نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (54)

نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (54)

عدد الزوار: 1472

2018-08-03

الجمعة 23 / 9 / 1439 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: «دخلت على رسول الله (ص) في آخر جمعة من شهر رمضان، فلما بصر بي قال لي: يا جابر، هذه آخر جمعة من شهر رمضان، فودعه، وقل: اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إيّاه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً، فإنه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنيين، إما ببلوغ شهر رمضان، وإما بغفران الله ورحمته»([2]).

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، ونحن نقف على العتبات الأخيرة من هذا الشهر الفضيل. وقد كانت تجارةً، تاجر فيها الكثير، إن لم يكن الجميع، من الرجال والنساء، الكبار والصغار، وتبقى النتائج في يد الواحد الأحد جلت قدرته.

الثاني: المسار العقلي:

ونقف هنا قليلاً مع الهدي العلوي، فعن الإمام علي (ع) أنه قال: «العقل رسول الحق»([3])، و «العقل أقوى أساس»([4])، و «الإنسان بعقله»([5])، و «بالعقل صلاح كل أمر»([6]). وفي موطن آخر يقول (ع): «أفضل حظ الرجل عقله، إن ذل أعزه، وإن سقط رفعه، وإن ضل أرشده، وإن تكلم سدده»([7]).  

في الأسبوع الماضي صرفنا الكلام حول الرافد الأول من روافد المعرفة التي بنيت عليها معالم حضارة الإسلام، ألا وهي مدرسة النص والنقل، المبتني على ركيزتين هامتين، الكتاب الكريم المنزل على قلب الحبيب المصطفى (ص) والسنة الطاهرة الواصلة عن طريق الرسول الأعظم خاصة عند جمهور المسلمين، وما وصل عن محمد وآل محمد (ع)، كما هو عند مدرسة آل محمد.

من هنا يكون عمر النص والدليل النقلي عند العامة أقصر عمراً منه عند مدرسة الخاصة، حيث إن المدرسة الأولى تقفل الأبواب مع غياب آخر تابعي، على العكس من ذلك عند مدرسة أهل البيت (ع) حيث تستمر إلى عهد التوقيعات الصادرة في القرن الثالث عن الخلف الباقي من آل محمد (عج).

فالمسار الثاني هو العقل، وهو ركنٌ ركين، وخير تقديم له ما قدمه الإمام وعرفه به ورتب عليه من الآثار. وقد شغل العقل مساحةً كبيرة من مكون القرآن الكريم، وحظي بمساحة ليست بالقليلة من السنة المطهرة، بل أفرد جمعٌ من علمائنا فصولاً وأبواباً ثم كتباً في العقل، ما له وما عليه، بعد الفراغ من تعريفه وإثبات حجيته.

أما أثر العقل في الدين فقال (ع): «على قدر العقل يكون الدين»([8]). «ما آمن المؤمن حتى عقل»([9]). «قيمة كل امرئ عقله»([10]).

إن الكثير من الأمور تطرق أسماعنا، لكنها تصطدم للوهلة الأولى مع أبسط مدركاتنا العقلية، فهل ننساق وراء ذلك؟ أم نستسلم عند معطيات العقل؟ فالعقل يقول: استسلم لمعطياتي، وقف هنا.

العقل الشخصي والنوعي:

ولكن ثمة سؤال يتولد: ألا يمكن أن يطرأ على العقل ما يستوجب انحرافه؟ الجواب: نعم، إذن كيف يعطى الحكم له مطلقاً في إسقاط ما يصطدم به على نحو المقدمة؟.

للجواب على ذلك نجد أن علماءنا يقسمون العقل إلى قسمين: عقل شخصي، وعقلٌ نوعي. فالعقل الشخصي عرضة للكثير من الانحرافات، لأن انفراد الإنسان بمدركات عقله الشخصية قد لا يجعله دقيقاً في ترتيب مقدماته، لذلك تكون النتيجة تابعة لأخس المقدمتين، كما هو مقرر في علم المنطق، ويبنى عليه الكثير من الأمور.

أما العقل النوعي فيختلف عن ذلك كثيراً، فالعقل النوعي يتم تحصيل نتائجه بعد تجارب يخوضها هذا العقل، فتُصقل مواهبه وتُحكم آلياته، فيأتي بالنتائج وفق تلك المقدمات المتسقة فيما بينها، بحيث لو عرض هذا المنتج العقلي على صاحب عقل، لأقرّ بمعطيات تلك الحركة التي أحدثها العقل وأبرز من ورائها تلك النتيجة، فتجتمع العقول قبولاً، لأنه لم ينفرد بمدركاته العقلية الصرفة.

وما يلهب الساحة اليوم أن التعامل مع العقل من خلال يدٍ واحدة، وأذن واحدة، وحركة مشلولة، فتجد البعض يلهث وراء مدرك عقله الشخصي، بحيث يجعل من نفسه الأساس، وأما ما جاء في كتاب الله، فما توافق منه مع مدركه سلّم له وقبله، وما تنافر  ولم يتّسق رفضه ورده، ولا أقل وقف وقفة المتأمل، وقد يدخل في يوم من الأيام في حظيرة الشك والتشكيك، ثم لا يستطيع أن يخلص نفسه.

فالثقافة والفكر والتنظير ليست وصفات طبية يشتريها الإنسان من الصيدلية، ولا هي قطعة من الكماليات مطروحة في أقرب الأسواق، كي يشتريها من ذلك السوق. إنما يحتاج هذا المنتج إلى جهد كبير وقراءة متأنية، وإلى إعادة قراءة النص، والاستعانة بمن قرأه سابقاً، وبمن خلص بنتيجة من ذلك النص، والوقوف على ما أُحدث من الاستفهامات على ذلك الملخص. فهذه الدورة لا بد من قطع المسافات فيما بينها للوقوف على نهاية الطريق، ليجد بنفسه ـ إن كان منصفاً ـ أنه يتحرك ضمن هذه المنظومة، أو ضمن دائرة الرغبة التي يغيب فيها العقل تماماً، فتكون الأحكام شخصية نفسية ترتكز على رغبات ونزوات ليس إلا.

والأسوأ من هذا أن تكون محكوماً بغيرك، أي أنك لست الذي يفكر في الواقع، إنما الذي يفكر هو غيرك.

نموذج للاتجاه العقلي:

إن عطاء العقل في مساحاتنا وفكرنا الإسلامي كبير. فالإمام أبو حنيفة، إمام أحد المذاهب الإسلامية، حقق تقدماً كبيراً على حساب بقية المذاهب الإسلامية الشقيقة، بناء على ما أعطى للعقل من مساحة. فمن بين المذاهب الإسلامية الأربع كان الإمام أبو حنيفة هو الذي ضحى حتى سُجن، وخرج من الدنيا مسموماً، ولم يكون ذلك إلا ضريبة العقل الذي حركه في داخله.

ولذلك تجد في مدرسة أبي حنيفة فروقاً  كبيرة مع بقية المذاهب، لا لشيء إلا لأنه لم يستسلم للنص بالمطلق، إنما ذهب معه إلى مسافات. والمذاهب فيما بينها لكل منهم ميزته وخاصيته، لذلك استقر المسلمون في عمومهم على هذه المذاهب، لما يمتاز به هذا المذهب عن ذاك.

النتاجات النظرية للعقل:

إنّ العقل يخلّف وراءه نتاجاً فكرياً نظرياً، وهذه هي المرحلة الأولى. ونحن نسأل: هل أن المسلمين فعلاً تشغل حالة الفكر والتفكر مساحة كافيةً من وجودهم ووجدانهم، أم أنهم أقرب للمسارات الأخرى النقلية النصية السردية؟ يبدو أن الثاني هو سيد الموقف، لذلك حصل التخلف في عقول المسلمين، وتراجعت قافلتهم بل توقفت، بل بلغ بها الحال إلى ما هو أكثر من التوقف.

والأمر الثاني المنحل عن حركة العقل هو النتاج الفكري الثقافي، وليس التنظيري، فالتنظيري له فروعه، والحديث فيه طويل، ويحتاج من أعمارنا أياماً، ونحن نحاول الاختصار.

والثقافة تنقسم على نفسها إلى مسارين:

المسار الأول: هو نظري نقدي، أي الثقافة النظرية النقدية. والنقد بدوره ينقسم إلى واقعي وهجومي. أما الواقعي فلا يختلف عليه عاقلان، ولكن الهجومي يصطدم بالواقع بطبيعة الحال، بغض النظر عن كون الواقع صحيحاً سليماً أو عقيماً سقيماً.

المسار الثاني: الفني التطبيقي، ففيه بعد الفن وبعد التطبيق. ومدرسة الإسلام في صدرها الأول لم تغلق الأبواب والنوافذ أمام المسلمين في أن يستمتعوا بالفنون من حولهم، بل أطلق لهم العنان حتى تقدم بعض المسلمين في هذه المسارات، وقد يأتي الكلام في هذا الجانب في يوم من الأيام.

والنتيجة أن الإنسان لا يستطيع أن يرفع يده عن العقل، بالمطلق إيجاباً، أو بالمطلق سلباً، أو بالتقسيم والتفصيل، فعلماء المسلمين في دائرة هذا المثلث. فمنهم من رفض العقل تماماً كما هو الحال في مسار المحدّثين عند العامة، والإخبارية عند الخاصة. ومنهم من ركن إليه بالمطلق، ومنهم من فصّل.

ومن جهة أخرى أن الإنسان المسلم هو إنسان، قبل أن يتصف بصفة الإسلام، فهو من عموم البشرية، ومن هذا المكون العام، ولديه مشاعر وأحاسيس وعواطف ووجدان نابض بالحياة ولديه قلب يحب الجمال، فلا يمكن أن يؤسر، بل تعطى له المساحة. لذلك عندما تقرأ تاريخ المسلمين منذ الصدر الأول زمن الرسول (ص) مروراً بتعاقب الدول والحكومات تجد أن للفن قيمة وتطبيقاته كثيرة قد يأتي الكلام في موقع آخر عنها.

الثالث: المسار الروحي:

وهذا المسار فيه تشعبات طويلة عريضة أيضاً، أذكرها على نحو الإشارات السريعة:

1 ـ الإشراق الصوفي: أي ما يتمتع به أصحاب المدرسة الصوفية من إشراقات، تحصل بسبب الجولات التي يمارسونها، لتخليص النفس من الشوائب والكدورة والثقل والماديات والاتكاء على الجانب المعنوي في الداخل الإنساني. فعندما يرددون كلمة: مَدَد، فإنهم يعيشون عوالمهم الخاصة، فيحصل لهم سمو.

ففي الليلة الماضية في مجالس الذكر والإحياء لمراسم ليالي القدر، لا شك أن الإنسان عندما يستغرق في الدعاء يجد نفسه في عالم آخر، وإذا تكيف مع المحيط من حوله، عاش حالة من الانغماس التام في روحانية ذلك النص.

فالإشراق الصوفي يبدأ من هذه المرحلة ثم يرتقي حتى يصل إلى مرحلة الاستنتاج، أي استنطاق الأشياء ثم الاستنتاج.

ولست هنا في مقام الحكم لهم أو عليهم، وإلى أي حدّ يمكن التعويل على هذا الجانب؟ ولكن مما لا شك فيه أن صفاء النفس له أثره في استنطاق النص، وهو الدليل الأول، والدليل هو ما ورد عنهم (ع): «ما أخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحاً حتى جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»([11]). وقد أشبع العلامة الطباطبائي، فيلسوف الشرق، صاحب الميزان،  هذا الحديث بحثاً.

2 ـ الإشراق النوراني الماورائي: وهو ما يعيشه العرفاء من العلماء وهم قلة. والبعض يتصور أن العرفاء من الشيعة فقط، وأن الصوفية يقابلونهم في الاتجاه الآخر. وهذا الكلام غير صحيح، فهنالك طرق صوفية شيعية، وتوجد مدارس ضخمة عرفانية سنية، وابن عربي خير دليل على ذلك.

فابن عربي، بناءً على الإشراق النوراني الماورائي الذي جعل العرفان مدرسة تفرض وجودها على أرقى المدارس العلمية اليوم، كان ينطلق من هذه الزاوية، وهي الاتكاء على مبدأ الروحيات.

3 ـ الإشراقي العبادي العملي: أي أن هذا المسار لا علاقة له بالنظريات العرفانية الفلسفية، من قبيل وحدة الوجود مثلاً، أو الحلول، أو سبر ما في الذات المطلقة، وهو ممتنع بالذات على من لم يخص به، ومن خص به هو من خوطب به، أما ما وراء ذلك فلا يمكن، وتبقى ذات المطلق علمها الحقيقي بيد المطلق.

إن هذا الإشراق العبادي يتجلى في مجالس العبادة التي قضيتموها ليلة أمس، فمن قضى الليلة الماضية في العبادة في أوساط مجالس العبادة بكل تفريعاتها وجد في نفسه حالة من الأنس والراحة والاستقرار والسكينة.

فأولئك العلماء العبّاد النساك لا يعيشون القدر ليلة واحدة، إنما فرغوا أنفسهم وجعلوا من كل ليلة قدراً، وعاشوا القدر في شؤون حياتهم، وتحركت ليلة القدر معهم في جميع الحالات، فلا يفترون عن ذكر الله، ولا يملّون من القيام والقعود والركوع والسجود وتلاوة القرآن والترنم بالأدعية.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يعيش شهر رمضان كما ينبغي ويستفيد من الفرصة الذهبية التي منحها الله إيانا الله سبحانه وتعالى كرامةً للنبي الأعظم (ص) ورحمةً لهذه الأمة.      

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.