نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عنهم (ع): «ما بقي من هذه الدنيا بقية غير هذا القرآن فاتخذوه إماماً يدلكم على هداكم، وإن أحق الناس بالقرآن من عمل به وإن لم يحفظه، وإن أبعدهم عنه من لم يعمل به وإن كان يقرؤه»([2]).
القرآن الكريم هو الأساس الذي يبنى عليه، والملاذ الذي يرجع إليه، والمنبع الذي يغترف منه. وللقرآن قيمته وحركته ولا تُستنطق القيمة إلا من خلال التفاعل مع الحركة، والفقهاء الذين اقتربوا من القرآن الكريم وشغل المساحة العظمى من حركتهم تقدموا وقدموا. وهو ملاذٌ آمن أمام سيل جارف من الروايات التي تتصف بالوضع تارة والإسرائيلية أخرى، وما يخرج بين هذا وذاك إلا النزر اليسير الذي أجهد العلماء المجدون المجتهدون أنفسهم في تصحيحه والاحتفاظ به.
مراتب المرحلة الثانية من تطور المرجعية:
بالعودة إلى الحديث عن تاريخ المرجعية، بلغ بنا المقام إلى المرتبة الثالثة (ج) وهي مدرسة الحلة الفيحاء، وتحدثنا عن ابن إدريس الحلي واضع حجر الأساس في مدرسة التجديد في مساحة الاجتهاد وتحريك الأحكام عند إرادة استنباطها.
المحقق الحلي:
والعلم الثاني من أعلام هذه المدرسة هو المحقق الحلي رضوان الله تعالى عليه ((602 هـ ـ 676 هـ)، وهو صاحب كتاب شرائع الإسلام الذي شغل ولا زال يشغل مساحة كبيرة من دوائر البحث والتحقيق، وقد عنى الفقيه محمد حسن الجواهري بهذا السفر الفقهي الجليل عناية كبيرة، فتولى شرحه وكشف الغوامض فيه، وبيان المباني.
والسر وراء تلك الاندفاعة من ذلك الشيخ الجليل أن ما أحدثه المحقق رضوان الله تعالى عليه من خلال حركة الاستنباط التي مارسها تختلف كثيراً عما مارسه من تقدمه، لأن مصطلح الاجتهاد في مدرسة الإمامية بلغ رشداً متقدماً على يدي ذلك الفقيه العظيم، وفتح الأبواب أمام من جاء بعده وإلى يومنا هذا. وهنا تكمن العظمة والقدرة وحالة التجديد التي يتمتع بعضٌ، ولا يتسنى أن يصل إلى معطياتها آخرون.
فالمحقق الحلي أحدث قفزة نوعية في مسار الاجتهاد. وبإطلالة سريعة على ما أودعه في سفره العظيم يتلمس القارئ والباحث والمحقق والمستنبط الآليات التي استخدمها هذا الشيخ وما رتب عليها من الأحكام، وما ترك أبوابه مفتوحة للمحققين من بعده.
ففي كتابه تصادفك عبائر لها مداليلها، كالأشبه، والأقوى، وفيه تردد، والأَولى، وفيه إشكال أو توقف، وما إلى ذلك من العبائر المختصرة والمفردات، إلا أنها على اختصارها تطوي بين جنباتها الكثير. فهي إشارات لا يفهما ولا يفقهها ولا يفك شفرتها إلا من لديه الفضيلة العلمية الممضاة من رحم الحوزة الطبيعي.
وبالنتيجة أن هذا الفقيه الجليل فتح آفاقاً واسعة، ولا زالت خيراته وبركاته منبسطة على مساحة البحث في الحوزات العلمية إلى يومنا هذا.
العلامة ابن المطهر الحلي:
ثم جاء من بعده العلامة الحلي (648 هـ ـ 726 هـ)، صاحب التذكرة والمصنفات الأخرى، وهذا الرجل العظيم جمع بين خلّتين: الاجتهاد بعد الرشد من جهة، والثانية مزج الاجتهاد بالتجسيد الواقعي في عالم الخارج.
ولنقف قليلاً عند مفردة (علامة) فهذه المفردة بات اليوم مبتذلة إلى حدٍّ بعيد، لا تدل على ذوات بما يمكن أن يحفظ لها من الحق، حتى استامها كل مفلس([3]). فالعلاّمة هو المطلع على مجموعة من الفنون في عوالم العلم والمعرفة والآداب والفنون، فربما كان المرء علاّمة في جانب من جوانب التخصص، عندما يتقن جميع الموارد المحيطة بذلك الفن، ولكن تلك الصفة في وضعها كانت تأخذ مساحة أبعد من ذلك بكثير.
وجميل ما نبه عليه أحد العلماء الفضلاء وأفاد به ـ وهو لا يزال حياً يُرزق ـ وذلك عندما قُدّم لإحدى المنصات في محفل معيّن بلقب العلامة، فقال وهو يقف أمام المنصة، وقد سمعت ذلك منه مباشرةً، وكان ذلك قبل أكثر من خمس وعشرين سنة تقريباً: أن يُقدَّم الإنسان على أنه علامة لا يخلو من واحدة من اثنتين، ولا أجد أن هذا العنوان منطبقاً عليّ في كليهما: أما العلامة المحلاة بتاء التأنيث المراد بها الأنثى فلا نصيب لها من واقعي لأنني مذكر، وأما التاء التي يراد منها المبالغة فأنا أقل من ينطبق عليه هذا العنوان.
هذه الروحية والنفس الكبيرة كم نحن اليوم بمسيس الحاجة لها، فهناك من يوصف بالعلامة بلا نتاج فكري، ولا مساحة له في البحث والعطاء، ولا نصيب له في تربية الأجيال لا سيما الطلبة، فكيف نصف زيداً من الناس علاّمة أو آية والآخر صاحب الفضيلة، وهكذا دواليك.
أقول: ليس هناك أرخص من إطلاق العناوين في والوسط الديني، فلكي يصبح المرء طبيباً لا بد أن يقطع شوطاً عسيراً من العمر، ولكي يصبح أستاذاً مربياً للأجيال لا بد أن يقطع الابتدائية والمتوسطة والإعدادية والجامعة في تخصصها، أما من كان له طموح ورغبة فلا بد أن يذهب باتجاه الدراسات العليا، ويمضي الكثير من الوقت، ويبذل الكثير من الجهد ليحصل على شهادة الدكتوراه. أما في الحوزة العلمية فيكفي أن ترتدي العباءة وتنتسب إلى الحوزة أياماً معدودات، ثم تعتمر العمامة، وتحسن الكلام ليطلق عليك لقب العلامة أو الآية أو صاحب الفضيلة أو غير ذلك.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه»([4]). فإذا قلنا: علاّمة، وحنينا رؤوسنا إكباراً واحتراماً وإجلالاً وتقديراً له فلأن العنوان عين المعنون.
لذا أقول للشباب المؤمن الطيب المبارك: لا ينبغي أن ننخدع بالعناوين. كما أهمس في آذان رجال الدين، وأنا واحد منهم فأقول: يجب أن لا ننخدع بالعناوين التي تُزيَّن بها إعلانات الحملات هنا وهناك، أو الاحتفالات هنا وهناك.
فالعلامة الحلي كان علامة بحق، لأنه كان علامة بفنون الأدب العربي بكل عناوينه، علامة بدراية الحديث، ولمساته واضحة بيّنة في محلها. علامة في رجاله، حيث أحدث النقلة في تقسيماته الجديدة للحديث، إذ كان المدار على تقسيم الحديث منذ زمن المعصوم (ع) حتى زمنه هو على صنفين: الصحيح والضعيف، فأضاف العلامة الموثق والحسن، فأحدث نقلة جبارة عالية المستوى، وبذلك تحرر جمع من الأعلام من الكثير من القيود التي كانت تكبلهم، فدخل في الحديث كمٌّ كبير، وخرج ما لا يخضع للقواعد والموازين الجديدة، وما يتصف به الصحيح والموثق والحسن والضعيف. وهو إبداع جديد يستحق بموجبه لقب العلامة.
كما أنه علامة في علم الأصول، رغم أنه أعقب مدرستين عظيمتين، بغداد والنجف، كما أعقب ابن إدريس والمحقق الحلي، فأحدث إضافة وتقدم بالعلم شرحاً وبياناً وتذييلاً.
أما في الفقه فكان علامة زمانه، مع تقوى وورع. فقد كان الناس قبل أن يعطي فتواه يعمدون إلى نزح البئر إذا ما وقعت فيه نجاسة، فيتعاقب على البئر رجلان من طلوع الشمس حتى غروبها. وفي ذلك ما فيه من العناء، فعكف العلامة على كتب الدرس والتحقيق ليعطي رأياً في تلك المسألة يحفظ التكليف ويرفع الكلفة. وهذا هو الفقيه البصير الخبير المتلمس لواقع الناس، فلا يمكن للفقيه أن يفتي من برج عاجيّ كما يقول سماحة المرجع فضل الله رضوان الله تعالى عليه، بل عليه أن يعيش الناس ليفتي الناس.
وقد بلغ من تقوى العلامة أنه عندما وقعت النجاسة في بئر له عمد إلى دفنه لكيلا يتسلل شيء من الرغبة والضعف إلى نفسه، وكلنا يعلم أن حفر البئر بعد دفنها أكثر كلفة من نزحه، لكنه أراد أن يغلق جميع الأبواب النفسية في استنباط الحكم الشرعي. ولما خلص إلى عدم وجوب نزحه أمر بحفر بئره من جديد.
والإمام الحكيم رضوان الله عليه أيضاً عندما جاء إلى الحج، وعاش ما يعيشه الناس من التعب والنصب تحرك في مساحات الفتوى عند رجوعه إلى النجف، وفتح أبواباً. ففي مسألة طهارة الكتابي التي أشرت إليها، كان توقف الإمام الحكيم رضوان الله عليه في لبنان يعطي مؤشراً لها، وكذلك حاجة أهل بغداد إليها كان يعطي مؤشراً آخر إليها.
كان العلامة علامةً في فقهه ومعارفه الأخرى، ومنها علم الكلام الذي بذّ فيه جميع المدارس وتقدم عليها، ففي زمنه بلغت مدرسة المعتزلة رشدها وكمالها وقوتها، على أنها بنت على مسار التشكيك في الثوابت، لكن العلامة لأنه علامة، استطاع أن يفرق تلك القطع من الغيم المظلم في مساحة الفكر الإسلامي.
يقول العلامة الشيخ ابن ميثم البحراني (ت 679 هـ) العالم النحرير صاحب شرح النهج، عند زيارته مدينة الحلة لأول مرة، وكانت في أوج عظمتها، وكان قد خرج العلامة الحلي في استقباله، يوم كان صغير السن، فسأله العلامة البحراني: ما عساك أن تتقن يا ولدي؟ فقال: أنهيت المعقول، وأكملت المنقول.
لذلك ترى تلك النقلة النوعية المذهبية التي حصلت في إيران قبل الدولة الصفوية ببركات أنفاس هذا الرجل ورشحات قلمه وصدق منطقه. فقد اجتمعت رؤوس المذاهب كلها في مقابله، إلا أنه كان يملك سلاح الدليل والمنطق والحجة والبرهان.
خصائص القرآن والسنة:
لقد أشرت مراراً إلى أن الأساس في مصادر التشريع هو القرآن الكريم، ثم السنة المطهرة. وللقرآن الكريم امتيازاته في مساحة تأمين الدليل الذي يبنى عليه ويفرع، ومن تلك الامتيازات:
1 ـ قطعية الصدور: فالقرآن الكريم من الله سبحانه وتعالى، نزل به الروح الأمين على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص). فلسنا في القرآن الكريم أمام أسانيد ملتوية ومعوجة ومركبة وملفقة أبداً، كما في السنة النبوية.
2 ـ شمولية الأصول: فمن حيث التأصيل القرآني ما من قضية إلا ولله سبحانه وتعالى فيها أصل، أما التفريع فقد أوكل إلى المنبع الثاني.
3 ـ الحفظ: الذي تكفل به الله سبحانه وتعالى، فالقرآن الكريم هو القرآن ما بين الدفتين في أربعة عشر قرناً تصرمت وانقضت.
وفي الزمن السابق كان هناك شيء من التهريج بأن هنالك قرآناً آخر لدى أتباع مدرسة أهل البيت (ع) هو غير القرآن المتداول بين المسلمين، أما اليوم فلا توجد مساحة لهذا التهريج الفارغ، وذلك بفضل الوسائط المتوفرة اليوم، والتقنية العالية في عالم التلفزة وما وراءها، فأصبح الأمر مكشوفاً لا يحتاج إلى مزيد عناء وبحث وتدليل، فالشمس لا تغطى بغربال.
أما السنة النبوية فلها خصائصها المختلفة أيضاً، ومن هنا تبدأ المشكلة والطامة الكبرى، فكل مذهب إسلامي يدفع ضرائب باهظة بناءً على هذا الرافد الثاني، وبقدر ما يبحث ويحقق ويدقق يقل حجم الضريبة، وبقدر ما يترك الأمور على عواهنها والحبل على غاربه بقدر ما ترتفع قيمة الضريبة، حتى تصل إلى مرحلة التشبيه.
وقفة مع المجامع الحديثية:
أما أبرز روافد السنة النبوية فللعامة قول وللخاصة قول آخر، وإن كان الجميع يجمع على أن كل ما صدر عن النبي (ص) من قول هو سنة مطهرة، وكذلك كل فعل وتقرير. فالمدرسة العامة تقف عند هذا الحد، أما المدرسة الخاصة فتخطو خطوة للأمام تشمل ما قاله أحد المعصومين (ع) بالإضافة إلى ما قاله النبي (ص).
ولنا هنا أن نتصور كيف أن الأحاديث التي رويت عن النبي (ص) ضاع الكثير منها وحرف، أو دست أحاديث نسبت إليه (ص). فهذا أحد المحدثين يصرح أنه أهمل أكثر من مئتي ألف حديث صحيح عن النبي (ص) لم يثبتها في كتابه!.
ومن جهة أخرى أننا نسمع بمصطلح الصحاح عند أهل السنة، ومصطلح الأصول الحديثية عند الشيعة، وهي تعني الصحاح الستة عند العامة، والكتب الأربعة عند الشيعة. فهل كل ما في الصحاح يلتزم به العامة، وكل ما في الأصول الأربعة يلتزم به الشيعة؟ الجواب: كلا. إذن لماذا هذه الحرب الطاحنة؟
ثم إن هذه الحرب هل هي في حدود دائرة المسارات العلمية أو أن هنالك إسقاطات وتوجيهات وغيرها؟ من البديهي أن الثاني هو الواقع.
قام أحدهم بحساب بسيط توصل فيه إلى أن النبي (ص) يحتاج إلى عمر مئتي سنة لكي يدلي بكل تلك الأحاديث فقط، يتكلم فيها لمدة أربع وعشرين ساعة يومياً! دون أن يشمل ذلك العمر المفترض سائر أمور حياته.
لذلك من البديهي أننا لو بلغنا أن راوياً من الرواة سمع من الإمام الباقر (ع) ثلاثين ألف حديث في مجلس واحد، لا بد لنا أن نرد ذلك بالتكذيب.
فالسنة النبوية ظنّية في صدورها بلا شك، وليست قطعية الصدور كالقرآن الكريم، بل إن الكثير من الأحاديث لا سند لها، واكتُفي فيها بمفردة (رُويَ) حتى طحنونا بمطحنة (روي) فمن هو الراوي؟ وما حيثيته؟ وما قيمته؟ بل إن بعض الرواة يروي عن إمام لم يعش في عصره!. أو أن بعض الصحابة عاش مع النبي (ص) أقل من سنتين، لكنه روى من الأحاديث ما يعادل جميع ما رواه بقية الصحابة!!. وهنالك صحابي ولد بعد النبي (ص) بشهرين، إلا أنه روى كمّاً هائلاً من الأحاديث عن النبي (ص) فهل سمع ذلك منه وهو في بطن أمه؟
من هنا نجد أن الأئمة (ع) تصدوا بأنفسهم للعن بعض الرواة، كالإمام الصادق والإمام الجواد والإمام العسكري (ع). فلا تتصور أن المشكلة عند غيرنا فحسب، إنما نحن سواء في الكثير من ذلك.
إنني أطالع في الكثير من الأحيان مباني سماحة المرجع السيد الخوئي (رضوان الله تعالى عليه) فأجد فيها الكثير مما يجب أن نقف أمامه كثيراً إعجاباً وإكباراً، فهو سيد الطائفة في عصره، وقد غُيب عنا من تراثه الكثير، وقدم إلينا ما لا يقدم ولا يؤخر لأنه متوفر لدى الكثيرين، فمن هو المسؤول عن ذلك؟
إننا هنا لم نأت بشيء جديد في هذا الصدد، سوى أننا نقرأ ونتصفح ونستعيد وننقل عن الأعلام، وكلّي أمل من الجميع أن يتقبل ما نطرح، ولا يتوقع في يوم من الأيام أننا سوف نسكت، بل إنني أرى أن السكوت عن بيان هذه الأمور خيانة للمجتمع وللأمة والدين. لأن سكوتنا عن الخطأ سوف يؤدي إلى مشاكل كبيرة لا يمكن التعاطي معها فيما بعد.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.