نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (44)

نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (44)

عدد الزوار: 1103

2018-03-23

الجمعة 1439/6/27هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

«عن الحسن بن علي (ع)‏ أنه دعا بنيه وبني أخيه فقال: إنكم صغار قوم‏ ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»([2]).

مدرسة الأصول وروادها:

بلغ بنا المقام فيما مضى إلى المدرسة الثانية ـ مدرسة الأصول ـ وما لها من الأهمية. ففي سير البحث عن الفقيه من هو؟ نقف على حدود هذا المربع الجديد، والذي يهمنا كثيراً قراءة الأبعاد الأربعة فيه، حتى يمكننا التنقل بين جنباته وتغطية المساحات.

تتلخص معالم هذه المدرسة في رفضها للواقع المفروض عليها، وزرع بذور التجديد الفكري في الوسط الحوزوي لأنه النواة التي على أساس منها تتفرع طرق كثيرة للتجديد في وسط الأمة.

وهذه المدرسة اليوم باتت تتبوأ مقاماً وتشغل موقعاً متقدماً على حساب المدارس الموروثة مع الاختلاف في طرقها وممارساتها. وهذه المدرسة ليست وليدة الساعة أو هذه الأيام الأخيرة  التي نعيشها، جراء النقلة النوعية في كافة المجالات التي تجتاح العالم من حولنا، بل تم التأصيل لها، وضُخّت فيها دماء شابة، وحُركت أقلامٌ، واندفعت في التحقيق والبحث والغربلة في أكثر من منحى ومنحى.

فالشيخ محمد رضا المظفر من أعلام هذا الاتجاه، وممن وضعوا حجر الأساس لقواعد هذه المدرسة التجديدية في وسط الحوزة العلمية. وعندما نذكر الحوزة العلمية فلا نعني بذلك حوزةً بعينها، إنما نعني كل موقع ديني يمارس فيه الدرس والتدريس، فهذا كله يصطلح عليه في العرف    العام المتدين بالحوزة. وهي عبارة عن الجماعة التي تلتقي على أمر معين، فأنا أعني العنوان العام لا خصوص صرف العنوان لجهة بعينها.

1 ـ الشيخ المظفر :

فالشيخ محمد رضا المظفر حمل على عاتقه لواء التجديد في وسط الحوزة العلمية الأكثر تشدداً وتشبثاً بالموروث، وهي النجف الأشرف، على أن سائر المواقع كانت تحاكي هذا الوضع ولا تخرج عن حدود دائرته، لذلك كان من الصعوبة بمكان أن تكون القافلة قد وجدت لها طريقاً معبداً، بل على العكس من ذلك تماماً، إذ كان التعرج والمطبات الصناعية التي توضع ليلاً ليقع فيها ويعثر من يسير نهاراً.

فالشيخ المظفر (رضوان الله تعالى عليه) وهبه الله تعالى مجموعة من النعم والقدرات، فكانت لديه حافظة متحركة ليست راكدة، لم يتسرب إليها فكر آسن، إنما كانت تحتفظ بالصفوة المصفاة من منابع الفكر الواردة إليها.

ومن جهة ثانية كان يمتلك طاقة جبارة من القدرة على بعثرة الأوراق ولملمتها من جديد، مع الخلوص منها بما هو الأصفى المصفى، وهي واحدة من الحسنات التي تضاف إليه.

أما لمساته في البناء المادي فهي واضحة، والشواهد ثابتة لمن ذهب للنجف الأشرف زائراً للمولى الأمير (ع) على أن لا يكون مقتصراً في زيارته على طريق اختطه بمسطرةٍ من بيته إلى المقام، ومن المقام إلى بيته، فالنجف مدينة ومدرسة وحوزة وعالم مترامي الأطراف، لن تدخل فيه في زقاق إلا وفتح أمامك أبواباً على رموزٍ، كلُّ واحد منهم يشكل مدرسة.

لقد وضع الشيخ المظفر كتاب المنطق أولاً، وقد أحدث تغييراً وتوجهاً مباشراً في دائرة البحث داخل النجف الأشرف، مما أوجب إعادة ترتيب الأوراق من جديد، بناء على التبويبات التي أدخلها مستفيداً من أَكدَمة العلوم الموجودة من حوله.

2 ـ السيد محمد تقي الحكيم:

والرجل الثاني هو السيد محمد تقي الحكيم، صاحب كتاب الأصول العامة للفقه المقارن، وهو رجل عظيم، لكنه مجهول القدر، لا لشيء إلا لأنه انفتح على المسار في الطرف الآخر، وحاول أن يزاوج ويقارب وينتزع مما توصل إليه الفكر الناهض لدى الفريقين العامة والخاصة. وكتابه هذا يمثل محورية للكثير من الدروس، ولكن ـ مع شديد الأسف ـ نجد أن الدراسات العلمية الحديثة القريبة من الحوزات العلمية استفادت منه، حال أنها واردة عليه، على العكس من ذلك من كان الكتاب في أوساطهم، فقد أضربوا عنه صفحاً، لا لشيءٍ إلا لأنه ينهج في بحثه ما أسس له العلماء المتقدمون.

3 ـ الإمام الشهيد الصدر: 

ثم الإمام الشهيد الصدر الأول (رضوان الله تعالى عليه)، الذي يمثل الخسارة الكبرى للفكر البشري، لا لخصوصية دين أو مذهب، لأنه إنسان يحمل جوهر الإنسان وأهدافه التي من أجلها خلق الإنسان في هذه الأرض، وهي الاستخلاف وعمارة الأرض، فالعمارة تارةً تكون مادية وأخرى معنوية، وإمامنا الشهيد الصدر الأول كان في لاتجاه الثاني.

لقد أقحم الشهيد الصدر واحدة من المفردات التي استوجبت على الجميع أن يعيد الحسابات في قراءاته، وهي حساب الاحتمالات، وقد أحدث هذا المسار نهضة مادية جبارة في العالم الغربي، وتبعهم على ذلك شرق الأرض، أعني الصين واليابان، إلا أن المسلمين بقوا يراوحون مكانهم، بل الأكثر من ذلك اتهم بعضهم السيد الشهيد بأنه يريد تغريب العلوم الدينية، أي أنه يُلبسها ثوب العالم الغربي.

لقد شخص الآخرون مكمن الخطورة في شخص الإمام السيد الشهيد الصدر (رضوان الله عليه)، فاجتمعت عليه طائفتان: طائفة من الخارج، وأخرى من الداخل، فتم التخلص منه مبكراً، ولما يعطِ نتاجه في أرقى درجاته وأتمها.

4 ـ الشهيد مرتضى مطهري:  

ثم يأتي الشهيد المطهري (رضوان الله تعالى على روحه المقدسة) ذلك الفقيه المجاز، والفيلسوف المتقدم، والكاتب الذي يعرف أين يوظف المفردة، وفي أيّ اتجاه يسوقها، وهو الذي يعبَّر عنه بمعلم الأجيال الذي استطاع أن يأخذ المفردات الدينية ذات المساس المباشر بواقع الأمة إلى أحضان الأمة، بعدما كانت محجوبة ومغيبة، لا توجَّه الطاقات إليها، إنما تُوجَّه إلى ما هو سهل يسير منها من العبادات حتى الديات، مع بعض  التعديل هنا أو هناك.

5 ـ الشيخ محمد جواد مغنية:

ثم الشيخ محمد جواد مغنية، أحد أقطاب النهضة التجديدية، ومسار الوحدة والانفتاح على الآخرين، وهو أحد رموز لبنان. ذلك الرجل العظيم، وضع كتاباً في أصول الفقه، وآخر في فقه الإمام الصادق (ع) وهما من السهل الممتنع، في عبارات سهلة ميسرة للفهم،  إلا أنهما يشتملان على جميع القواعد في الأصول وإسقاطاتها على الفروع في فقه الإمام الصادق (ع)، ولكنك تجد إعراضاً لا مبرر له من الكثير ممن هم على رأس الهرم الحوزوي، وقد تسأل فلا تجد جواباً، وربما يكون الجواب: إن تعقيد العبارة هو الذي يُكسب المعنى عمقاً، حال أن ذلك على خلاف الواقع، فالواقع أن تأتي بالقاعدة ضمن قالب يمكن أن يصل إليه الإنسان.

لاحظوا مثلاً القرآن الكريم، وهو النازل من الله سبحانه وتعالى بواسطة الروح الأمين على النبي محمد (ص) الذي لا يجارى في محتواه، إلا أن العبائر التي بنى عليها هيكلته يستطيع أن يقترب منها الأعرابي الذي لا يفقه شيئاً، وكذلك من كان متعمقاً في العلم ولديه القدرة على الإمساك بالكثير من القواعد والعناصر في الآية الشريفة فيأخذ منها ما يستطيع أو ما يظهر له منها.

فالشيخ محمد جواد مغنية دخل في الفقه من أوسع أبوابه ولا يمكن أن يُردّ، لأنه فقيه مجاز أسوةً بغيره من الفقهاء، إلا أنه أبى إلا أن يجعل الفقه في متناول الجميع، وهو خطوةٌ ساوقه فيها الإمام الشهيد الصدر من خلال كتابه الفتاوى الواضحة التي كتبها للمكلفين ولم يكتبها لتعجيز رجال الدين، ناهيك عن المكلفين أنفسهم.

6 ـ السيد محمد حسين فضل الله:  

كما أن المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رضوان الله تعالى على روحه) تقدم هو الآخر بسفينة التجديد والتحديث إلى مسافات بعيدة، صحيح أن الهجمة كانت شرسة، إلا أنه استطاع من عوالم وعيه التي يعيشها أن يحافظ على حركة القافلة في حالة من التهدئة الطيبة المباركة الموصلة نحو الهدف. وقد طرق أبواب التاريخ وتركها مفتحةً أمام الأجيال، وعلى الأجيال أن يقفوا مع أنفسهم وقفةً صادقة ليحاكموا ما جاء به، ولكن بحالة من الاحترام للطرف الآخر.

الحكمة ضالة المؤمن:

أيها الأحبة: يصلنا الكثير من الموروث، والحكمة ضالة المؤمن، وفي الرواية الشريفة عن الإمام الصادق (ع): «الحكمة ضالة المؤمن فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها»([3]).

وعن الإمام أمير المؤمنين (ع): «خُذ الحكمةَ أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق، فتَلَجْلَجُ في صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن»([4]). وقال (ع): «خذ الحكمة ممن أتاك بها، وانظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال‏»([5]).

فإن كان أخذ الحكمة من المنافق والمشرك والمجنون سائغ ومقبول، فما بالنا لا نقبلها من بعضنا، حتى من أبناء الزهراء وعلي ومحمد (صلوات الله عليهم أجمعين)؟ وما لنا نقبل ما هو منتج في داخلنا في أوساط الحوزات العلمية؟ نعم، لا نسلّم تسليماً، ولا نقبل لأنفسنا أن نكون من المسلّمين تسليماً، بل علينا أن نقف أمام المفردات والآراء والأحكام والنظريات والتوجهات وقفة تأمل، فنقبل ما نقبل ونرفض ما نرفض، مع احترام الذوات.

فالمرجع السيد محمد حسين فضل الله، تقدم أيضاً في الكثير من المسارات، وإن كان يُحسب له تحريك هذا الملف (الفقهي) والضريبة التي دفعها دفعته عند الله إن شاء الله لمراتب العلا في جنان الخلد.

7 ـ الشيخ عبد الهادي الفضلي:

ثم يأتي في إطار هذا المسار العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي، وهو ابن الأحساء، الرجل العظيم العالم الأديب المفكر الناقد الاجتماعي، الذي عاش الناس في أوساطهم، وعاشه الناس أيضاً في أوساطهم. هذا الشيخ الجليل قدم الكثير من الدراسات، وحاول أن يصحح الكثير من المسارات، ولو أن حوزة الأحساء بالذات، أخذت بما أشار عليها به، لكان الحال أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، لكنها أدارت له ظهرها ولم تسمع منه شيئاً، لذا نرى أن العملية متعثرة.

هؤلاء الأعلام إذا جمعنا نتاجهم، نجد أنهم تقدموا بالمسار الحوزوي لمسارات، وإن كان بعض الجماعات لا يحلو لهم أن يسلموا ويقروا بالواقع، وآخرون ذهبوا مع المشهد إلى ما هو متوازن، وآخر ثالث ذهب إلى البعيد وبات في مربع ربما يُستغل في ضرب بعض الجهات.

وقفة مع حوزة قم:

إن حوزة قم اليوم هي النموذج الأروع بين الحوزات العلمية المعاصرة لا سيما في نصف القرن الأخير. فهذه الحوزة تتقدم على غيرها بناءً على موردين هامين، بعد تحقق مجموعة من المقدمات الكثيرة، ربما أشير إليها. وهذان المردان هما:

1 ـ أكدمة البحوث الحوزوية: فلا يمكن أن نواكب ركب الحضارة والتقدم اليوم، في الوقت الذي لا نستطيع أن نقنع أنفسنا إلا بكتاب من الوريقات الصُّفر، والحروف المتشابكة، التي ننفق عليها الكثير من أعمارنا لنفكك العبارة فقط، ناهيك عما تنطوي عليه، وما هو مكتنز في داخلها. فحوزة قم وضعت خطة البحث الأكاديمي الذي نهضت به الأمم، واستطاعوا أن يصلوا إلى مسافات بعيدة، وهذه حقيقة لمن أنصف نفسه في إصدار الأحكام.

2 ـ إنشاء المراكز التخصصية: وهو مطلب مهم، وينبغي أن يكون هذا الأمر في كافة الحوزات العلمية.

متطلبات الواقع وأولوياته: 

وعندئذٍ نسأل: هل أن ما نعيشه اليوم من تجاذبات في أكثر من موطن، لها ما يستوجبها؟ أو أنها تدور في دائرة العبثية؟ وإن كان الثاني، فمن هو المسؤول عن تلك العبثية؟ هل هم رجال الدين من خلال موقعهم الحوزوي؟ أم هي الطبقة المثقفة التي يفترض أن تكون قد تقدمت في مسارها وأحكمت جمع أوراقها؟ أما عامة الناس من حولهم، الذين قد يمثلون السواد الأعظم؟ وهي المنطقة الرمادية التي تقول: هذا لا يعنيني، ويكفيني أن أصلي خلف فلان، وأن أزور الإمام، وأن أحج ما استطعت، ولا شيء بعد ذلك خلف الجبل؟

إننا نجد كلاً من أطراف الطيف الثلاثة يلقي باللائمة على الآخر، فماذا لو استبدلنا ذلك بتظافر الجهود فيما بينهم؟ لماذا يلغي رجلُ الدين ما للمثقف من دور يفترض أن ينهض به؟ ولماذا يقلل المثقف من أهمية الدور الموكل لرجل الدين؟ ثم لماذا لا تكون لهذا الجمهور الطويل العريض الذي يملأ الساحات، ويمكن أن يُتجند به ومن خلاله، كلمة في مثل هذه المواقف؟ ومن يصادر كلمة هذا الشارع لقرون مضت ولقرون تأتي؟ فهنالك مصادرة واضحة، وإن كان من حق الماضين أن يبرروا ويعللوا فما حقكم أنتم في مساحة التبرير والتعليل؟

أليس الإمام الحسن (ع) الذي استفتحنا الحديث بكلامه يدعو إلى التعلم فيقول: «إنكم صغار قومٍ، ويوشَك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم، فمن يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته»([6]). ألا يشكّل هذا الحديث قوةً دافعة لقافلتنا نحو الأمام؟ وما الذي ننتظره حينئذٍ؟ هل ننتظر من يأخذ بنا إلى هنا أو هناك؟ سؤال يطرح نفسه، وربما يتجدد في أكثر من مكان وزمان.

ربما يقول أحدنا: إن ما نعيشه من جدليات له ما يستوجبه، ألا ترى أن الدين يذهب أدراج الرياح؟ نجيب هؤلاء بالقول: وهل الدين من الهشاشة بهذه المثابة بحيث تسقطه مفردة تاريخية هنا أو هناك؟ أو مناقشة هناك تطيح به؟ أو مقولة هنا أو هناك تأتي على بنيانه من الأساس؟ ديننا أقوى من ذلك، وطريقتنا أسمى، فإذا ما شذّبنا وصححنا ودفعنا استطعنا أن نحافظ عليه، فالدين قوي بذاته، ولديه القدرة أن يحمي نفسه أمام جميع التقلبات. فلا داعي أن أرى ـ وأنا الشخص الضعيف ـ أن بيدي القوة التي من خلالها أحقق الحماية للقوي، ولماذا لا يكون العكس؟

ربّ قائل يقول: لا مستوجب لتلك الصراعات. والحق مع هؤلاء، لأن الصراع والتجاذب اليوم ليس من أجل تقوية الدين وحمايته، إنما من أجل المكاسب المادية، من المواقع والشهرة، فلا دين ولا قضية عند الكثيرين، ولا يتحركون من أجل علي ولا الزهراء (ع) أو محمد أبداً، فالقضية كلها مادية.

فمن باب المثال أن تصدر كلمة من البعض لها ألف وجه ووجه من التوجيه، إلا أننا نرى أن الدنيا تقام من أجلها ولا تقعد، لأن فيها مساساً بمرجع معين، ولكن عندما تصدر نفس الكلمة بحق مرجع آخر لا نجد من ذلك شيئاً!.

فأستاذنا المرجع الشيخ مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى)، صاحب أكبر درس فقه عرفته الطائفة منذ يومها الأول إلى اليوم، وهو أحد المراجع السبعة الذين اختارتهم جماعة المدرسين، وقد نص سبعة وثلاثون مجتهداً على أهليته للمرجعية أسوةً بأقرانه، كأستاذنا الشيخ الوحيد، وأستاذنا الشيخ التبريزي، وأستاذنا الفاضل اللنكراني، والسيد القائد الخامنئي، والشيخ بهجت، والشيخ شبير الزنجاني، وغيرهم.

مع هذا كله يأتي (صعلوك) من لندن فينعته بنعثل الحوزة، فلا نسمع من ينبس ببنت شفة، لا من حوزة قم ولا من حوزة النجف، ولكن عندما يقترب باحثٌ أو عالم في النقاش من دائرة أمر معين يصبح ضالاً مضلاً، بل ابتدعوا اليوم أمراً جديداً وهو وصفه بالملحد! بالله عليكم، هل هنالك مرجع ملحد؟ متى يخجل هؤلاء من أنفسهم؟.

ولكن كما قيل: من أمن العقوبة أساء الأدب، فهؤلاء لم يعاقبوا ولم يؤدبوا.

أيها الأحبة: إننا نُجلد بين الفينة والأخرى بعصا دعوى المرجعية، أي أن أحدنا عندما يفتح فمه بكلمة يقال له: هذه مرجعية. نعم، مرجعية، والمرجعية محترمة بلا شك، ولكن ما هذه الانتقائية؟ فهذا مرجع وذلك مرجع. فلماذا يكون مرجعك مقدساً ومرجع غيرك غير مقدس؟ ولماذا تطالبني باحترام مرجعك ولا تحترم أنت مرجعي؟ هل نحن أشبه بمشجعي النوادي الرياضية بحيث يشجع كل منا فريقه ويطعن بالآخر؟

لم يكن في زمن أصحاب الأئمة هذا التفرق، ولم نسمع أن زرارة كان مرجعاً مختلفاً عن غيره، ولا الأصبغ بن نباتة من قبله، وحتى في الرعيل الأول من المرجعية الأولى بعد زمن الغيبة، لم نسمع بآية العظمى الكليني مثلاً في مقابل غيره، ولم نسمع بالمرجع الأعلى الشيخ الصدوق، ولا في زمن الأعلام الثلاثة، المفيد والمرتضى والطوسي، وهنالك آلاف العلماء في وسط أتباع مدرسة أهل البيت (ع) وكان الجميع يأخذ عنهم الآراء ولم يكن هنالك بأس. أما اليوم فحتى الرسالة العملية أصبحت كأنها شعار للنادي الرياضي الذي يشجعه الفرد.

في جبل عامل لما جاء الشهيد الأول والثاني أحدثا نقلة نوعية ووضعوا حجر الأساس لتأسيس المرجعيات، ثم جاءت الدولة الصفوية وتبعتها القاجارية ثم الفهلوية ورسخوا هذا المفهوم في وسط الأمة، وجذّروه، ثم سرنا نحن في هذا المسار. ففي الوقت الذي كان يقال: إن مرجع الطائفة الأعلى هو السيد أبو الحسن الإصفهاني، كانت مراجع الأحساء منها وفيها، وكذلك مراجع البحرين منها وفيها، ولبنان والهند وباكستان وغيرها، ولم نكن مجبرين على وضع خاص. فكل المراجع محترمون مقدرون، وليكن سائر المراجع في الأصقاع الأخرى أيضاً محترمين مقدرين، فليس من الصحيح الحط من شأن مرجع، أياً كان، ولا نرضى بالحط من شأن أحدهم لرفع الآخر.

فنحن أحرص من غيرنا على المرجعية والحفاظ عليها، وأكثر ذوباناً فيها منهم، ولكن بالحكمة والعقل، وبالمسلك الدليلي والبرهاني، لا بالعاطفة. لذلك نحترم من يستحق الاحترام ونقدسه ونقدره، ومن لدينا التحفظ عليه نتحفظ أيضاً.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.