نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (42)

نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (42)

عدد الزوار: 1298

2018-03-03

الجمعة 1439/6/6هـ

 

6 / 6 / 1439 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف: «أكثروا من‏ الصلاة عليّ في الليلة الغراء واليوم الأزهر، ليلة الجمعة ويوم الجمعة. فسُئِل: إلى كم الكثير؟ قال: إلى مائة، وما زادت فهو أفضل»([2]).

الوسطية في مقام المرجع:

بناء على ما تقدم الكلام فيه، نقف بين معالم ثلاث مدرس، كل منها يجتذب الأمور لصالحه: فالأولى تجنح إلى تعطيل المرجعيات، وإلغاء الأدوار المناطة بها. والثانية تميل إلى إلغاء المرجعيات وتعطيل جميع الأمور إلا ما كان مضافاً إليها. أما الثالثة وهي التي يجنح إليها الإنسان المعتدل الوسطي، ألا وهي المدرسة الوسطية، التي يميل إليها أصحاب العقول الراشدة والنفوس المطمئنة والآفاق البعيدة.

أما أصحاب المسار الأول، الذي يجنحون نحو تعطيل دور المرجعيات وإلغائه بالمطلق، فلسنا معهم، فللمرجعيات مسؤوليات لا بد أن تقوم بها، ولها حقوق، وعليها واجبات. وكم من قضية دخلت فيها المرجعية فكانت عاصمة للوحدة، ومنجية من الفتن والتفرق.    

وأما المدرسة الثانية التي تجنح نحو الغلو في المرجعيات، فلسنا معها أيضاً بالمطلق، لأنها تلغي الكثير من أدوار أبناء الأمة، وكأننا نجعل ما كان للمعصوم بالمطلق، للمرجع بالمطلق. وليس لهذا مستند، لا من آية قرآنية، ولا من رواية شريفة، بل حتى التوقيع المنسوب للإمام، عليه الكثير من الملاحظات سنداً ودلالة، وقد أشبعه العلماء بحثاً، بمن فيهم العلماء العظماء، وهم من الكثرة بمكان، بحيث يطول المقام بذكر أسمائهم.

فمن يغالي بالمرجعية يأخذها إلى مساحةٍ، دائرتها وصبغتها الأولى الهوى والرغبة والمصلحة، فالمرجعية هي عبارة عن امتداد طبيعي لمسار الفتوى في وسط الأمة، وهذا هو حقها ومقامها ويُحفظ لها ويُتعبد به، ما دام الدليل قائماً على الفتوى، ولا يمكن أن نعطي المرجع أكثر من ذلك، فهو إنسان كسائر الناس، سواء من الماضين الذي انتقلوا إلى رحمة الله، أم من الموجودين الذين نتمتع اليوم بفيوضاتهم العلمية وعطائهم العملي. فهؤلاء وأولئك تبقى دائرتهم في هذه الحدود الممكنة، أما أن نجعل من المرجع باباً من أبواب الله، أو واسطة بيننا وبين الله تعالى، فهذه مقامات المعصومين (ع).

فلا ينبغي أن نذهب بعيداً. ويبقى المرجع مقدراً محترماً، لكنه في حدود ذلك الإنسان الذي أتى من بيئته، قريةً أو مدينة، فدخل الحوزة العلمية كغيره من الناس، ولم يكن في حسبانه أن يكون مرجعاً أو لا يكون. فليس المرجع كعلي أو الحسن أو الحسين (ع) أو غيرهم من المعصومين، كي نذكر لهم الكرامات التي لم يُنزل الله بها من سلطان، وهم لم يدّعوا لأنفسهم هذه الكرامات أو تلك المنزلة، بل متى ما ادعى أحدهم ذلك وضعنا عليه ألف علامة استفهام، فالله تعالى يقول: ﴿فَلَا تُزَكُّوْا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾([3]).

ولا ينبغي أيضاً أن نجلد الآخرين بعصا رأي المرجع، لأن المراجع كُثر، ولكل منهم رأيه وتوجهه، فهذا يذهب باتجاه، وذلك باتجاه آخر مناقض، ولكل منهما دليله، فلا يمكنك إلزام الآخرين برأي أحدٍ دون الآخر، إلا فيما اتُّفق عليه.

إننا نجد أن الأنبياء والأئمة (ع) مع ما لهم من الشأن والمقام الإلهي كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويفترشون الأرض في الجلوس، فلا ينبغي أن نعطي المرجع أكثر من حجم الإمام المعصوم.

يقول أحدهم مخاطباً المراجع: بكم عرفنا الله!. وهذا من الغلو، لأننا عرفنا الله تعالى بالنبي (ص) والإمام (ع) ولم نكن قبل المرجع كفاراً.

حدود التقليد وضوابطه:

فلذلك أهمس في آذن الشباب وأكرر ما قلت سابقاً: إن علاقتنا بالمرجع في حدود الفتوى والحكم الشرعي الذي نتعبد به، أما أن نرجع إليه في تشخيص الموضوعات الخارجية فلا، كما لو قال: فلان ليس بشيعي، أو فلان ليس بعادل، أو غير تلك الأمور الخارجة عن إطار الحكم والفتوى. وهذا ليس من عمل المراجع أعزهم الله تعالى، إنما من عمل الحواشي والوشاة. فلا بد أن ننتبه، لأن مستقبلكم غير مستقبلنا، وزمانكم غير زماننا، فلا تجعلوا الآخرين يحرفون بوصلاتكم، وعليكم الاستمرار في دراساتكم العليا، فالمستقبل لا يعترف بشهادات صغيرة، إلا الشهادات العليا. ولا تشغلوا أنفسكم بالقيل والقال، واعملوا على تنظيم حياتكم، وعبّدوا الطريق إلى الجنة. وارسموا الابتسامة على شفاه الآباء والأبناء والبلاد والوطن، ولا شأن لكم بغيركم، أساء أم أحسن.

إن مقامات أئمتنا (ع) لا يقاس بها أحد، وهذه عقيدتنا، وسوف نُسأل عنها يوم القيامة، كما أن احترامنا للمراجع والعلماء من صميم أخلاقنا وثوابتنا، ولكن لا أن نخرج عن حدود الاحترام والعمل بالأحكام، إلى التقديس اللامحدود، فهذا ما لا نسمح لأنفسنا به، ولا نستطيع أن نعطي المرجع أكثر مما له.

لقد كان الحال في تلك الأزمنة، حتى حدود القرن الأخير، في كل قرية أو مدينة مرجع، بل في كل منطقة اثنان أو ثلاثة، فلمَ لا نتقبّل ذلك اليوم؟ فهل أن علماءنا اليوم غير صالحين كما كانوا عليه من قبل؟.

لقد كانت البحرين في يوم من الأيام تعجّ بالآلاف من العلماء والمحدثين، فهل أنها اليوم قاصرة وعاجزة أن يكون فيها من يرجع إليه الناس؟ وكذلك جبل عامل وغيرهما من المناطق.

أيها المؤمن: أنت كبير عند الله، فلا تجعل نفسك في مستوىً أقل، ولا تقلل من شأنك، وعليك أن تعتز بشخصيتك كما يعتز الآخر، فهذا حقٌّ مشروع.

إن الوسطية هي المسار الأمثل، ونحن نميل للوسطية، فلا نلغي دور المرجعية بالمطلق، ولا نعطيها مقام المعصوم بالمطلق. فالمرجعية جهة شريفة عالمة عاملة محترمة، ونحن معها في المسار الوسطي.    

إلا أن هذه النظرة والنزعة الوسطية تعاني بدورها من المسارين الآخرين، وهما مسار الإفراط والتفريط، ففي الوقت الذي تجد أن المرجع ينهج نهج الوسطية، تجد أن الجناح الآخر من القراءات، وهو جناح الغلو، يحاربه حرباً لا هوادة فيه، وهذا ليس جديداً في أوساطنا.

الأمة الوسط في القرآن الكريم:

والوسطية منهج القرآن ومنطقه، ومن ذهب باتجاه الغلو أو باتجاه التفريط وإلغاء دور المرجعيات، فلا دليل لديه من القرآن، أما الاتجاه الوسطي فالقرآن معه والسنة الشريفة أيضاً.

أما القرآن الكريم فيقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وسطاً﴾([4])، والمرجع جزء من الأمة، وليس هو الأمة. لذلك تجد أن السيد المرجع السيستاني (حفظه الله تعالى) ينتهج نهج الوسطية، ويحاول إيجاد حالة التوازن. أما إذا وُجدت سواتر وكوابح وموجبات لحرف المسار، فهي من خارج دائرة السيد المرجع ذاته.

وأما في السنة الشريفة فقد ورد عن الأئمة (ع) قولهم: «وإياكم والغلو في‏ الدين،‏ فإنما هلك مَنْ قَبلَكُم بالغُلوّ في الدين»([5]). فهنالك مزايدات في مجالات كثيرة، منها المزايدة في العبادة أو القراءة أو ما أشبه ذلك من الممارسات. ولكن للأسف، لا تجد الغلو إلا في مثل تلك المجالات، فأنت تراه يطيل الركوع والسجود ويحسن القراءة والدعاء، إلا أنك لو دخلت معه في معاملة فلن تجد من ذلك الغلو شيئاً، لأن تلك العبادة لم تكن صادقة، ولم تتغلغل في النفس لتنعكس على السلوك.

 

وعنه (ص): أنه قال: «إن هذا الدين‏ متين،‏ فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكرِّهُوا عبادةَ الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبتّ، الذي لا سفراً قطع ولا ظهرا أبقى‏»([6]). فالنبي (ص) بما له من العظمة والمنزلة خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿طه~ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى﴾([7]). وهو نبي الرحمة والقدوة والأسوة.

من ثمار الوسطية: الانفتاح وتحقيق الاستقرار:

إن الفقيه الذي ينحو منحى الوسطية، هو ذلك الفقيه الذي يعيش الانفتاح، فالانفتاح من ثمار الوسطية، فأنا إن كنت وسطياً قبلتُ بالانفتاح على الآخر، أما إذا كنت متطرفاً، سواء في الإفراط أم التفريط، فسوف أسير بلا توقف حتى يصطدم رأسي في صخرة.

ومن مقومات الفقيه المهمة الانفتاح على المدارس الأخرى، فليس هنالك فقيه اليوم يستطيع الانغلاق على مصادرنا الخاصة. وينبغي أن نلاحظ أيضاً أن المدارس الأخرى الشقيقة تطورت وتقدمت عندها مناهج البحث العلمي، وكليات أصول الفقه اليوم في جامعات العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه تبحث وتُنقّح. فلا نستطيع اليوم أن نُقصر عقول الحوزويين على كفاية الآخوند فقط، ولا على مكاسب الشيخ الأنصاري فحسب، ولا بد أن نلاحظ العالم وتغيراته، فهذه النظريات التي مر عليها مئة أو مئتا سنة ينبغي أن تُدرس في أُطر أخرى، فلا قدسية لنظرية عالم، والجميع على طاولة البحث وإعادة النظر، مع حفظ الاحترام لصاحب النظرية. فالانفتاح على المدارس الأخرى مهم جداً.

كما أن الوسطية تحقق لنا الهدوء والاستقرار في جميع البلدان والمجتمعات، فنحن نلاحظ أن الوسطية عندما غابت عن بعض الذهنيات في أطراف معينة، عجّت الأمة بحمامات الدماء ولم تجف، ولن تجفّ ما دام هناك من يغذيها بالفتاوى.

من هنا نرى أن الوقوف على كل ما هو جديد، بغية التلاقح الفكري أمر مهم جداً، وقد ولى زمن الانغلاق على النفس وعدم الانفتاح على الآخر.

الموقف ممن يدعي مشاهدة الحجة (عج):

وهنا أود التنبيه لأمر مهم، وهو أننا نسمع اليوم عن الكثيرين، من الرجال والنساء، ممن يدّعون أنهم شاهدوا المهدي (عج) ولكن هنالك فتوى للسيدين العليين (حفظهما الله تعالى)، تنص على أن من ادعى ذلك فيجب تكذيبه.

يقول السيد الخامنئي (حفظه الله تعالى): «الواجب على المؤمنين ـ أيدهم الله تعالى ـ عدم تصديق المدّعين للمشاهدة والرؤية، وعدم الانجرار وراء هذا الادعاءات، بل عليهم تكذيبها ولإنكار على مدعيها».

وهذا ما نقوله نحن، ويقوله غيرنا، فماذا يقول المدعون بعد ذلك؟ هل يتهموننا في عقيدتنا؟ أم يتهمون السيد القائد في عقيدته؟

ويقول السيد المرجع (حفظه الله تعالى): ­«إن الموقف الشرعي تجاه من يزعم اللقاء بإمام العصر ـ أرواحنا فداه ـ مباشرة، أو عن طريق الرؤيا في زمن الغيبة، والادعاء بأخذ الأوامر أو غيرها عنه (صلوات الله عليه وسلامه) من الأمور المعلوم بطلانها. ونحن نهيب بإخواننا المؤمنين ـ وفقهم الله لمراضيه ـ أن لا ينساقوا وراء مثل هذه الدعاوى، ولا يساهموا في نشرها والترويج لها بأي نحو من الأنحاء».

فهل وراء هذا كلام؟

نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.