نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (41)

نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (41)

عدد الزوار: 2173

2018-02-25

الجمعة 1439/5/29هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إذا ذُكر النبي (ص) فأكثروا الصلاة عليه، فإنه من صلى على النبي (ص) صلاة واحدة، صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة، ولم يبق شي‏ء مما خلقه الله إلا صلى على العبد، لصلاة الله عليه، وصلاة ملائكته، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور، قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته»([2]). ‏

بذل العلم وإنفاقه:

من كلام لسيدنا الإمام علي (ع) مولى المتقين: «إن لله عباداً يختصهم الله بالنِّعم لمنافع العباد، فيُقرها في أيديهم ما بَذَلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، ثم حولها إلى غيرهم»([3]).

النعم كثيرة ولا يمكن الوقوف على عددها، والقرآن الكريم يؤكد هذا بقوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوْهَا﴾([4]). والنعم ودائع بين أيدينا، وبعضها أسباب، منها ما يرتبط بالجانب المادي، كالأموال والممتلكات، ومنها ما يرتبط بالجانب المعنوي، وهو كثير، وفي مقدمة ذلك العلم، فكما أن المادة تُنتزع من بين يدي أصحابها، كذلك العلم يُنتزع من رؤوس حامليه إذا ما توقفوا عن البذل، فالنتيجة إذن محسومة.

والإمام علي (ع) يدق ناقوس الخطر هنا، ويطرق مغاليق باب لو انفتح لترتبت عليه الكثير من الكوارث، ولعل الكثير منا يلمس الضرر والأخطار والمفاسد المترتبة على منع بذل المال في وجوهه، لكنه ربما يعرض عما يترتب على عدم بذل العلم من الآثار والأخطار والمفاسد، والسبب في ذلك هو أن المبتلى في الظاهر والأكثر مساساً هو النوع الأول على حساب النوع الثاني، أو لأن طبيعة الإنسان أنه قريب من العوالم المادية لأنها حسية تُلمس بأدنى أداة توصل إليها، أما الثاني فيحتاج إلى مزيد من التعقل والتدبر والتفكر والتأمل.

وهنالكم مفارقة كبيرة بين الأمرين يؤكدها القرآن الكريم، فالمنع في الجوانب المادية تكون أخطاره معدودة محسوبة ومعدودة، بل في منتهى القلة إذا ما قيست بالجانب الثاني، لذلك جاء الحث في القرآن الكريم على التأمل والتدبر والتفكر والتمعن والسير في عوالم الماضين، وما خلفوه وراءهم، ونتاج الحاضرين وما يبدعون فيه وما يُستشرف، وهذا حق لجميع بني البشر، فعليهم أن يتعاطَوا هذا الجانب إذا ما أرادوا أن يقدموا إجابة مقنعة ومرضية لأنفسهم أولاً وبالذات، ثم للمحيط من حولهم.

من هو الفقيه:

كنا نتحدث عن الفقيه، من هو؟ ونحن اليوم بمسيس الحاجة أن نبحث عن الفقيه من هو؟ فقد تشابه البقر علينا مع شديد الأسف، وحيث إنه تشابه، فعلينا أن نستوضح الأمور ونستجليها.

وربما يقول البعض: لماذا نستخدم بعض المفردات القاسية؟ أقول: لقد استخدمها القرآن الكريم، فقال مثلاً: ﴿كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً﴾([5]). فلم يقل: يحمل أموالاً ولا عقارات ولا ذهباً، إنما ذكر الأسفار، والأسفار تشتمل على العلوم، فالخطاب نقدي ولاذع وصريح وشديد تجاه العلماء، قبل أن يكون باتجاه عموم الناس. فلا موجب للتحسس والامتعاض من تعبيرات القرآن الكريم والنبي الأعظم (ص) والنصوص الشريفة في أحاديث أهل البيت (ع). فالإمام علي (ع) يقول مخاطباً البعض: «يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال»([6]).

إننا عندما نطلق تعبيرات مشابهة نجد أن البعض يقيم الدنيا ولا يقعدها، وليته إذ يقيمها يكون حاضراً وجهاً لوجه أمام من يقيمها عليه، لكي يستوضح منه الحال، ويناقشه بصراحة وشرف، بعيداً عن الكلام من وراء الظهر. ومن كان لا يقف أمام الآخر بشرف في الدنيا، فسوف يحرم من شرف الآخرة، لأن مقام المؤمن عند الله تعالى وحرمته أعظم من حرمة الكعبة.

وحدة الصف ومحاصرة الفتن:

يقول البعض: لا داعي لاستمرار بحثكم في الفقيه حق الفقيه، لكنكم ترون ما يحصل، فتجد عالماً مجتهداً في الحوزة العلمية تصدر بحقه فتاوى استناداً لأمور غير ثابتة في حقه. فالعالم إن لم يظهر علمه في مثل هذه المواقف فمعنى ذلك أنه يرضى بالظلم والتجاوز. فمنذ متى كانت الفتاوى تصدر بحق علمائنا ومراجعنا، هذا ضال، وهذا خارج عن المذهب وهذا كافر؟ ومن أين جاءت هذه الظاهرة؟. فبالأمس فضل الله، واليوم الحيدري، وقبلها الشيخ الوائلي، وهكذا.

إن السيد المرجع يطلب منا جميعاً أن لا نسبّ رموز الغير، فتخرج مسيرة من المعممين بين الحرمين الشريفين ولا أحد يقول لهم قفوا.

إن هؤلاء لا يشعرون بالخطر، ولا يراعون الأقليات الشيعية في أكثر من مكان ومكان في العالم، وما يدفعونه من الثمن الباهض، ولو أنهم كانوا يشعرون بالمسؤولية، ويتلمسون مواطن الخطر لما صمتوا. فتجدهم بسبب مسألة أخرى لها علاقة بالمال يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، وبذلك يصبح المال مقدماً على المذهب.

وأنا هنا لا أناصر أحداً، ولا يعنيني أحدٌ أبداً، وكلٌّ من هؤلاء قائم بذاته، وأعز الله مراجعنا وعلماءنا الشرفاء، وهم ليسوا بحاجة لي، ولا أنا بحاجة لهم، إلا أنني أقولها كلمة حق: والله إن بقي الشارع صامتاً، فسيدفع ثمناً باهض التكاليف. فنحن لدينا أربعة عشر معصوماً ليس هنالك سواهم، وكل من عداهم يُذنب كما أُذنب أنا، ويخطئ كما أخطئ، وينتظره حساب وثواب وعقاب كما ينتظرني وينتظر غيري، ولا خصوصية لأحد ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ ~ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾([7])، وهذه لا يستثنى منها مرجع ولا عالم ولا خطيب ولا سيد، إنما هي للجميع: ﴿وَقِفُوْهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُوْلُوْنَ﴾([8])، وسؤال العالم أقسى من سؤال المقلد.

لذلك أقول بكل وضوح، وكما هو الرأي الفقهي: إن رابطتنا بالمرجع هي أخذ التكاليف الشرعية التي نبتلى بها عنه. فنحن نرجع إليه لأنه مرجع في تلك الأحكام، أما المرجع الآخر الذي لا نرجع إليه فلا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد.

الذي يعنيني هو مرجعي أنا، ولا شأن لي بالآخر، ولست معنياً بفتوى مرجع آخر، وهذا ما عليه مراجعنا جميعاً، ودونكم المراجع اسألوهم: هل يجوز أن نتعبد بآراء غير المرجع الذي نقلده؟

من الأمثلة على ذلك أنه عندما يقام احتفال في الحسينية، يسأل البعض عن التصفيق: هل يجوز أن نصفق في مواليد وأفراح أهل البيت (ع)؟ فأجيبه بما هو واضح من رأيي منذ زمن بعيد، وهو الجواز. فيقول: ولكن المرجع الفلاني له رأي آخر. فأقول: الذي يعنيني هو رأي مرجعنا، فلا أستطيع أن ألغي فرحةً في صدور المئات من المؤمنين من أجل بضعة أشخاص، فما دام مرجعهم يجيز لهم التصفيق فلماذا نمنعهم؟.

أقول بوضوح: لو أن مرجعاً من المراجع أصدر فتوى في فلان من الناس خطيباً كان أم مجتهداً أم مرجعاً أم غيره، تصفه بالضلال أو الطرد من الدين أو المذهب، فهذه الفتوى لا تعنيني، لأن هذه موضوعات خارجية تعنينا نحن ولا تعني المرجع، فنحن الذين نبحث ونرتب الآثار سلباً أم إيجاباً.  

وقد قلت مراراً: إن المرجع لو قال بدخول الشهر وظهور الهلال، ولم يحصل لدي اطمئنان، فلست ملزماً بكلامه. فلا نريد أن يكون المرجع سوطاً بيد البعض يجلد به المؤمنين، ويصادر عقولهم وأفكارهم.

إن كل من يحترم نفسه نحترمه، وكل من يتجاوز على الذوات الطيبة سيكون أقل من موطئ الأقدام، كائناً من كان. وقد سكتّ أكثر من سنة لم أتكلم، ولكن عندما وصل الأمر إلى غيري كان لا بد لي أن أدافع عنه، لأنني يمكن أن أتغاضى عن حقي، لكن أن تهتك مساحة من علمائنا بهذا الأسلوب فلا.

لقد تشابه البقر علينا حقاً. ومن هنا ينبغي الاستمرار في بحث من هو الفقيه.

فقه الحدود والتعزيرات:

إن فقه الحدود والتعزيرات من الأبواب المعطلة عندنا، فلم يكن لهذا الباب من الفقه فاعلية إلى ما قبل 40 عاماً، حتى أن البعض كان يقول أيام دراستنا للّمعة الدمشقية: لا داعي لدراسة هذا الباب، لأنه لا وجود للمحاكم والحدود والتعزيرات. ولكن بعد قيام الدولة هناك صاروا يحتاجون الآلاف من القضاة، لذلك اهتموا بالحدود والتعزيرات والمواريث وأمثالها، وهذا فقه الحاجة، لا فقه المسؤولية.

وموضوع هذا الباب هو الجرائم المادية أو المعنوية، التي تستوجب حداً أو قصاصاً أو تعزيراً، بسبب الاعتداء على الأرواح أو الأموال أو الأعراض والأبدان، ومتى ما غاب تفعيل هذا البند، وصار الحق يُشترى بالأموال، أي بالمصالحة بدفع المال لصاحب الحق كي يتنازل، فانتظروا الأسوأ. وسوف يفرح من أجرم وأفلت من العقاب وأصحابه ومريدوه، ولكنه ينسى أن الجرح باقٍ في من تعرض للجرم. فالله تعالى عندما أقرّ الحدود والتعزيرات والقصاص لم يكن قاسياً، بل كان أعدل العادلين، وأرحم الراحمين، إلا أنه يريد أن يضع حدّاً للتسيب والفوضى.

فمن موارد هذا الباب القذف، وهو إلصاق التهم اللاأخلاقية بالآخر، والقاضي هو الكفيل بوضع حدّ لهذه الجرائم، ولا بد أن يستمد قوته من الجهات الرسمية.

ومنها الاختلاس، وهو معروف.

والهدف من تطبيق هذا الباب هو حفظ الأمن العام وحماية الأفراد والمجتمعات. ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى الشدة والإصرار على تطبيق الأنظمة.

نلاحظ مثلاً في قوانين المرور أن هناك الكثير من الأرواح تزهق، لكننا في الوقت نفسه نمتعض ونتضايق من القانون، حال أننا يفترض أن نطالب بتطبيقه بقوة حفظاً لهذه الأرواح.

إن فقه النَّظم العام فقه مهم جداً، والمراد بهم القضاء بجميع أشكاله. فلماذا نجد أن من أراد الطلاق مثلاً يبقى على الأبواب سنتين، فيما تُنهي المحاكم العامة القضية في سويعات؟ ألا تخشون الله في هؤلاء الفقراء؟ ألا يكفيهم ما يصابون بهم من الطلاق وآثاره السيئة؟ ألا يكفي هذا إلا أن يدفعوا بعض المبالغ المالية؟

إن مشكلتنا اليوم أننا نذهب للمحاكم ولا ندري ما لنا وما علينا، ونذهب للبنوك فلا ندري ما لنا وما علينا، وكذلك المستشفى والحوزة وغيرهما.

فقه الجهاد:

ومن تلك الأبواب فقه الجهاد، وهو الكتاب الملغى المعلق في الكثير من الرسائل العملية، وصار يُبحث بخجل مع شديد الأسف، ومن يبحثه محسوب على جهة معينة.

إن هذا الباب لم تقلب الكثير من صفحاته قبل أربعين عاماً، أما في تلك السنوات الأربعين فنشاهد أن الكثير من صفحاته أخذت تُقلّب بشكل آخر، فصار الكثير من الناس يفتي فيه كيفما شاء، بل صار الإفتاء لمن هبّ ودبّ. وصارت أنهر الدم تجري من أفغانستان حتى العراق وسوريا ولبنان وغيرها من بقاع الأرض، ذلك لأن باب الجهاد كان مغلقاً، ولما فتح لم يفتح كما ينبغي، فصار الإفتاء بيد من هب ودب، لأن البقر تشابه علينا. وهذا في جميع مدارس المسلمين الخاصة والعامة، ففي الأزمنة السابقة كان العالم السني أو مفتي الديار أو كبار العلماء بمستوى المسؤولية، بغض النظر عن توجهاتهم، أما اليوم فأصبح الإفتاء بيد الصغار، وبعضهم لم يكمل التخرج من كلية الفقه.

إن موضوع الجهاد هو ما يكون بين الشعوب الأقوام والدول، ونحن نعلم أن هذه الشعوب والأقوام والدول لم تغب يوماً، فلماذا عُطل هذا الباب طيلة تلك السنين والقرون؟ بل إن هذا الباب يشمل حتى حالات السلم، وليس حالات الحرب فقط، لذلك ينبغي أن يحرك هذا الملف كغيره من الملفات.    

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق والحمد لله رب العالمين.