نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني(46)

نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني(46)

عدد الزوار: 1169

2018-04-11

1439/7/12هـ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾(1).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
غفر الله لنا ولكم، وأسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى ميلاد سيد الوصيين، المولى علي بن أبي طالب (ع):
في ساحة القدس العلوي:
في علا مجدك هام الأنبياء وعلى نهجك سار الأولياء
وإلى الكعبة والأمُّ دنت تحمل النور وسر الأوصياء
أقبلت تطلب ظلاً وارفاً وإذا الكعبة شعت بالضياء
دخلت صلت وناجت ربها فاطمٌ هذي صفاءُ الأتقياء
أُغلق الباب الذي شرفه أحمدُ المختار مذ رام اللقاء
مرت الأيام عجلى والملا يرقبون الوضعَ صبحاً ومساء
وإذا البسمةُ للناس بدت من جدار فيه عطرُ الأصفياء
خرجت تحملُ لاهوتاً بدا مشرقَ الوجه تغشاه البهاء
حيدرٌ هذا علي نوره يملأ الأرض وأطراف السماء
آية الله التي حاطت بها سورة الإخلاص روحاً وانتماء
وعلى اليمنى التي يرفعها لإله الكون أوقات الدعاء
هالةٌ كبرى روى من قدسه عالمٌ فيه لدى العرش ثناء
سيدي خذني أغني فرحتي أرفع الصوتَ بألحان الغناء
مولد الكرار في كعبتنا سورة الإسراء في أهل الكساء
رب حقق رغبتي كاملةً بعلي المرتضى والأولياء
عن ابن عباس قال: قال رسول الله محمد (ص): «لو أن الغياض أقلامٌ، والبحر مدادٌ، والجن حُسّاب، والإنس كتّاب، ما قدروا على إحصاء فضائل علي بن أبي طالب»().
علي (ع) إشراقة السماء من جوف الكعبة، ومفردة التاريخ الخالدة، ولسان القرآن الناطق، والنبوة التي تسير عملياً على وجه الأرض، والصلة والحبل المتصل بالسماء، وراية الحمد والخلود والبقاء، وما جرى قلمٌ يقترب من حياضه إلا وغنّى بمفردات الإعجاز في حياته. ويكلّ اللسان، ويتوقف القلم، ويبقى علي سورة البقاء في عالم الوجود. عليٌّ صنو النبي محمد (ص).
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: قال رسول الله (ص): «ذكر علي بن أبي طالب عبادة»().
علي (ع) أجمع الفريقان على علوّ كعبه، ولم يختلف فيه أو يتردد إلا من أشرك في قلبه ما هو محذور.
الفقيه المعاصر:
عوداً إلى ما كان فيه الكلام نقول: إننا كي نصل إلى فقيه معاصر، علينا أن نتعرف المعاصرة التي نرغب في إضافتها إليه أو إضافته إليها، لكي نقف على خصائصها المستفادة. وقبل ذلك كله لا بد من إشارة عابرة لأهمية العقل فيما نحن فيه. وقد بلغ بنا المقام في الأسبوع الماضي إلى هذا الموضع، وعرفنا ما فيه الكفاية وما ساعد عليه جهد الباحثين.
والسؤال الآن: ما هي مساحة العقل التي يراد منا أن نتنقل في جنباتها؟ هل هي محددة واضحة المعالم، أم أنها مجنحة متروكة الحدود؟
هنالك محاور ثلاثة هي الأهم والأبرز في هذا المضمار:
1 ـ الثقافة في عالم العصرنة.
2 ـ الفكر في عالم العصرنة.
3 ـ التاريخ بعد النقلة الكبرى في عالم العصرنة.
أما الثقافة فتؤمّن لنا المادة الخام التي نستجمع من خلالها النظريات التي توصّل إليها العلماء في شرق الأرض وغربها، إذ نقرأها ونختزن منها ونختزل ونبحث ونفتش وننقب ونستخلص، ليكون للإنسان رصيدٌ، كل بحسبه، فمنا من يكلف نفسه عناء البحث عن الكتب، ومنا من لا تحدثه نفسه بمثل ذلك، ومنا من يقتني الكتاب، ويتردد على المعارض في أكثر من مكان ومكان، ولكن لا علاقة له مع الكتاب، إلا في حدود الاسم وما تعنيه القيمة. فالكتب جواهر، وهي عبارة عن مجموعة من الأفكار والنظريات التي أجهد أصحاب العلم والتنظير فيها أنفسهم حتى وصلت إلينا بثمن بخس دراهم معدودة، لأن الأمة لم تعِ ما ينبغي أن تقوم به تجاه هذا النثار الثقافي الكبير.
إذا تجاوزنا هذا فنحن مع الفكر، وهي دائرة أكثر ضيقاً من الثقافة، فربما يكون من السهل أو بجهد يسير أن أكون أنا وأنت والآخرين من المثقفين، ولكن ليس بالضرورة أن تصنع منا الثقافة مفكرين، فالمفكر عملة نادرة، سواء اتصف بعنوان المفكر الإسلامي أم الغربي أم الشرقي، في هذا الفن أو ذاك من الفنون العلمية، فهو في النتيجة له قيمته، لأنه أحسن التعامل مع الدائرة الكبرى الأولى وهي الثقافة، بمعنى أنه غاص في أعماقها، وانتزع منها، وقدم الأهم على المهم فيها، فوصل إلى ما وصل إليه من سمة المفكر، أي من يخلق نتاجاً يخدم من خلاله البشرية، وهؤلاء قلة في عالمنا الإسلامي، كالإمام الشهيد الصدر مثلاً، والشهيد المطهري، والسيد فضل الله، وأمثالهم من النماذج التي تُحفظ ومن الصعب أن يقاس عليها، وإن كانت الأسماء حاضرة.
ثم يأتي محور التاريخ، وهو شغلنا الشاغل اليوم، فما من مجلس اليوم إلا ويتحدث عن القضايا التاريخية، ولكن هل سألنا أنفسنا: هل بين أيدينا الأجندة الكافية والعناصر التي نستطيع من خلالها أن نغربل أوراقه؟ وأن نفرز الغث من السمين؟ أم أننا نسير كما يسر الأعمى فنخبط خبط عشواء، وضربة في الأرض وأخرى في الجدار؟
إن من يرغب أن يسبر غور مفردات التاريخ، ويقترب من معطيات التفسير، عليه أن يكون قد أعدّ نفسه إعداداً كافياً ليقدم لنا شيئاً ذا قيمة، لأنه إن لم يكن كذلك، فهي واحدة من ثلاث: إما أنه لا يقدم شيئاً، وهي العبثية. أو أنه يقدم ما يساوي ما قبله، وهذا تحصيل حاصل، وهو معيب عند أهل النظر، أو الثالث، وهو الإبداع، وهذا هو الأمر الممدوح الذي حثت عليه الشريعة، وقد قدمت الشريعة الكثير الكثير، وما ينتظر البشر أكثر من ذلك، لأن الحساب الذي نتحرك وفقه هو هذه المعطيات المادية فيما بيننا، بينما عالم السماء له فضاءاته ومرئياته.
فمما جاء في التاريخ، الرسالة التي جاء بها النبي (ص) ولكي نقرأ هذه الرسالة ونستقر عليها لا بد أن نكون على دراية كافية بمفاتيحها، ومفاتيحها عبر مسارين: الأول هو طريق المنقول، والثاني هو طريق المعقول. فالأول يسير معنا وبنا إلى مساحات، والثاني كذلك يفعل. والمفكرون الكمّل هم الذين يستطيعون المقاربة بين المسارين، فلا يرفعون يدهم عن التاريخ استنكافاً، ولا يندفعون مع العقل بعيداً ليتجردوا ويحيدوا، فعندما يمازجون ويقاربون ويماهون ويزاوجون يستطيعون انتزاع عنصر، هو عبارة عن مزج من هذين، وأصحاب الفكر الهادئ المستقر هم الذين يبصرون بعينين، فلا يطلقون العنان لعين باصرة ويغمضون الأخرى. والمفكرون الواعون هم أولئك الذين ينفتحون على جميع ألوان الطيف الفكري من حولهم، فالمسميات والصفات والإضافات لا تشكل عائقاً أمامهم في الوقوف على ما هو المنتج، مما يباشر البشرية في كل يوم.
إننا اليوم في هذه المرحلة بمسيس الحاجة إلى أن نتنقل بين هذه الدوائر الثلاث، وأن نمازج بين هذين المسارين حتى نستطيع أن حقق السكون والاستقرار لأنفسنا أولاً، ثم يترشح ذلك إلى العالم من حولنا.
نحن أيها الأحبة عندما نرجع إلى الوراء قليلاً لنتصفح ما دونه التاريخ نجد أن الغث أخذ نصيبة، بحيث كاد يستحوذ على السمين. وعندئذٍ نسأل: علامَ تقع مسؤولية الفرز بين هذا وذاك؟ هل هي مسؤولية عالم الدين في الحوزة العلمية فقط؟ أو مسؤولية العالم الأكاديمي؟ أم هو مسؤولية من لم يتصف بصفة العلم الحوزوي أو العلم الأكاديمي؟ أليس من حق هذا أيضاً أن يستقطع مساحته ويطبع بصمته على وجه النتاج في عالم اليوم؟
إن العقل نعمة كما أشرت في الليلة الماضية في مولد الإمام علي (ع) في حسينية الزهراء (ع) حيث قلت: إن العقل قيمة ونعمة، فعلينا أن نحافظ عليها. فلكي تحافظ على وجودك أيها المسلم أو المؤمن أو الإنسان بشكل عام، فلا بد أن تأكل وتشرب وتتنفس، وكذلك إذا أردت أن تحافظ على قيمتك أيها الإنسان، فلا بد أن تقرأ وتتدبر وتستنتج، لتستكشف الحالة التي أنت عليها عند المزج بين هذه العناصر الثلاثة.
كل ذلك أيها الأحبة أوجد مناخاً للنقلة النوعية في كامل المجالات من أجواء العصرنة والانفتاح. ومساحات ذلك تشمل الدوائر الثلاث التالية: الاجتماعية، والسياسية، والدينية. فمنا من يبحر في عوالم واحدة من هذه المجالات والركائز، لكنه لا يقترب من المساحة الأخرى، والعوامل كثيرة، فقد تكون المراعاة أو المحاباة أو الخوف. فمتى ما ارتفع الكابوس الثالث (الخوف) أعطت الأمة نتاجها، وتقدمت، ومتى ما ساد هذا الأمر الثالث، وعمّ الشبح المخيف غاب دور الأول والثاني، وضاعت البوصلة وعكست اتجاهها، والخسارة لا ينكرها إلا من لا يتمتع بأدنى درجات العقل والإدراك.
فهم المجتمع:
لقد بذل العلماء جهوداً كبيرة في علم الاجتماع منذ القرون الأولى، من زمن ابن خلدون إلى يومنا هذا. ومما نأسف له كثيراً أن الإمام الشهيد الصدر الأول رضوان الله عليه، كتب في الاقتصاد والفلسفة، وليته أكمل هذين بثالث ليكتمل العقد، فماذا لو كتب «مجتمعنا»؟ ربما لحقق الكثير، واختصر علينا المسافات، وتقدم بنا كثيراً. فلا زلنا إلى يومنا هذا نذكر هذا الرجل، لا لأنه يستحق فقط، فهو أكبر من ذلك، بل لأننا لم نجد من يكمل مسيرته إلى يومنا هذا بعد أربعين سنة من قتله ظلماً وعدواناً. فأين يكمن الخلل؟ هل كان الإمام الشهيد الصدر يعيش في عالم غير عالمنا، وفي حوزة غير حوزتنا؟ وهل تعلم إلا على يدي الأعلام من علمائنا؟ هل سافر لأوربا ليستجدي معارفها؟ أم ذهب إلى الشرق ليأخذ منه بغيته؟ أم هو ذلك الرجل الذي يعيش في بيت صغير على مقربة من الأمير (ع)، يسهر ليله يتقلب في رياض العبادة، ويقطع نهاره بالصوم طاوياً على الجوع والعطش في حر النجف اللاهب الذي لا يعرفه إلا من عاشه؟.
ثم يأتي من يلومنا ويقول: إلى متى أنتم مع هذا؟ وبكلمة واحدة نقول: أعطونا بديلاً، ودلّونا على من يشبع نهم الفكر عند جيلنا. فالبعض يقول: هنالك ارتداد أو إلحاد أو غيره، فمن المسؤول؟
إن المرجعية المعاصرة هي التي تعيش هموم الساحة، والتي يسيل حبرها ليضيء الطريق ويؤمّن التكليف، ويلامس الواقع، فلا يمكن أن تكون الرسالة العملية التي كتبت قبل أربعين سنة بروحها ومكوناتها وامتداداتها الضيقة هي الرسالة التي توضح معالم الطريق لجيل اليوم.
عندما نقرأ الفتاوى الواضحة للسيد الإمام الشهيد الصدر، نلمس النقلة النوعية، فقد أبى حتى في رسالته إلا أن يكون متميزاً ومتقدماً ومعاصراً، مع حفاظه على الهوية والتمسك بالثوابت.
إننا نجد البعض اليوم يتشدق برمي غيره بأوصاف العلمنة والعصرنة والحداثة، لكنك لو سألته عن تعريف لأحد هذه الأوصاف لما وجد إلى ذلك سبيلاً. ولا يستطيع أن يدرك من ذلك شيئاً. لكن جيل اليوم ليس جيل الأمس، وهو بحاجة إلى لغة خطاب، ولك أن تقوم باستطلاع واستبيان في أي مكان، ولو في هذا الجامع لترى الفرق بنفسك.
إنني أستغرب ممن لا ينزل للواقع. يقل بعض أهل الفضل: إن الناس هم الناس، فما الذي تغير فيهم؟ والحق أن الناس تغيروا، وأنا واقعي مع الناس، وأرى أنهم تقدموا كثيراً، وأجد أن ولدي حقق ما لم أستطع تحقيقه أنا، فلا بد أن نقرأ الواقع ونرى أبناءنا وحاجاتهم.
إنني آمل أن نترك لغة التضليل والتفسيق، ونلتفت إلى الكثير من المشاكل الحقيقية، كالعنوسة، والمطلقات اللواتي يملأن البيوت، وإلى الفقر والفاقة، والمصائب والمشاكل الاجتماعية الكثيرة، فهناك أخ لا يتكلم مع أخيه، وابن يجرجر أباه للمحكمة، وبنت تصفع أمها، فاتقوا الله فينا، واتركوا هذه المجتمعات الطيبة الطاهرة النقية المؤمنة، ولا تزايدوا عليهم في إيمانهم، فأنتم منهم ومثلهم، ومن العيب على الآخر أن يضلل الناس أو يفسقهم، لأنه هو الذي لم يفهم حدود القضية، ومن يحارب الناس فهو الجاني.
لا شك أنكم سمعتم بانتحار أحد الأشخاص، وهو يبلغ من العمر أربعة وأربعين عاماً، لأنه لم يستطع الزواج، وقد ضاقت به الدنيا حتى لجأ إلى الخلاص من الدنيا، فهل ننتظر العشرات من أمثال هذه الحالة دون أن نتحرك في إيجاد الحلول؟
لماذا تقام الدنيا ولا تقعد عندما يُسأل البعض عن موارد صرف الخمس؟ ولماذا تقام الدنيا ولا تُقعد إذا طالب البعض أن يكون خمسنا لبلدنا؟ ولماذا يطالب البعض بتعليق وكالات إذا كان الطرح بهذا الشكل؟
أقول: إن التعليق لا يحجب من دفع الحق الشرعي، وسحب الوكالة لا يعطل المسيرة، فالحق يدفع للحاكم الشرعي إذا كان عادلاً جامعاً للشرائط، ومراجعنا كلهم ولله الحمد يحملون هذه الصفة، فهل يستطيع أحد أن يطعن بالشيخ الفياض أو السيد الحكيم أو السيد القائد أو غيرهم من المراجع الكمّل، ولسنا مرغمين على الارتباط بجهة اليمين أو جهة الشمال.
إن مجتمعنا له الحق والأولوية، بل هو فوق كل شيء، وأصل القضية هو مجتمعنا، ولا نخسر شيئاً ما دمنا نكسب مجتمعنا، ما دام المجتمع يدرك ويدري أن الرسالة قد وصلت، بدليل التغيير والتبديل والتحويل.
إن الحديث في العصرنة والحداثة طويل، ولا يمكن أن نختصره في هذا المضمار وهذه العجالة، ولكن كما بدأنا بأبيات نختم بأبيات أيضاً للإمام علي (ع)، أقول فيها:
سبح الليلُ بأسماء علي راسماً بالبدر إشراق علي
وإذا الناسك في سجدته يبصر الأنوار من وجه علي
رفع الرأس يرى من حوله وإذا البسمة واللطف علي
عاد للتسبيح يملي قلبه من حروف الاسم للمولى علي
وإذا الروح سمت في أفقها لم يكن ذاك بلا ذكر علي
رنّح الرأس على طور الدُّعا حامداً لله يدعو يا علي
وإذا الشمس بدت مشرقةً هذه الزهراء أم هذا علي
وإذا جبريلُ يبدي رأيه كل ما في الكون من أجل علي
حينها الليلُ طوى صفحته وإذا الصبح انتشى عند علي
كعبةٌ صلت وأدت فرضها ولد الكرار في البيت علي
حينها شعت على كل الدنا شمسنا الكبرى وغنت لعلي
فلنصلِّ شرفاً بالمصطفى عندما يذكر في الناس علي

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق،

والحمد لله رب العالمين. ​