نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمينَ﴾([2]).
موقع القرآن في منظومة الاستنباط:
المساحة التي يتحرك فيها الفقيه عندما يتحرك في دائرة الاستنباط هي في حدود أضلاع أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. أما الكتاب فهو الأساس والأصل، وقد تقدم الكلام عن حيثياته، ومنها قطعية الصدور، وشموليته للأصول، والحفظ من قبل الله سبحانه وتعالى.
ومن الواضح جداً عدم تحمل القرآن الكريم بيان جميع الشؤون بل وحتى في حدود الأمور الشرعية على نحو التفصيل، خلا بعض الموارد التي تحفظ ولا يقاس عليها، ويدل على ذلك قلة الآيات الواردة في هذا الجانب، وهي في أحسن التقادير تتراوح بين الخمسمئة والستمئة آية.
وبناء على هذا لا بد أن نلاحظ أن قضايا الناس ومشاكلهم ومسائلهم تتكثر مع مرور الأيام، فلو خُلينا والقرآن فقط لما اهتدينا السبيل الصحيح نحو التكليف الشرعي، إنما لا بد من تفريع بعد تأصيل، وهذا الأمر يجري في سائر شؤون الحياة.
السنة النبوية:
وهي الرافد الثاني من روافد الاستنباط، وهي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، وهي في حدود الرسول (ص) عند العامة، وتمتد إلى المعصومين من آل محمد (ص) عند الخاصة.
والسنة النبوية ظنّية الصدور في طابعها العام، على العكس من القرآن الكريم، فهو قطعي الصدور من قبل المولى جلت قدرته. والمخاطب به قلب النبي محمد (ص) والواسطة هو الأمين جبريل. أما من حيث الدلالة فهو لا يتجاوز حدود الظن. أي أنه قطعي الصدور ظني الدلالة، إلا ما خرج بدليل خاص، وقلّما يتفق ذلك. فكل ما لدينا من زاد هو عبارة عن حركة عقول العلماء الذين أعدوا أنفسهم وبذلوا جهدهم وغربلوا النصوص وخلصوا إلى نتائج، فالمتقدم من علمائنا والمتأخر شرع سواء في ذلك، فكما استنطق المتقدمون القرآن، من حق المتأخرين أيضاً أن يستنطقوا النص ويعيدوا قراءته.
من هنا نجد أن حركة الفقه تكتسب حالة من التجدد وتلبية الحاجة للمكلفين. فالبشرية اليوم في توسع واضح من حيث العدد، وتبعاً لذلك العدد المتكثر تتكثر قضاياهم طرداً، ولا يمكن أن يكون الشارع المقدس الذي كلف الإنسان، وجعل أمامه جُدُراً هنا، وفتح الأبواب هناك، وجعل في جهة ناراً وفي جهة أخرى جنة، إلا أن يبسط الدليل الذي يؤمّن للإنسان الخروج من عهدة التكليف الذي جُعل في رقبته. والعلماء قناطر بين من ليس لديهم نصيب من العلم وبين ذلك التكليف الذي خوطب به الإنسان.
والاجتهاد طريق صعب، إلا أنه مع ذلك لا يصل إلى حد استحالة الوصول إليه بالنسبة للناس إذا ما بذلوا جهودهم، فكما يتسنى لهم الوصول للمراتب العليا في العلوم الأخرى، كذلك يمكنهم الوصول هنا للمراتب العليا، غاية ما في الأمر أن التوجه يغيب والشعور بالمسؤولية يخف، أو أن يكون هنالك تزاحم لبعض الأمور مع هذا الجانب، مع وجود من يقوم بعهدة الأمر، وهم العلماء الذين نذروا أنفسهم لهذا الاتجاه. وبالنتيجة أن الاجتهاد ليس كما يحاول البعض أن يصوره للناس، على أنه لا يتأتى إلا للأوحديّ من الناس، فهي مقدمات تدرس وتُحفظ ثم تجمع وتطرح، وتدخل في الاستنتاج، فالاجتهاد ليس مقام إمامة لا يتأتى إلا لمن اصطفاه الله سبحانه وتعالى من الأنبياء والرسل والأوصياء.
رواية السنة النبوية:
إن السنة النبوية تحتاج إلى واسطة لنقلها، توصل الجسر بيننا وبين الفترة الزمنية التي وصل فيها النص جارياً على ألسنتهم (ع). والمسارات هنا متعددة، والجسور كثيرة، نقف على الأهم منها:
1 ـ السماع المباشر من المشرّع: وهم النبي (ص) والآل (ع) وهذا المسار نهايته مغلقة، لأننا لا نعيش فترة الظهور التي شُرّف بها أناس في عصر حضور النبي (ص) والأئمة (ع) في أوساطهم، فالمعصوم اليوم غائب، ولا يمكن التواصل معه بالمباشرة في هذه الفترة الزمنية، وهل نُشرَّف في القادم من الأيام أن نكون في محضره الشريف؟ أو أننا ننتقل من هذه الدار إلى دار أخرى ويأتي جيل ثم جيل ليحظى الآخرون برؤيته؟ هذا ما لا يمكن أن نعلمه. صحيح أن هنالك الكثير من العلامات التي بدأت تفرض وجودها وتقرب المسافات، ولكن تبقى مسألة الظهور من الأمور الغيبية التي لم يكشف النقاب عنها ولم يعط الدليل عليها واضحاً ظاهراً بيناً.
وبما أنني وصلت إلى هذه النقطة أحببت أن أقف على أمر مهم، ألا وهو كثرة الدعاوى من بعض المهرجين على أنهم يلتقون الإمام المهدي (عج) ويأخذون منه أحكامهم، وهذا من البداهة بمكان، أنه يصطدم مع ما أسس لهذه المدرسة الشريفة مدرسة أهل البيت (ع)، من أنه في زمن غيبته الكبرى لا يتسنى للكثير الكثير من الناس إن لم يكن الجميع، أن يدّعي الاتصال به، نعم تصل إلينا ألطافه، ولكن أن نتصل به ويعطينا حكماً هنا أو مسألة هناك فهذا كذب، ولا بد أن نكذِّبَ من يدّعي.
إن تلك الدعاوى ترتبت عليها أمور كثيرة فيما مضى، واليوم أيضاً يدعيها أناس يعيشون في وسط الأمة ووسط أتباع مدرسة أهل البيت (ع) ولو على نحو العنوان، فهم يدعون النيابة الخاصة عن المهدي (عج) بل ادعى أحدهم أكثر من ذلك، أنه صهر المهدي (ع).
فالجهد الذي يبذله بعض علمائنا حفظهم الله تعالى وأطال أعمارهم، من سد الذرائع بوجه أمثال هؤلاء، والدفع باتجاه عدم إمكان الرؤية للمهدي (عج) لها مبرراتها الراجحة، وإلا فإن الأمور سوف تذهب من الأيدي أدراج الرياح، وعندها تنتظر الجميع ضرائب جمة.
2 ـ التواتر: أي أن ينقل النص عن المعصوم (ع) بواسطة طبقات من الأفراد وجماعات يصعب أن يقع هؤلاء جميعاً في الخطأ.
والتواتر في اللغة هو تتابع الأمور وترادفها واحداً بعد الآخر، ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾([3]). وأما في الاصطلاح فهو ما يكون مستقراً في جميع طبقاته بداية ونهاية.
ومتى ما تحقق التواتر أمّن لنا طريقاً مريحاً، لأن العلم يتاخمه ويلازمه، والتعبد به سيصبح تعبداً ذاتياً، لا يحتاج إلى متمِّمِ جَعْلٍ من قبل المولى، لأنه متى ما حصل العلم ـ أو الاطمئنان على الأقل على مختار بعض الأعلام في العصور المتأخرة ـ أمكن للإنسان أن يتعبد بما يعيشه من حالة العلم والسكون والاطمئنان لذلك المصدر.
ثم إن التواتر ينقسم إلى قسمين: تواتر لفظي، وتواتر معنوي، وعلى أساس هذا التقسيم ذهبت المدارس لدى الفريقين إلى أبعد المسافات، ورتبت الكثير من الآثار وقُلبت الكثير من الموازين في أدق الأمور وأكثرها حساسية ومفصلية واتصالاً بتكليف الإنسان.
فقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرين﴾([4]) أحد الأمور والقضايا التي كان يمكن أن تنتهي لو أننا حسمنا الأمور في هذا المفترق من الطرق.
فالتواتر اللفظي هو عبارة عن تطابق النصوص في البنية التركيبية للجملة مع وحدة المعنى. فالإمامية يقولون في حديث الغدير ما يؤمّن المصداق لهذا الأمر. أما العامة فلا يقبلون ذلك.
أما التواتر المعنوي فهو عبارة عن تغاير البناء التركيبي للجملة اللفظية مع وحدة المعنى، وهنا نجد أن من لم يتسنَّ له التمسك بالأول من أتباع مدرسة الإمامية باعتبار عدم قبول الآخر له، تمسك بالثاني، أما أتباع مدرسة العامة فلهم نقاش طويل أيضاً في مؤدى اللفظ.
وبالجملة متى ما تم التواتر كان عاملاً مهماً في قبول أو رد الكثير من القضايا، لأنه أشبه بالقرآن الكريم من حيث قطعية الصدور. فالسنة التي ترتقي في وصولها إلينا إلى حد التواتر تكون في مستوى الحجية كالقرآن الكريم بلا فرق، ولا نستطيع أن نردها أو نشكك في مصدريتها.
3 ـ أخبار الآحاد: وهي التي تشغل الجزء الأعظم من المساحات العلمية والفكرية والخطابية وغيرها، فمعظم هذه المساحات تدور رحاها على أخبار الآحاد. وخبر الآحاد هو ما كان دون التواتر، أو بعبارة أكثر دقة هو ما سوى التواتر. فما لا يرتقي إلى التواتر هو خبر آحاد.
وبدوره ينقسم خبر الآحاد إلى أقسام:
أ ـ الخبر المشهور: فهو خبر آحاد إلا أنه مشهور بشكل كبير، بحيث يتوهم البعض أنه داخل ضمن موارد ومصاديق القسم الأول، وهو التواتر. وهو يتشكل من ثلاثة رواة أو أكثر بقليل، ومصاديقه في النصوص كثيرة.
ب ـ الخبر الآحادي العزيز: وهو ما رواه راويان أو أقل، فالحساب فيما دون الثلاثة، والحديث يضعف فيما دون الثلاثة، لا فيما هو أكثر. ولهذا أيضاً مساحة يشغلها.
ج ـ الغريب: وهو ما انفرد بع راوٍ واحد لا يشاركه فيها أحد، وربما يكون بين ما روي بطريق واحد، وما روي بطريقين، الكثير من التداخل والتمازج بحيث يصعب الفصل بينهما إلا على من لديه القدرة بحيث أعدّ نفسه إعداداً كافياً بناء على القواعد المطروحة في علم الرجال ودراية الحديث للممايزة.
وأخبار الآحاد ـ أيها الأحبة ـ كثيراً ما نسمعها من الخطباء، دون تدقيق أو تمحيص، أما في صفوف الدراسات العليا في الحوزات العلمية فالفقيه هناك يجهد نفسه ويبذل قصارى الجهد لكشف جميع الأمور الدخيلة المستوجبة لإقصاء النص عن فاعلية أداء الدليل على التكليف.
من هنا يرى بعض العلماء أن الأعلمية إنما تكون ثابتة لأحدهم على حساب الآخر بناءً على قدرته في تمييز الطبقات والرجال واستنطاق النص بناءً على الدراية المبنية أيضاً على الأصول والقواعد المتبعة، وسأشير إلى واحدة منها إن شاء الله تعالى.
وأثر أحاديث الآحاد في بناء الفقه الإمامي مما لا ينكره أحد، بل لو غيب خبر الآحاد عن مساحة استنباط الأحكام الشرعية لرفعنا اليد عن الكثير من الأحكام التي نتعبد بها اليوم بناء على الاجتهاد الشخصي، أو الاحتياط في التكاليف، أو بناء على تقليدنا ورجوعنا إلى أحد المراجع حفظهم الله تعالى، ورحم من مضى منهم.
وأحاديث الآحاد من حيث المادة الأولية في أتباع مدرسة أهل البيت (ع) هناك كمٌّ هائل من نصوصها، وبالمقابل هي عنصر البناء المباشر في المدرسة العامة. ففي مدرسة العامة كمٌّ هائل من أخبار الآحاد أيضاً، ولكن التعامل والتعاطي مع النص الآحادي الذي انفرد به الراوي عند مدرسة الخاصة لا يتماهى مع ما هو موجود عند مدرسة العامة، والسر في ذلك أن الطرق في تصحيح وتوثيق الرجال يختلف من مدرسة إلى مدرسة أخرى. وهنا تستحكم إبداعات المدارس.
ومن هنا نقول: ليس من السهل أن يلغي الإنسان الإنتاج العلمي والفكري والعطاء المزدحم المتراكم عبر قرون منصرمة عند أتباع المدارس الشقيقة والانفراد فقط بمعطى مدرسة واحدة، لأن العقول إنما تصقل عندما تتمازج فيما بينها والناس أتباع الدليل.
من هنا نجد أن مدرسة الأصول، التي بذرت بذرتها عند العامة أولاً، ثم تولى رفع الراية فيها علماء المدرسة الخاصة، لما تحركت وانفتحت العقلية عند العامة بناء على مسار المسلك المعتزلي مثلاً، وجاءت مدرسة أهل البيت (ع) من حين المحقق الحلي الذي أشرنا إلى مدرسته في خطبة سابقة، بدا في الحركة شيء من التماهي والتمازج، فكان الابتعاد والاقتراب مع الاحترام المطلق بين الأطراف هو المطلب الأساس الحاكم في الاختلاف، وهو مطلب قرآني، إذ يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾([5])، فلماذا نلغي الآخر أو يلغينا؟ لا شك أن وراء الأكمة ما وراءها.
دور اللغة العربية في بناء الفقيه:
وبناء على وجود أخبار الآحاد هل تولّد فقه جديد؟ فمعظم الفقه الإمامي والفقه في مدرسة المذاهب الشقيقة الأخرى كان منطلقه من أخبار الآحاد. الجواب: أن ذلك أمر حتمي بلا شك، فالمتواتر نادر، والآحاد من الكثرة بمكان، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على حركة الاستنباط، وبالتبع تكون الأحكام في هذه المساحة. ولكن كل ذلك يتوقف على فنون اللغة الأم، حيث إنها وسيلة النقل للمعلومة الصادرة من مصدرها، سواء من النبي (ص) أم أحد المعصومين (ع). فالنصوص الصادرة عربية، والنبي (ص) وأهل بيته (ع) عرب، ولكن الفاصل الزمني الطويل أكسب النص الكثير من الخلط وعدم وضوح الرؤية في استنطاقه. فلو تعمق المرء في فنون اللغة العربية في نحوها وصرفها أو بلاغتها بأبعادها الثلاثة من المعاني والبيان والبديع، لاستطاع أن يقرأ القرآن بصورة مغايرة تماماً لمن يقرؤه وهو لا يمتلك هذه الحيثية. فإن كان المرء متخصصاً انعكس على قراءته أكثر ودخل في عمقها أكثر، فلو كان عالماً أو مؤلفاً أو كاتباً، أو مفكراً باحثاً، فلا شك أن النتاج سيكون وفق ذلك المرتكز وتلك القواعد الصلبة التي يتحرك على أساس منها.
فاللغة العربية ضرورة لا بد منها في بناء الفقيه ومن هنا أقول: إن لم يكن الفقيه عربياً فلا أقل أن ينصهر فيها، ولما لم ينصهر فيها من خلال قواعدها وضوابطها يصعب عليه أن يصل بالنص إلى حالة من الكاشفية القادرة على تأمين المادة الأولية الصالحة لاستنباط الحكم الشرعي.
وهنا لا بد من وقفة قصيرة أقول فيها: إن سليقة العرب السليمة عنصر قوة ودعم يركن إليه، ولكن أين هي السليقة العربية اليوم؟
دُعي أحدهم إلى مجلس لسيد الشهداء (ع) فحضر، وكان المجلس بيتاً جديداً، وبدل أن يذكر الخطيب مولد الرسول (ص) مثلاً أو مولد الإمام علي (ع) أو أن يذكر مناسبة فيها شيء من الفرح، راح يأتي بكل مأساوي حزين، من ضلع الزهراء (ع) إلى قتل الحسين (ع) إلى غير ذلك مما هو في ذلك الإطار. وراح ذلك المدعو ينظر إلى الخطيب ويهز برأسه، فلم يرق ذلك للخطيب، فقال: سمعت أنه ورد في بعض الروايات، أن من ذكر عنده الحسين (ع) ولم يبكِ فهو ابن زنا!! ثم وصل للمقتل فراح يخلط في اللغة العربية ويخبط خبط عشواء، وكان مما قال: قتل الشمرَ حسينٌ، بجعل القاتل مقولاً وبالعكس.
ثم حاول أن يُبكي ذلك الحاضر فلم يبكِ، وراح يلح في الإبكاء حتى أبكاه. فلما انتهى من مجلسه سأله: كنت أراك كثيراً في بعض المجالس إلا أنك لا تبكي، فلم بكيت اليوم؟ فقال الرجل: كنت طيلة الوقت أبكي على سيبويه في قبره مما أفحشت في الخطأ في اللغة العربية.
إن سليقة العرب ضاعت هذه الأيام، فلا المتحدث عربي، ولا المتلقي عربي، فالآية والحديث في مهب الريح وتحت رحمة اللحن، أما الشعر فلو سمعه قائله من أفواههم لبكى.
فإن لم تكن هنالك سليقة كان لا بد من تقويم اللسان بالصناعة النحوية فقد وضع النحو أساساً لتقويم اللسان.
إن المدارس الحوزوية كانت في ما مضى من الزمن هي مهد اللغة العربية، وكانت قوة اللغة العربية في أحضان الحوزات العلمية، أما اليوم فنجد أن اللغة العربية تحتضر في أروقة الحوزات العلمية، وشباب الجامعات المتخرجون بشهادات البكالوريوس أو غيرها صاروا متقدمين، وهنيئاً لهم، وبارك الله لهم وفيهم، ونتمنى أن يكون حافزاً للآخر كي يعود إلى صيانة موروثه وتاريخه المشرق، فلا فقاهة إلا بلغة، ولا علم إلا بلغة، ولا أدب ولا سياسة إلا بلغة، وعلى هذه قس ما سواها. فمدارس اللغة بين الأمس واليوم كالمسافة بين الأرض والسماء.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.