ننتهي إليه، فمن الطبيعي والأولى أن يكون المجتمع الحوزوي هو الأكثر التفاتاً إلى ذلك، لأن مصدر الكثير من الإشكاليات في داخل المجتمع مآله ومردّه إلى الحوزات العلمية، لا سيما في الجانب الذي يحمل صفة فكرية.

وليست الإشكالية في أن تطفو على السطح مجموعة من المشاكل، أو الرواسب، فتلك حالة طبيعية، لكن الإشكالية أن توظَّف هذه المجموعة من الرواسب في غير الصالح، بمعنى أنها لا يسلَّط عليها قلم الانتقاد البناء، إنما يسلط قلم التجريح والهدم، وكلنا يعلم ويعرف ما هي الخسائر التي سوف تترتب على هذا اللون من ألوان الانتقاد، وهو أن نغادر مساحة الفكر لنتشبث بشخصنة القضايا والنظريات والأحداث، فالمفترَض أن نتوجه للفاعل في حال، ولكن علينا أيضاً أن نلتفت إلى ما هو الفعل الصادر، لأنه حريٌّ بالدرجة الأولى أن يغربَل، نعم، قد تكون أحياناً نياتٌ مبيتة لبعض الأشخاص، وهذا أمر طبيعي، بل إننا عندما نراجع الموروث الديني نجد أن هذا الأمر واضح، ولا يمكن أن ينكر، وقد شخصه أهل البيت (ع) ابتداءً، ووضعوا حلولاً، كان بعضها في منتهى القسوة، لأن الحدث يستوجب أن يكون التصرف بهذه المثابة، كاللعن الذي صدر عن أكثر من معصوم من مدرسة أهل بيت النبوة (ع) .

أبرز القيود المكبلة لحركة العقل:

الأول: الاصطدام بالمدارس المناهضة لحركة العقل، وهذه ليست وليدة الساعة، وليست مصنوعاً ومنتجاً جديداً، إنما هي منذ يوم نشأة المعارف على وجه الأرض، وكثيراً ما يعترض أصحابَ الفكر النير هذا اللون، وهو الفكر المناهض. وفي الأعم الأغلب، يتم تبني الفكر المناهض من قبل الحكومات، وهي التي تفرض سيطرةً وتوجيهاً لهذا اللون من ألوان القيود، وفي الجانب الإمامي ظهرت مجموعة من المدارس، وفي الجانب السني كذلك، ظهرت مجموعة أخرى من المدارس المناهضة لحركة العقل، فكانت مدرسة الأشاعرة ومدرسة الحديث عند العامة خير دليل على ذلك، لأنها اصطدمت مع العقل، وتم التخلص من الكثير من القمم والرموز بناءً على وجود هذا التوجه والحراك المناهض.

وهناك نظائر لذلك في أتباع مدرسة أهل البيت (ع) حيث تعرضوا للكثير من الوقفات والهزات بسبب التصاعد في المد الإخباري في مرحلة من مراحل السير الزمني، فهؤلاء شكلوا خطراً كبيراً، في مرحلة من المراحل، على نمو وتطور النتاج الفكري عند أصحاب مدرسة أهل البيت (ع) حيث ألغوا العقل في استنباطات النصوص الإلهية، فالقرآن في نظرهم لا يفهمه إلا من خوطب به، وروايات أهل البيت (ع) لأنها صدرت من مصدر الكمال فلا يعرفها إلا من هو مثلهم، ولسنا مثلهم، وبناء على هذا فإننا لا نستطيع أن نفهم ما جاء عن أهل البيت (ع) ناهيك عما جاء في كتاب الله تعالى، وفي هذا تسطيح بيّن، وإلغاء مباشر ومكشوف ومفضوح للنصوص القرآنية والنصوص الحديثية الصادرة عن محمد وآل بيت محمد (ص).

يقول النبي الأعظم (ص) : «إنما يُدرَك الخيرُ كلُّه بالعقل، ولا دينَ لمن لا عقلَ له» ([4]). ويقول (ص): «أفضل الناس أعقل الناس» ([5]). فالعقل يحمل خصوصية حتى على صعيد التمايز بين الأفراد، ناهيك عن أن يكون شريكاً في إثراء الحضارة الإنسانية.

الثاني: التقليد، لا على إطلاقه، إنما هو التقليد الأعمى. وهذا النوع من التقليد، لم يكن ليبحث له عن موقع في الفترات المتأخرة، إنما ساير الركب البشري منذ اليوم الأول، والقرآن يتلو علينا نصوصاً في هذا الباب، من قبيل قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُوْنَ ([6]). فالقرآن الكريم يصرح أن هنالك معارضة لما جاء به النبي (ص) وإن كان في منتهى معطيات العقل ومسلّماته، إلا أن الجماعة المناهضة رضيت بما هو موروث من الآباء. ولولا خشية الإطالة، وأن المقام لا يساعد على ذلك، لحاولنا أن نبسط البحث في موضوع مهم في هذا المجال، وهو المقارنة في مميزات العقل العربي قبل الإسلام وبعده، ولوضعنا اليد على مجموعة من المؤامرات التي حيكت لمصادرة العقل العربي، ومع شديد الأسف، لا زال الكثير منا يردد تلك النصوص التي وصلتنا عبر التاريخ، والتي كُتب الكثير منها بأقلام مشبوهة، ولا زلنا نرددها إلى يومنا هذا. حتى أنني في تصفحي لمجموعة من رسائل الدراسات العليا للبعض كالدكتوراه، وجدت أنهم يحملون هذا النَّفَس ويرددونه، ويثبتون نصوصاً، وبظني أنهم لا يفقهون ما وراء ذلك النص، وإلا فإن من يفقه ما وراء النص أو ما في النص، لا يجد مبرراً ليثبته داعماً لقضية يتبناها، في حال أن العوامل التي أوصلت إلى هذه النتيجة يفترض أن تكون واضحة، وبدرجة كبيرة من البيان.

فالتقليد واحد من العوامل المهمة والخطيرة الفاعلة، وإذا سيطر على حركة العقل ألغيت الحرية في وسط الأمة، وبيعت الكرامة، فلا تجد موقعاً مهاناً يعيش حالة من الذل والضياع والشتات والمصادرة لأبسط القيم، إلا والتبعية العمياء هي العامل وراء ذلك الوضع، وهي التي تؤسس له وتأخذ به إلى نهاية المطاف.

والأنبياء والرسل جميعاً، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى نبينا الأكرم (ص) خاطبوا العقول البشرية، وعلينا أيضاً كأناسٍ قدّمَنا المجتمع أن نعتلي منصاتٍ أو منابرَ أو نمسك بأقلام، أن نبتعد عن مخاطبة مساحة الوجدان الفكري، إلى مخاطبة العقل والإدراك عند شرائح المجتمع، لأنه من الظلم الفاحش أن نتعامل مع مجتمع اليوم بذات الموازين والمقاييس التي كان يتم التعامل على أساسها مع شرائح المجتمع، اللهم إلا إذا قال البعض: إني لا أجد فرقاً بين جيل اليوم وجيل الماضي، وفي هذا إنكار واضح للواقع وتجنٍّ عليه.

 

التقليد الممدوح:

وهناك شبهة قد تطرأ في ذهن بعضنا فيقول: إذا كنتم تقولون كذلك، وتشنون هذا الهجوم العنيف على التقليد، فها نحن نجد أن الرسائل العملية تُصدَّر بباب الاجتهاد والتقليد، ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من الناس لا تستطيع أن تستنبط الحكم من دليله، بمعنى رد الفرع للأصل، وبالتالي هناك دعوة صريحة بالقول أو الفعل أو اللازم، إلى (تدجين) ذهنية الناس، وإسقاط الأمة رهينة للتقليد.

للإجابة عن ذلك نقول: بغض النظر عن وجود النص في هذا المجال، والنصوص كثيرة، ـ وإن كانت هنالك إشكالية فهي في التعاطي معها لا في وجودها وعدمه ـ إلا أن العقل يدفع بهذا الاتجاه. يقول الشهيد المطهري: وأما الرجوع إلى العلماء في أخذ الأحكام منهم فهو ليس من التقليد الأعمى، إنما هو من التعليم، فإن أمكنه الوصول إلى استنباط الحكم الشرعي فهو محرك ودافع.

من هنا نرى أن السيد الإمام (قدس سره) يذهب إلى أن الاجتهاد يُفترض أن يكون فرض عين على كل مكلف، لولا لازمه، وهو تعطيل مصالح العباد. فهو يرى أن التقليد مرتبة ثانية، والاحتياط مرتبة ثالثة، والأساس هو أن يكون كل مسلم قادراً على استنباط الحكم الشرعي من مظانه، ولكن لأن ذلك يتسبب في تعطيل مصالح العباد، فلا يستطيع الموظف في الدائرة أو الطبيب في المستشفى أو غير هؤلاء، أن يوفقوا بين أعمالهم وتحصيل الاجتهاد، لذا فإنه يصبح واجباً كفائياً من هذه الجهة، فإن نهض به جماعة سقط عن الباقين.

الثالث: العادات الاجتماعية القاهرة، فهي واحدة من أهم العوامل التي تسقط العقل في حركته، وتجمد ما يمكن أن يقوم به من حراك فكري وتنظيري. فلو أراد العالم المفكر أن يتحرك بعقله ليصل إلى نتيجة فعليه أن يتحرر من هذا القيد، ولا أعني بذلك الانفلات بقدر ما أريد من ذلك الوسطية، فلا أريد أن أربك النظم الاجتماعي فيما بيننا، ذلك النظم الذي تسوده المحبة والوئام والتعاون والاحترام، ولكن لا نقبل أن يكون العقل مجمداً مسطحاً لا حركة له، من أجل أن نرضي طرفاً أو جماعةً، أو نقبل بواقع يراد له أن يفرض علينا، ونقول: إن الله تعالى أكرمنا بهذه النعمة، وجعلها مطلقة سيالة، وعلينا أن نتحرك معها في سيلانها، وأن نصل من ورائها إلى ما نريد. فتحرير المرء نفسه من أسر العادات القاهرة مطلب مهم يرشد إليه العقل قبل كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يقول: إن كل الممارسات والعادات الموجودة في المجتمع صحيحة ومستقيمة وفي خدمة الإنسان، بل إن هنالك مجموعة من تلك العادات بين الناس يراد لها تدعيم موقعها لتضاف إلى الدين، وأن تُربَط بالحكم الشرعي والتكليف، مع أنها أجنبية. وحتى مع فرض وجود تماس بينها وبين الدين ـ ولو في مساحة ضيقة جداً ـ تجد أن مجموعة من الأحكام تُستنبط لها من خلال أناس اصطدموا بواقع تلك المسألة، وهم لا يمتلكون آلية الاستنباط، فراحوا يُشبعون الموضوع بالحكم الذي يتبع الحكم الآخر، بحيث تتحول العادة إلى أصل من أصول ديننا والعياذ بالله، فما إن يقترب المرء منها حتى يخرج من المذهب ثم من الدين برمته.

فمن الأمثلة على ذلك ـ وهو أمر لا نختلف عليه، بل نحافظ عليه بقوة ـ أن للمرجعية في وسط الطائفة حرمةً ومكانةً ومقاماً لا بد أن نحافظ عليه ولا نقبل المساس به على نحو التسقيط أو المحاربة أو التقليل أو الإنزال من موقع الهرمية، ولكن هذا لا يعني أننا نسلم تسليماً مطلقاً لكل ما يصدر من جانب المرجعيات، فهي ليست معصومة، وقد يصدر منها ما لا يَحسن أن يصدر.

والأكثر من ذلك أن الحاكم والولي الفقيه إذا حكم بقضية ما ـ وهو أمرٌ أكثر إلزاماً من بيان الحكم الشرعي والفتوى، كالتكليف بأحكام الطهارة والصلاة والصيام وغيرها ـ فهذا لا يعني أننا نسلّم تسليماً مطلقاً لحكمه، إنما نرجع إلى مقدمات ذلك الحكم، فإن كانت تامة التزمنا بها، وإلا فإن الفقيه لا يستطيع أن يلزمنا بحكمٍ ما، كما هو الحال في الإمام المهدي (ع) أو واحد من آل بيت العصمة والنبوة (ع)، فهذا مما لا يقول به أحد، ومن أراد بياناً لذلك فليراجع مسألة ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، وسوف يجد أن هذه المسألة من الأمور الواضحة البينة التي لا ينبغي أن يزايد عليها أحد حتى يجعل من نفسه ولياً مرشداً على الأمة. فليس من أحد اليوم مأسوراً لأحد، إنما يستطيع أن يقرأ ويتتبع ويتحرك ويصل إلى نتائج.

فتحرير النفس من هذا القيد أمر مهم جداً، وإلا فإن الحال قد يصل بنا إلى أمور غير محمودة العواقب.

فعلى سبيل الفرض لو أن أحداً نقل رأياً ونظراً لفقيهٍ ما في قضية من القضايا، لكن شخصاً آخر رأى أن هذا الرأي والنظر غير تام المقدمات، لا من باب التهوين ولا الإساءة، فليس من اللائق أن يسلق بألسنة حداد.

لو قلنا مثلاً: إن فلاناً من الفقهاء أعلم، فهذا يعني وجود غير الأعلم، لكن استنباطات غير الأعلم حجةٌ فيما بينه وبين الله، بل إن الأعلم إنما هو أعلم عند الغير، وليس عند غير الأعلم، فغير الأعلم يرى نفسه هو الأعلم أيضاً، أو على الأقل أنه مساوٍ للأعلم، فلا يستطيع الأعلم أن يلزمه بالقول بأعلميته.

ولا بد من الالتفات إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن مرجع التقليد الذي يرى أنه الأعلم، لا يقول: أنا الأعلم، إنما يشهد له بذلك أصحاب الخبرة، أما المرجع نفسه فلا يقول ذلك، مع أنه بينه وبين الله يعتقد أنه هو الأعلم.

ميزان الورع والتقوى:

فمما يجدر ذكره في هذا الباب ما جرى ويجري بيننا اليوم على (الكوثر) وغيرها، فهناك من لديه وجهة نظر يراها، وهو بهذا المستوى من العلم، والجهود الجبارة التي بذلها في الحوزة العلمية، حيث خرّج جيلاً كبيراً فيها، بل إن من يحاربه اليوم كان يغرّد باسمه في المنتديات ويسافر به في أكثر من موقع وموقع، فلا ينبغي أن تصل ردة الفعل إلى هذا المستوى. وهذا ما يجعل المرء في ردة الفعل في موقف من المواقف، يتوقف ليقرأ ما وراء الأكمة.

فعلى أقل تقدير، أننا عندما نسمع كلاماً ما، فلا ينبغي أن نتفاعل معه مباشرة، بل لا بد أن يكون لدينا منهج معين في الرد، وأن نرمي ببصرنا بعيداً. فأمورنا اليوم قد تكون مع زيد من الناس طيبة، ولا ننقل الحكم إلا من خلاله، ولا نتبنى نظرية إلا بعد عرضها عليه، ولا نتحرك إلا بترديد اسمه بين محفل ومحفل، ولكن فجأة بين عشية وضحاها نجعله ضالاً مضلاً، أو بقول بعضهم: لا يُقبل منه أن خرج على الكوثر، بل لا بد أن يُستتاب! إلى أين نحن ذاهبون؟ وما نحن صانعون؟! من يملك الحق أن يقول: فلان يُستتاب وفلان لا يُستتاب؟!

وهكذا ترى أنك تطرح في بعض المحافل نظرية ولاية الفقيه فلا يرضاها بعضهم! لكنه فجأة، وفي قضية من القضايا يستخدم النظرية ذاتها وكأنه هو الذي أسس بناءها الديني، وأصبح يمارسها بنفسه.

إني لأعجب كيف يصل البعض منا إلى مرحلة يرى فيها أن شخصاً ما صدر منه ما يرى أنه تسقيط، أن يتأدب أو يؤدَّب، وما قيمتنا نحن حتى نؤدِّب؟! ومن نحنُ؟

ومن الأمثلة على ذلك، أن بعضهم يبذل جهداً كبيراً ليستدل بآيات من القرآن الكريم على (سفرة أم البنين) وهي عادة حسنة، لكن عندما تقول له: ذلك لا يناسب، فإنه يراك ضالاً مضلاً، أو أنك قصير النظر.

ومن الموروث القاهر والعادات المتسالم عليها أيضاً، التقديس الأعمى لرجال الدين، فالتقديس عن وعي وإدراك أمر مطلوب، أما التقديس الأعمى فلا، لأن الأمر قد يتحول إلى صنمية قاهرة غير محمودة العواقب.

ثم انظروا إلى المفارقة الغريبة، وهي أننا في بعض القضايا نتساهل كثيراً في الإساءة للعالم ورجل الدين، ولكن بين ليلة وضحاها نستميت في الدفاع عن البعض الآخر! فهل أن أولئك لا قدر لهم ولا احترام ولا قيمة؟

إننا ندعو إلى القليل من الإنصاف على الأقل، لا إلى الإنصاف المطلق.

إن هذه القامة الرفيعة، السيد كمال الحيدري (حفظه الله) الذي سافر بفكر أهل البيت (ع) النير في حالة من الاتزان، ولم يمسّ بمشاعر الطرف الآخر، وأوصل الفكرة، وأجبر الطرف الآخر على أن يستمع، وجلب الملايين للاقتراب من مساحة فكر أهل البيت (ع) هل من الإنصاف أن نجعل منه ضالاً مضلاً؟! هناك صفحة كاملة في الانترنت تحت عنوان: الضال المضل السيد كمال الحيدري! هل هذا ما يُرضي الزهراء ويريح قلبها؟ إني أعتقد أن الزهراء (ع) أوذيت بأبنائها في الفترات المتأخرة أذىً ما مرّ بها في حياتها، لأن من آذوها في حياتها كانوا أعداءً لها، أما اليوم فإن من يدعي الحب والولاء للزهراء (ع) صار يطعنها من خلال النيل من أبنائها.

إن هذه الأمور لم يسلم منها الإمام الخميني (رحمه الله) يوماً ما، وكذلك السيد الخوئي رحمه الله، الذي جعلوه شماعة، وهم من نعتوه بعدم السيادة، وطعنوا في نسبه العلوي، ولكن عندما صار حقيقة واقعة على الأرض لم يجرؤ أحد على النيل منه أو حتى الاقتراب من مساحته، حتى في المباني العلمية والفقهية في الحوزة العلمية، وهذا أحد الأمثلة على العادة القاهرة.

وكذلك السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، الذي قال عنه أحد المفكرين المغاربة: ثلاث نجوم سطعت في سمائنا العربي: اقتصادنا وفلسفتنا والأسس المنطقية للاستقراء، للمفكر الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر. وهذا الكلام في السبعينيات من ذلك القرن، بأقلام الخصوم، أما نحن المحبين الموالين، فماذا قلنا عن الشهيد الصدر؟  قال عنه البعض: وأما محمد باقر الصدر فهو صاحب فكر (التقاطي) تَروّض في مدرسة الإخوان المسلمين. أما الإمام الخميني (رحمه الله)، فكان البعض لا يشرب من الكأس الذي شرب منه ولده السيد مصطفى. لذا عليكم دائماً أن تصبروا قليلاً لتروا النتائج.

إنني لا أستغرب الكثير من ذلك، لأنني رأيت كيف تعرض أولئك الأفذاذ للنيل منهم والتجريح، ولعلمي أن ليس كل من وضع يده على رأسه قائلاً: اللهم عجل لوليك الفرج، كان صادقاً في ذلك. ولا أريد أن أحاكم النوايا، ولا أتسلل للضمائر، ولا أخترق العقول، ولا أدّعي كشف الباطن، لكن لو شرفنا الله تعالى بظهور المهدي (عج) فإن الروايات تساعدنا على هذا الأمر، فهي تصرح بأن الله تعالى إذا أذن بالفرج لآل محمد، خرج له جماعة من ظهر الكوفة يقولون له: لا حاجة لنا بك([7]). لذا فإنه يخرج من الدنيا مقتولاً.

هب أن السيد محمد علي العلي كتب وأخطأ، وسلمنا بخطئه، وقد لا نتفق معه بما انتهى إليه، ولكن هل صحيح ما قاله الشيخ يوسف فيه؟ هل قرأتم كتاب حجارة من سجيل([8])؟ إنه لم يترك لفظاً يترفع المرء أن يتلفظ به إلا وصبه على ذلك السيد الجليل. فلصالح من تجري تلك الأمور ؟ إنها العادة القاهرة التي تخلق الصنمية، ونحن نهلل ونسبح لها. وهذا بعض ما يجري.

ثم إن من يتخذ الموقف يفترض أن يثبت عليه، لا أنه في  (المبرَّز) يتحدث بشكل مختلف عما هو عليه في قرية أخرى، باعتبار التوجهات في الأماكن وما يروق لساكنيها، ففي هذا مؤشر أن هؤلاء ليسوا أصحاب مبادئ ومواقف، وإلا لدافعوا عن مبادئهم ومواقفهم ودفعوا الضرائب كما يريدون من الآخرين أن يدفعوها، وأن يربكوا أوراق المجتمع، والحمد لله لم يعد هناك ما هو مستور، فالكل صار يعرف ويدرك ما يجري من حوله.

فما دمت أيها المتكلم أو الكاتب لا ترى السيد القائد مجتهداً مثلاً، فعليك أن تصرح بصراحة، وتريح الأمة وتستريح أنت، أما أنك في حسينية الحجة تقول: إنه مجتهد، وفي أخرى تقول إنه ليس كذلك فهذا لعب. ولماذا هذا اللعب؟ ولماذا نرضى نحن بذلك؟

عجبت لمن يبكي لغيره دموعاً ولا يبكي لنفسه دماً.

نسأله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.