نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (4)

نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (4)

عدد الزوار: 734

2017-02-12

الجمعة 7 / 4 / 1438 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

غفر الله لنا ولكم وبارك علينا وعليكم ذكرى ميلاد الإمام الحسن العسكري (ع) .

في الحديث الشريف عنهم (ع) عن رسول الله (ص) : «إذا ذُكر النبي (ص) فأكثروا الصلاة عليه فإنه من صلى على النبي (ص) صلاةً واحدةً صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة، ولم يبق شيء مما خلقه الله إلا صلى على العبد لصلاة الله وصلاة ملائكته، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته»([2]).

نظرة في القصص القرآني:

قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي‏ قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ما كَانَ حَديثاً يُفْتَرى‏ وَلكِنْ تَصْديقَ الَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾([3]).

وفي موطن آخر يقول تعالى: ﴿وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ‏ بِهِ‏ فُؤادَكَ وَجَاءَكَ في‏ هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([4]).

الخطاب القرآني خطاب سماوي موجه بالمباشرة لقلب النبي المصطفى محمد (ص) تتغير الأزمنة وتتبدل الأماكن وتتكثر المواضيع، ولكن يبقى القرآن هو القرآن، يقطع الزمن ويتجاوز المكان ويتخطى المواضيع. وهو دستور هداية وطريقٌ موصل إلى الله تعالى، من تمسك به نجا، ومن تخلى عنه غرق وهوى.

وقد ذكرت في الأسبوع الماضي أن القرآن الكريم قدم لنا نماذج عدة من القصص فيما يتعلق بالأنبياء والرسل مع أقوامهم وأممهم. فلكل رسول شرعته ومنهاجه، لكن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو الإسلام الذي أرادته السماء أن يرسم معالم السلم في بعديه الخاص والعام بين بني البشر.

والقرآن لسان ناطق ومعبر عن أدق الأمور بل أكثرها دقة وحساسيةً وتماساً مع عقلية البشر. فالناس يلجون أو يقتربون، ويبتعدون أو ينأون عن القرآن، وكل من خلال الموروث الذي يتحرك على أساسه.

والعلوم والمعارف اليوم لها إسهاماتها وإسقاطاتها الكبيرة في صقل مواهب الناس في جانبها العقلي المتفرع عنه الثقافة والفكر. وربما لا يروق ذلك للبعض، لأن ما يترتب على هذه الحالة من الطفرة النوعية يُتلف شطراً من مصالحه الآنية بطبيعة الحال، لكن الذين يعيشون كمالاً وثقةً في أنفسهم من أعلام الأمة وأقطابها نذروا أنفسهم من أجل أن تتقدم الأمة، لذلك ضحى المضحون، وسوف نقف على سيرة واحد من هؤلاء الأعلام الأقطاب الكبار الذين حوربوا وتم إقصاؤهم عن المشاهد العلمية والفكرية والمعرفية طيلة قرون متعاقبة، ولكنه بقي ذلكم النجم الذي من خلال سناه يخترق جميع الحجرات المظلمة التي أراد البعض أن يوصد أبوابها على نفسه، لا لشيء إلا لأنه رسم الطريق وحدد الهدف، وتعامل مع جهة واحدة لم يشرك فيها الجهات الأخر، ألا وهي التعامل مع الله سبحانه وتعالى.

 مراتب المرحلة الثانية من تطور المرجعية: 

أشرنا في الأسبوع الماضي إلى المرتبة الثانية (ب) من مراتب المرحلة الثانية في تطور الحوزة والمرجعية، وهي الفترة الواقعة بين رحيل الشيخ الطوسي إلى نهضة مدرسة الحلة الفيحاء.

ج ـ مدرسة الحلة: والحلة مدينة العلم والأدب والتاريخ والفن والكرم والنخوة والجمال والطبيعة، ويكفي أن الجنائن المعلقة فيها، وهي من عجائب الدنيا التي تتربع في أحضان تلك المدينة الطيبة. فهي تاريخ يضرب في أعمق التواريخ في النسيج البشري، ومما لا شك فيه أن لذلك انعكاساته وإشراقاته وتمتد أبعاده في أكثر من اتجاه واتجاه، ومن أنصف نفسه في القراءة والمقاربة لا يحتاج إلى مزيد عناء كي يستكشف تلك المواطن من خلال ما قدمه الأعلام من أبناء هذه المدينة العامرة الخالدة التي تستطيع بموروثها أن تنافس أكبر عواصم العلم والمعرفة في أوساطنا.

إن مدرسة الحلة تعني الحركة بعد الجمود، والاجتهاد بعد التقليد. ويتربع على عرش تلك المدرسة ابن إدريس الحلي صاحب السرائر، فهو واضع حجر الأساس لمدرسة التجديد في الفقه الجعفري.

ابن إدريس الحلي:

ولد ابن إدريس في الحلة سنة 543 هـ وتوفي سنة 598 هـ فكان قصير العمر، إذ لم يبلغ سوى 55 سنة، إلا أنه كان بعيد المدى في علمه، فلم يشغل حيزاً كبيراً من الزمن، لكنه أشبعه ببصماته. ولم يتمتع بالعمر كثيراً كما تمتع الكثيرون ممن طوى صفحتهم التراب، لكنه أبى إلا أن يكون اسمه منقوشاً، لا على التراب، إنما في الصدور الطيبة الطاهرة الواعية المنفتحة. فهو يعبر القرون لأنه أمسك بأسباب ما يؤمّن له أن يعبر القرون كي يستقر في ذهنية أمثال هؤلاء.

وقد تخرج على يديه جمعٌ من الأقطاب، ومنهم ابن نما الحلي، وهو أيضاً عَلمٌ من الأعلام وطود من الأطواد، له بصمات طويلة عريضة، تكشفت على أساسها أسرار معارف الرجال. والقائمة تطول بالتلامذة الذين تخرجوا على يديه، وفي ذلك إشارة وإيماءة واضحة وبينه أنه كان يحظى بكرسي رفيع المستوى، حيث بات محطّ أنظار أمثال هؤلاء الذين تخرجوا على يديه.

خلّف ابن إدريس وراءه تراثاً علمياً ضخماً من حيث الكم والكيف، وهو محل اعتبار الكبار من أعلام الطائفة الذين كسروا في داخلهم حالة الانغلاق والانعزال والتوقف عند نسق معين، لذلك تجد آراء ذلك الرجل العظيم تحظى بعناية خاصة عند هؤلاء، على العكس من ذلك عند من لا يرغب لنفسه أن تتنفس هواء الانفتاح على المعلومة والمعرفة وحتى الفتيا في آفاقها الرحبة.

مؤلفاته النوعية:

أما مصنفاته فهي كثيرة وغنية جداً، إذ كتب كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، ومن خلال هذا الكتاب استطاع الشيخ الجليل وهو في ريعان شبابه مشرفاً على الكهولة أن يفتح باباً واسعاً للمقلدين من المجتهدين. وفي اعتقادي وتصوري أن جمعاً من المجتهدين هم مقلِّدة، لأنهم لا يتجاوزون حدود ما أفتى به وقدمه الباحثون من قبلهم، فهم في الغالبية العظمى يعيشون كَلاً على من تقدمهم. ولكن هنالك أفراد استطاعوا أن يكسروا تلك الحواجز وأن يلجوا من خلال تلك الأبواب إلى فضاءات مدنٍ علمية واسعة استطاعت من خلال زادها ومعينها الصافي أن تفرض وجودها. وشيخنا ابن إدريس الحلي له بصمة واضحة بينة لا ينكرها ولا يتجاهلها إلا جاهل.

لقد مر على الطائفة حالة من الجمود والتقليد شملت مجموعة من المواقع والحواضر العلمية، وإن لم تكن مستحوذة على الجميع، لأننا لا نستطيع أن ننكر جهود بعض الأعلام في الفترة الفاصلة بين الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه، وابن إدريس الحلي رضوان الله عليه، رافع لواء الفتح الكبير في مدرسة الفقه الإمامي. لا سيما في كتابه السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي.

أما الكتاب الثاني فهو خلاصة الاستدلال، ثم منتخب كتاب التبيان، ثم التعليقات، ورسالة في معنى الناصب. وقد طبعت آثاره في أربعة عشر مجلداً، كلها تمثل الثراء والغنى، وليس فيها الغث، إنما فيها الجواهر المنتقاة التي نظمها في خيط واحد، تقلب فيها من فنٍّ إلى فن، فقرأ الكلام وأبدع فيه، وطرق باب الأصول وسافر به، وتعمق بمفردات الفقه وفروعه، وأضاف عليها، وهكذا دواليك في الأبواب الأخرى من أبواب العلوم التي عرفتها الحوزات العلمية عبر مسيرتها الطويلة.

رائد مدرسة النقد:

من هنا يعتبر ابن إدريس الحلي (رائد مدرسة النقد) في الفقه الإمامي، وإن جاز لنا أن نعنون فقيهاً بهذا العنوان فهو أولى وأجدر أن ينال هذا المنصب والعنوان العظيم.

إن الإنسان عندما ينتقد مسيرة ما، شخصيةً كانت أم نوعية، فردية أم جماعية، فإنما يكون ذلك عندما يلتفت الناقد إلى الوراء قليلاً، ويقلب الأوراق في تؤدة وأناة، ثم يضع العلامات والاستفهامات على مفاصلها، كي يتحرك في التصحيح والتقويم بناء على علم ومعرفة بمواطن الخلل. وحسبُ ابن إدريس الحلي أنه أجاد في هذا الجانب، فإذا كان يحسب لابن خلدون أنه وضع من خلال مقدمته علم الاجتماع، وأسس لهذا الفن الضخم الجبار، فإن ابن إدريس الحلي له الفضل في وضع القواعد والأسس والتطبيقات لفن النقد في مدرسة أتباع أهل البيت (ع).

هنالك كتاب تحت عنوان: ابن إدريس الحلي رائد مدرسة النقد في الفقه الإسلامي، وهو في مجلد واحد، مجموع صفحاته 498 صفحة، لمؤلفه علي همت بناري، وترجمة العلامة المحقق الشيخ حيدر حب الله حفظه الله، فهذا المؤلف درس الشيخ ابن إدريس الحلي وقدمه للحوزات العلمية وما وراءها، وحريّ بشبابنا أن يقتنوا هذا الكتاب، ويتصفحوا أوراقه، ويتنقلوا مع الحبكة العلمية فيه والدقة في الترجمة من قبل المحقق الكبير والعالم الجليل الشيخ حيدر حب الله.

مظاهر التحجر العلمي:

إن مظاهر التحجر في الحوزات العلمية كثيرة جداً، لكن ابن إدريس الحلي رحمه الله نبذها ورفضها ولم يتقبلها بالمطلق، ولم يجعل منها قيداً يحول دون أن يشحذ ريشة قلمه، ويرسم معالم فقه كله حركة، وكله تطلّع للقادم من الأيام، وتحسب نفسك وأنت تقرأ فتاواه من خلال كتاب السرائر أنك تتعامل مع إنسان يعيش في أوساطنا اليوم لا أنه يعيش في القرن السادس الهجري.

إنها العظمة والاستشراف والصفاء والتخلي عن القيود التي يريد البعض أن يكبل بها جمعاً لا يستهان به من أصحاب القلم والرأي والفكر والمتابعة والتواصل مع المراكز العلمية في أكثر من جهة وجهة.

فمن مظاهر التحجر والجمود التي يمكن أن نشير إليها:

1 ـ التقليد التراكمي بين المجتهدين: وهو وليد حسن الظن من التلميذ بأستاذه، وهذا إن كان في الدائرة الصغيرة فهو أمر محبوب ومرغوب، كي لا يجمح الإنسان ويدخل في دائرة الغرور، ولكن هنالك شعرة دقيقة جداً بين هذا وذاك، فمن يعطي رأياً ونظراً في مقابل مشهور أو يسقط إجماعاً من أساسه، فذلك لا يعني بالضرورة أن حالة الغرور باتت تكتنف ذلك الإنسان الذي خرج من طوق الدائرة المفروضة عليه، بل على العكس من ذلك تماماً، ولو كان هذا الكلام صحيحاً لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من تقنية عالية باتت تختصر المسافات وتؤمّن لنا الراحة في أكثر من مضمار ومضمار، بل تؤمّن لنا السبق في كثير من الميادين.

فالتقليد التراكمي واحدة من قواصم الظهر التي لا زال أتباع مدرسة أهل البيت (ع) يدفعون ضريبتها عالية التكاليف باهظة الثمن.

2 ـ رفض التجديد داخل المكون الحوزوي شكلاً ومضموناً: وفي هذا الجانب طامة كبرى أيضاً. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»([5])، وهنا يطرق الإمام أمير المؤمنين مسار الزمان والمكاني الذي يبنى عليه اليوم الكثير من الأمور في حالة التقدم في عالم البشرية.

وقد استوقفني موقف يذكره العلامة الشهيد المطهري قدست نفسه الزكية، يصف فيه حال الحوزة العلمية في قم قبل قرابة قرن من الزمن أيام الشيخ عبد الكريم الحائري رضوان الله تعالى على روحه المقدسة.

يقول الشيخ المطهري: أراد الشيخ عبد الكريم الحائري أن يدخل اللغة الإنكليزية في دراسة الحوزة العلمية، فثارت ثائرة التقليديين من المجتهدين، ومن يسير خلفهم ممن لا يعون الشيء الكثير إلا المصلحة الآنية الذاتية.

 الصراع بين التقليد والتجديد:

ومن حقي أن أسأل ومن حقك أن تسأل: لماذا الشيخ الحائري؟ الجواب أن الشيخ الحائري درس في النجف الأشرف وكربلاء وسامراء أيام المجدد الشيرازي الكبير قُدست نفسه الطاهرة، وبذلك جمع بين خصال الكمال في حوزات ثلاث، لكل واحدة منهن مذاقها ومسارها وفكرها الخاص الذي تفاخر به وتتقدم على أساسه على بقية الحواضر. فسامراء في يوم من الأيام كانت حاضرة علمية كبيرة جداً وهي أشبه بالشمس التي إذا طلعت غابت النجوم، حال أن النجوم موجودة، لشدة الضوء المنبعث من الشمس.

فسامراء في يوم من الأيام، وبفضل وجود السيد المجدد والأقطاب من حوله استطاعت أن تسلب الأضواء عن بقية الحواضر العلمية، وكانت واحدة من ثمراتها ذلك الشيخ الجليل مؤسس حوزة قم في ربيعها الأخير.

فقد كانت قم قبل النجف منذ أيام الأشعريين، ثم تراجعت، واشتد عودها أيام الصدوقين، ثم تراجعت، ثم تقدمت أيام الصفويين، ثم تراجعت، ثم تقدمت بالفتح الجديد على يد الشيخ الجليل عبد الكريم الحائري.

فمن خصائص حوزة سامراء تعدد اللغات في أوساطها، حتى اللغة العبرية كان هناك من يتحدث بها، لذا نجد أن الشيخ محمد جواد البلاغي رضوان الله عليه وهو إمام مدرسة التفسير، وأحد أساتذة السيد الخوئي (قدس سره) مرجع الطائفة وزعيم الحوزة في وقته، كان يتحدث العبرية بإتقان، ومن خلالها استطاع أن يفك شفرات مجموعة من النصوص  العبرية، ومنها استفاد في فك بعض الشفرات في القرآن الكريم.

فالشيخ عبد الكريم الحائري ابن هذه المدرسة في مرحلة من مراحل حياته، لذا أراد أن ينطلق بالحوزة للآفاق العالمية، لكن الذهنيات المتحجرة من أصحاب المصالح والمنافع الخاصة وقفوا أمامه سداً منيعاً، وأفتوا بإشكالية دفع الأموال الشرعية لمن يدرس اللغة الإنكليزية.

أما الإمام السيد محسن الحكيم (قدس سره) ـ وهو أحد أعلام الطائفة، وأحد رجالات ثورة العشرين إلى جانب أستاذه الكبير، آية الله العظمى المجاهد الأكبر، السيد محمد سعيد الحبوبي ـ فكان يمتلك الكثير من الجرأة، إلا أن جدار الصد أمامه كان قاسياً، ومع ذلك تسلل من خلاله في بعض المواطن وأفتى بفتيا كان لها قيمتها الكبرى، إذ أسست لمرحلة آتية.

فمن الفتاوى التي تميز بها فتوى طهارة الكتابي، وليس من السهل أن يغربل الفقيه المجتهد الأدلة وينتهي إلى طهارة الكتابي ويفتي بطهارته.

ولن أتحدث كثيراً في هذا الموضوع، إنما أترك الكلام للشيخ محمد جواد مغنية (رحمة الله عليه) إذ يقول في كتابه فقه الإمام الصادق (ع) وهو من كتب الفقه الإمامي المتقدم المتحضر لكنه لم يُضف لآية عظمى ليحظى بالشهرة.

يقول رحمه الله وهو يصف حال الفتوى عند بعض الأعلام: عاصرت ثلاثة مراجع كبار، من أهل الفتيا والتقليد، الأول كان في النجف الأشرف، وهو الشيخ محمد رضا آل ياسين([6])، والثاني في قم السيد صدر الدين الصدر (رضوان الله تعالى عليه) والثالث في لبنان، السيد محسن الأمين (رضوان الله تعالى عليه) وقد أفتوا جميعاً بالطهارة، وأسروا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوِّشين. على أن الشيخ (أي الشيخ محمد رضا آل ياسين) كان أجرأ من الجميع.

ثم يقول: وأنا على يقين بأن كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل([7]) والله أحق أن يخشوه.   

أي أنهم لم يكونوا يستطيعون التصريح بتلك الفتوى، وهم الذين وصفتهم يوماً بأنهم (شليلة) فامتعض البعض من ذلك الوصف. إلا أن هذا القائل هو محمد جواد مغنية العالم المجتهد المسلَّم الاجتهاد، صاحب الآراء الجريئة، وهو يصفهم بالمهوشين. وهذا أمر طبيعي، فليس كل من في الحوزة النجفية هو السيد المرجع في النجف، ولا كل من في حوزة قم هو الشيخ المكارم، وهكذا دواليك.  

إننا نجد أن الحياة في المجتمع الأحسائي كانت سهلة مرنة يوم لم يكن فيها غير المسلمين، أما عند مجيء العمالة الأجنبية فتغير الوضع، وصاروا يبحثون عن طهارة الكتابي وما وراء الكتابي.

يقول زعيم الطائفة في وقته السيد محمد حسين البروجردي رحمه الله: إن التقية من أصحابنا أهم وأعلى. ولا أريد أن أعلق وأوضح، لأن توضيح الواضحات من أكبر المشكلات.

فالسيد الحكيم رضوان الله عليه أفتى بالطهارة دون اكتراث مما قد يحصل.

إن العقبات التي تقف سداً منيعاً في وجه المتنورين من الفقهاء كثيرة، لو أردنا إحصاءها لطال بنا المقام، وتشتتت الأفكار، وفغرت فاغرة النفاق، وظهرت حسيكته. مع كل ذلك آمل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتمكن فيه الفرد أن يتكلم بمطلق الحرية ويستعرض الآراء في فضاء رحب.

عقبات في طريق الإبداع والتجديد:

أما العوائق والعقبات التي تقف في طريق الإبداع فكثيرة، وأؤكد مفردة الإبداع، لأننا نجد اليوم أن هناك الكثير من الكتب تطبع، لكن مستوى الإبداع يحتاج إلى بحث وتأمل. رغ أن حاجة الناس ماسة للتقدم على كافة المحاور:

1 ـ  الانغلاق على المكون نفسه: وهو المكون الحوزوي، ويتجلى ذلك من خلال مواطن عديدة.

2 ـ مصادر البحث العلمي الموروثة المكررة: ولكم أن تتصوروا أن رحى العلم في البحوث العليا الخارج تدور على كتابين يقاربان القرن الثالث.

في أمريكا تجد في المكتبات العالمية الكبرى أن الكتاب الذي يمر عليه ثلاث سنوات لا نصيب له من طاولة العرض، إنما يؤرشف ويبقى رهين الأرشيف. فالحوزة العلمية يفد إليها أصحاب عقول وطاقات جبارة لكنها مهدرة أو مكبلة، فمتى تنعتق.

نسأل الله سبحان وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.