نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (8)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
الفسق والفاسقون في مفهوم القرآن:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ﴾([2]).
وفي موطن آخر من كتاب الله عز وجل يقول: ﴿فَبَدَّلَ الَّذينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيْلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾([3]).
خطر الفاسق على الأمة مما لا يتردد فيه عاقل أياً كانت نحلته واتجاهاته، فالفاسق هو ذلك الذي لا يعطي للموازين الشرعية والعرفية والقانونية أي اعتبار، وهذه الشريحة من البشر اندست في صفوف المؤمنين منذ الأيام الأولى وتسللت بشكل واضح إلى مواقع القرار في مفاصل الأمة، بل بين قياداتها، حتى بات أثرها واضحاً بيناً جلياً لمن يتأمل ويتدبر.
ومفردة الفسق استخدمها القرآن الكريم لوضع الإشارة المباشرة لتلك الفئة من الناس التي تمردت على نفسها قبل أن تتمرد على الآخر. ففي القرآن الكريم مواطن عدة استخدمت فيها هذه المفردة مادة وهيئة، كما استبدلت في مواطن أخرى بما يدلل على مؤداها.
والإمام علي (ع) جاء إلى الخلافة الظاهرة بعد فترة جاوزت الربع قرن من الزمن، كان فيها الكثير من الخلط، قام به أناس تسللوا إلى مواقع مؤثرة في جسد الأمة. ففي فترة خلافته الظاهرة التي لم تتجاوز السنوات الخمس ابتلي بأمثال أولئك الذي غربلوا المشهد ونسفوه رأساً على عقب، حتى طرحوا الكثير من العقبات وأحكموا الكثير من السدود أمام حركة علي (ع) من أجل الإصلاح العام.
فعلي (ع) من على منبر مسجد الكوفة، والمسلمون من حوله يخطب فيهم ليضع المؤشر المباشر على الموقع الذي ينبغي أن يلتفت إليه أبناء الأمة، كي لا تأتيهم الدخيلة من خلاله.
يقول (ع) عن هؤلاء ليضع ميزاناً على أساس منه متى ما تشخصت هذه العلامات وانطبقت على الفرد خارجاً، فعلى الإنسان أن يحتاط كثيراً: «آثروا عاجلاً، وأخّروا آجلاً، وتركوا صافياً، وشربوا آجناً. كأني أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر وألفه، وبسئ به([4]) ووافقه، حتى شابت عليه مفارقه وصبغت به أخلاقه». فمطمحهم من الحركة هذا الحطام الزائل لا أكثر ولا أقل، أما النعيم الدائم المؤجل الذي ينتظر الإنسان وفق ما يقدم في هذه الدنيا المزرعة للآخرة فقد أجّلوه. فصفقتهم رابحة نوعاً ما مع مشارب الدنيا ونواتجها، ولكن مع الآخرة يبقى الحساب يوم الحساب بيد رب الأرباب.
فالكلام الطيب استبدلوا به ضده، والعمل الجميل استبدلوا به القبيح، فهؤلاء هم أولئك الذين يتصفون بصفة الفسق وسط الأمة.
يقول (ع): «كأني أنظر إلى فاسقهم وقد صحب المنكر وألفه وبسئ به ووافقه» أي أصبح واحداً من طبائعه أن يتظاهر بالفسق والفجور، سواء كان في قول أم عمل «حتى شابت عليه مفارقه وصبغت به أخلاقه» فكلما حاول التصحيح بقي في دائرة الفسق والفجور والعياذ بالله.
ولعل من أقبح وجوه الفسق هو الفجور في الخصومة والعياذ بالله، الذي يكلف ثمناً باهظاً في النفس والمال والعرض، ولو أن الأمة استدارت قليلاً واستعادت قليلاً من موروثها وتصفحته وقرأته وتأملته بكل عناية، لساعدها ذلك على تجاوز الواقع المرير، ولوضعت حداً دون الوقوع فيما وقع فيه أولئك.
ورد في الحديث عنهم (ع): «أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم»([5])، أي أنهم الفسقة في وسط الأمة:
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلب
مراحل التعامل مع الحديث:
في كلامنا عن مدرسة الحديث نجد أن واحدة من النكبات التي نزلت بمدرسة الحديث هي تسلل الفاسق إلى صفوف الرواة، بل في بعض الأحايين صعب على بعض الدارسين تشخيص وفرز الفاسق عن غيره، بل أحياناً لحاجة في نفس يعقوب أضفي على ذلك الإنسان الفاسق صفة الإيمان والتقوى والصحبة والقرابة من النبي (ص) أو المعصوم من بعده، ففي تاريخ المسلمين جميعاً، العام منهم والخاص، الكثير من ذلك.
وهنالك مراحل ثلاث تستدعي التوقف عندها ولو على نحو العجالة:
1 ـ زمن النص الإمامي: وهي فترة طويلة استمرت أكثر من قرنين من الزمن، باعتبار أن الخلف الحجة الباقي من آل محمد (عج) ولد سنة 255 هـ أو 256 هـ على اختلاف بين المؤرخين، فالمادة الأولية الخام للتكاليف الشرعية كانت حاضرة خلال هذه الفترة، إما بالمباشرة من المعصوم أو بالواسطة، فكان هنالك كمٌّ هائل، وضعنا يدنا على واحدة من أبوابه ومنافذه الواسعة الأصح إذا ما قيس بغيره، وهو كتاب الكافي، وأوضحنا موطن الخلل والضعف المصاحب لمعطى هذا الكتاب بحيث يلزمنا عندما نريد أن ننهل من علمه ونأخذ بأحاديثه أن نتوقف بعيداً عن دائرة حسن الظن، ويبقى للعلماء والرواة والمحدثين والصحابة وغيرهم قيمتهم وحضورهم واحترامهم، ولكن ذلك لا يعني التسليم لهم في كل شيء أبداً، إنما علينا أن نقف ونتأمل، لأننا حوكمنا بما قيل، لا بمن قال. فمن قال هو ونفسه، وقد ذهب إلى ربه، وحسابه وموازينه عند الله تعالى، أما ما خلفه وراءه فهو وظيفتنا ومسؤوليتنا، ونحن مسؤولون عن غربلته وبعثرته وتشريحه ووضع الإصبع في أوسط أوسطه، حتى نخرج بالسمين على حساب الغث، كي لا نقع فيما وقع فيه آخرون، سواء ممن تقدم أم من يصاحب إلى اليوم.
فالنص وإن كان يطرق مسامعنا في الليل والنهار كل يوم، مروياً عن الإمام الباقر أو الصادق أو الكاظم أو الرضا (ع) إلا أنه لا يكفي أن ينقله الخطيب بلسانه مضافاً للمعصوم على أنه رواية صحيحة، بل علينا أن نتأمل ذلك، فما لم ينص على ذلك من هو أهل للبحث والتحقيق لا يمكن الوثوق بالرواية، فليس كل من ارتدى العباءة واعتمر العمامة كان باحثاً ومحققاً، ولا كل من ارتدى لباساً دينياً كان من أهل النظر والتدقيق.
انظروا إلى ذلك الهراء من ياسر الحبيب الذي يسرد الروايات التي تفرّق صفوف المسلمين وتسير في مسير متزامن مع آخرين لا يريدون للمسلمين خيراً، من جميع الفرق والنحل والمذاهب والاتجاهات، فهؤلاء يريدون الشر، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم هذا الرجل الخبيث صاحب عمامة السوء، التي وصفتها بهذا الوصف، فأقضّ ذلك الوصف مضاجع البعض.
2 ـ مدرسة الحديث التقليدية: فهنالك مدرسة تحظى بصفة النقل المبرمج الببغاوي، وهناك مدرسة البحث والتحقيق والغربلة التي تعنى بأسانيد الروايات قبل مداليلها فتغربلها، وإن كان اعتماد الإنسان أحياناً على نقد النص في متنه يغنيه عن دراسة حال السند. فليس كل رواية صحيحة نعتمدها ونرتب الآثار عليها، فكثير من الروايات المتصفة بصفة الصحة السندية لا نعير لها أهمية ولا نقيم لها وزناً ولا اعتباراً ولا نرتب عليها أثراً لأنها تتعارض مع الثوابت والقواعد التي أصّلها وثبتها علماؤنا من الماضين (قدس الله أسرارهم) إلى الحاضرين (أيدهم الله).
إن بذرة الاجتهاد الأولى جاءت بهذا الاتجاه الصحيح، فغربلت الكثير، ووضعتنا على مساحة متقدمة في استشراف ما هو الأفضل. وهنا أيضاً افترق العلماء على نحوين: فمنهم من أطلق للاجتهاد عنانه، ولم يعتبر بما قاله العامة من الناس ممن لا حظّ لهم في مدارج البحث والتحقيق وما قيل في أوساطهم. وجماعة أخرى أبوا إلا أن يتحركوا في دائرة محيطها العامة من الناس، فهم لا يحركون ساكناً، لا لأنهم لا يعتقدون به، وإنما لأنهم يخافون ويهابون سطوة العامة من الناس، وهذا واضح بيّن. وإلا ما الذي ينتظره علماؤنا ومراجعنا وفقهاؤنا بهذا الرجل؟ ولماذا يصبح ياسر الحبيب هو الناطق باسم التشيع المفترض في ذهنه لا في مدرسة أهل البيت؟ ولماذا نحاكَم بعد فترة من الزمن بمعطى هذه العمامة السيئة؟
أحد المراجع (قدس سره) قال كلمةً في مسألة الباب والظلع فأفتى بعضهم بالتضليل، ولكن يأتي معمم فيصف عموم المسلمين بأنهم أبناء بغاء ـ والعياذ بالله، ونحن من ذلك براء ـ من خلال قناة فضائية، فلا نجد من ينكر عليه!
إن الشيعة والسنة إخوة، رضي من رضي وأبى من أبى من الفريقين، ممن يصطادون في الماء العكر.
إن هذا المعمم يأتي برواية ينسبها للإمام الصادق (ع) ويقرؤها أمام الملأ العام وينعت بها طائفة هي الأكبر بين المسلمين بذلك النعت المشين، الذي يأبى صاحب الذوق أن يذكره على لسانه.
يقول السيد الإمام: من يسعى لإشاعة الفتنة بين المسلمين سواء كان من الشيعة أم من السنة فليس بمسلم. والسيد المرجع السيستاني (حفظه الله) يقول: قولوا أنفسنا، لا إخواننا. ولكن انظر إلى هؤلاء أين يذهبون بالأمة.
إن الاجتهاد يتحرك في مساحة الواقعية والشكلية، فهناك اجتهاد حقيقي، إلا أنه شكلي لا يؤمّن للساحة ما تحتاجه في جميع الجوانب، أما المسائل البسيطة الدارجة التي يفتي فيها أيٌّ كان، فتجد فيها ألف فتوى وفتوى، أما المسائل المفصلية التي فيها حفظ الأموال والأعراض والأنفس والأوطان والدين فلا تجد منها إلا ما ندر.
الإجماع:
وهو أحد الطرق الموصلة للأحكام الشرعية، وهو في اللغة العزم، تقول: أجمعت أمري أي عزمت، وأجمع زيد على السفر أي عزم عليه، ومنه في القرآن الكريم: ﴿فَأَجْمِعُوْا أَمْرَكُمْ وشُرَكَاءَكُمْ﴾([6]).
وفي الاصطلاح: هو اتفاق المجتهدين في عصرٍ ما على أمر شرعي. ومن هنا افترقت مدرسة التشيع في اتجاه، ومدرسة التسنن في اتجاه آخر، فمدرسة التسنن لها تفصيل، ومدرسة التشيع لها تفصيل.
لذلك أهمس في آذان الجميع من أبنائي وإخواني وأحبائي فأقول: ليس كل ما نسمعه من عبارة: تقول العامة أو قالت العامة أن العامة كلهم على ذلك الرأي، ولا كل ما نسمعه من عبارة: قالت الإمامية أن جميع الإمامية عليه، فالشيخ الصدوق عليه الرحمة كتب كتابه في الاعتقادات، فكتب عليه بعض علماء الإمامية تصحيح الاعتقاد. أي أن ما جاء في اعتقادات الشيخ الصدوق عليه الكثير من الأسئلة والاستفهامات، لا مني أنا شخصياً، إنما من أقطاب الطائفة في النجف الأشرف وقم وغيرهما. وكذلك الحال عند العامة.
من هنا تسلل الموقف السياسي في حاكميته على الفتوى منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.
والإجماع الذي يتصف بالحجة كدليل مستقل على الحكم الشرعي نادر جداً في الواقع، ولكن تبنى عليه أخطر المسائل الكلامية والأكثر تعقيداً بين المسلمين لما يترتب عليها من الآثار، وهي الإمامة.
والإجماع في معظمه منقولات لا قيمة لها إلا ما أثبت وجوده عند البحث والغربلة. أما الإجماع المحصل فهو غير حاصل بقول أحد الأعلام (رضوان الله تعالى عليه).
وهنا يأتي السؤال: هل الإجماع دليل مستقل يبنى عليه وترتب الآثار؟ أو أنه لا يمثل دليلاً مستقلاً؟
ذهب العامة إلى أنه مستقل، وأنه قسيم للكتاب والسنة والعقل، وعاملوه معاملة الدليل المعصوم، وأعطوه من الحجية ما أعطوه، ولو لم يذهبوا إلى ذلك لذهبت الكثير من القضايا الأساسية أدراج الرياح.
فالعامة يرون أن الأمة لا تجتمع على ضلال، حتى لو تخلف عن الإجماع الإمام علي بن أبي طالب (ع). أما الإمامية فقالوا: إن مجرد الإجماع لا يعني أكثر من حاكٍ للحكم الشرعي من خلال الكتاب والسنة، فهو أحد طرق النقل.
يقول الميرزا النائيني أستاذ السيد الخوئي (رضوان الله عليهما): ليس الإجماع دليلاً برأسه في مقابل الكتاب والسنة والعقل. أي أنه لا يشكل دليلاً منفرداً إنما هو في مسار السنة.
وللشيخ الأعظم الأنصاري كلمة مهمة في هذا المضمار، وهي كلمة مهمة، يقول: ذهب إلى القول في جعل التقسيم رباعياً في الأدلة من عمد إلى التسامح فيه.
في الأسبوع القادم نقف على المرحلة الرابعة من مراحل تطور الحكم الشرعي: (من هو الفقيه).
ما هو عيد الحب؟
في الأسبوع الماضي مرت بنا ما يسمى عالمياً بمناسبة عيد الحب، وأثارت جدلاً كبيراً عند بعض الناس، لا سيما ممن لديهم فراغ ووقت فائض.
أقول: هنالك الكثير من الأمور التي لا تحتاج إلى إفتاء جديد، فمن ليس لديه علم عليه أن يرجع إلى الرسائل العملية في بداياتها، ليجد أننا في الكثير من الأمور لا نحتاج إلى إفتاء، كالضروريات مثلاً.
أما عن الحب، فمن لا يعيش الحب، ولا يتناغم مع مساره، ما عسى أن يقدم لنا بديلاً عنه؟ هل هو الكره والبغض والحقد والحسد والظلم والجور؟ ما المانع أن تكون هنالك مساحة للحب بينكم وبين زوجاتكم وأبنائهم وأهليكم وأقاربكم ومحبيكم ومريديكم وسائر الناس من حولكم؟
هل نبقى نعيش في دائرة الحلال والحرام والبدعة بلا دليل؟ وهل أن عيد الحب أو عيد العمال بدعة؟ وهل هنالك من قال إنه عيد ديني؟
إن سادات الحب في الأرض والسماء هم محمد وآل محمد، ومن لا يحب فليس منهم في شيء.
يقول لي أحد المشايخ: اتصل بي أحدهم فقال لي: استخر لنا. فقلت له: ما هو الموضوع؟ قال: لا شأن لك بذلك، هذا موضوع بيني وبين زوجتي. فظننت أنه يريد طلاقها ويستخير لذلك، فأحببت أن أتأكد، ولا أتحمل مسؤولية ذلك، فقلت له: لا حاجة للاستخارة، تصدق وتوكل على الله. فأصر الرجل على الاستخارة، فاستخرت له فكانت جيدة، فقلت له: اتكل على الله. فقال: الحمد لله أنها في صالحي وليس في صالح زوجتي، فقلت له: ما الخبر؟ قال: أنا كنت أشتهي (مجبوس) وهي لا ترضى إلا (عيش أبيض)!!.
فأي استخفاف بالدين والعقول هذا؟ وكيف يراد مني أن أسكت وأترك الناس مغفلة إلى هذا الحد؟
أيها المغفلون، يا من لا ترون الناس إلا من خلال مناظيركم، انتبهوا، واتقوا الله، فلن ترحمكم الأيام، ولن يغفر لكم من يأتي بعدكم، ما لم تصححوا من مواقفكم، وتبدلوا من قواعدكم، وتنظروا للناس بعين احترام وتقدير.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.