نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (33)

نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (33)

عدد الزوار: 1186

2017-12-10

الجمعة 19 / 3 / 1439 هـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

الوسطية بين النظرية والواقعية:

في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (ص) أنه قال: «إن هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»([2]).

وفي كلام لأحد علماء عصرنا يقول: يؤسفني أن تُنقل على المنابر مضامين ضعيفة من حيث السند والدلالة، وأمور مخربة للأذهان. إلى أن يقول حفظه الله: لماذا ننقل مسائل لا يمكن إثباتها للأذهان المستبصرة والواعية؟.

الوسطية مفهوم طويل عريض، يكاد يذهب بين أبناء الأمة أدراج الرياح، والأسباب التي تقف وراء ذلك كثيرة سوف أقف على شطر منها بمعونة الله تعالى.

فثمة عوامل تؤمّن لهذا المفهوم بقاءه واستقراره وقدرته على الحراك في دائرة الثبات، كما أن ثمة عوامل على النقيض من ذلك تماماً تقف حائلاً دون تفعيله، بل تتسبب في الإجهاز عليه، وما من مفهوم إلا ويحتاج إلى الكثير من إعمال النظر فيه.

وعلماء الأمة هم من تناط بهم المسؤولية في ذلك، في الجانب التنظيري بطبيعة الحال، أما في الجانب الواقعي التطبيقي الخارجي، فالعلماء وسائر أبناء الأمة على حد سواء.

إن الوسطية متى ما وجدت لنفسها مجالاً يترتب عليها الكثير، كالهدوء والاستقرار، ويتفرع عن ذلك حركة الفكر والإبداع، ودوران عجلة الاقتصاد، وسكون المجتمعات، وارتياح الحكومات، أما إذا اختل هذا المفهوم، فإن ذلك كله يتداعى وينهار.

عوامل الحفاظ على الوسطية:

إن العوامل المساعدة في الحفاظ على الوسطية بين أبناء الأمة كثيرة جداً، وقفتُ على أهم العناصر فيها. بل إن النبي الأعظم (ص) من الأساس جاء بشرعة تحمل طابع الوسطية، وتؤصّل له وتجذّر وترتب الآثار أيضاً. وسيرة النبي (ص) التي استمعنا إلى الكثير من أبعادها خلال الأيام الماضية في ذكرى مولده الشريف، وذكرى مولد حفيده (ع) ربما كشفت لنا جانباً من ذلك الواقع الذي جسده النبي (ص) وسط الأمة واندفع المسلمون وقتها في سبيل تثبيته.

أولاً ـ الوقوف على أبعاد الرسالة:

فمن تلك العوامل، الوقوف على أبعاد الرسالة، وهو عامل قوي من عوامل تجذير الوسطية، فنحن مسلمون، إلا أن الكثير منا مسلمٌ بالهوية والإضافة، أما مبادئ الإسلام وحيثياته وآثاره في سلوكنا وتعاملنا مع القريب والبعيد فهي الأهم. فالمسلم «من سلم المسلمون من لسانه ويده»([3])، فهل سلم المسلمون من لسان البعض ويده فعلاً؟

ويقول النبي (ص): «خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([4]). فهل نحن كذلك في الواقع؟ وهل لهذا المعنى تجسدٌ خارجي في البيوت والأسر؟

ويقول (ص): « مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيءٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([5]). ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً»([6])، فهل نحن كالجسد الواحد والبنيان المرصوص بالفعل؟ وهل لهذا الأمر واقعية في داخلنا؟

فالوقوف على أبعاد الرسالة هو الذي يؤمّن تلك الحالة. إلا أن هذه المفردة بحد ذاتها بحاجة إلى الكثير من الروافد.

فمن تلك الروافد:

1 ـ إحياء مدرسة القرآن الكريم في وسط الأمة: لا بالحفظ والاستظهار والمسابقات الشكلية التي تقام اليوم في الكثير من المحافل والمواطن من بلاد المسلمين وخارجها، فالشكل الظاهري لا يخطو بالأمة خطوات إلى الأمام، بل قد يكلفها الكثير، ولو في البعد المادي، فهنالك ثروة طائلة تهدر على المسابقات، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ليس أكثر من حفظ القرآن مثلاً، ثم ماذا بعد ذلك؟ هل استنطق المسلم القرآن، وفكر وتدبر وتأمل وانطلق من خلال مفاهيمه ومعطياته؟ أو أنه لا يتجاوز عنوان (الحافظ) الذي يحدد مواقع الآيات والسور بدقة متناهية؟

إن من يأتي يوم القيامة لا يحفظ تلك الآيات بالشكل الذي عليه من يحفظها، ولم يخرج من الدنيا إلا بسورة الفاتحة وسورة قصيرة لتصحيح صلاته، فهل يسأله الله تعالى عن عدم حفظه القرآن؟

لا شك أن حفظ القرآن أمر حسن ومهم، لكن الأهم من ذلك ما انتدبنا إليه القرآن الكريم نفسه وهو القراءة بتأمل وتدبر، وإلا فإن الببغاء أيضاً يمكنه أن يحفظ الكثير من القرآن بالتلقين، فهل يكون أفضل من البشر.

إن القرآن الكريم ـ مع الأسف ـ يشكو الغربة اليوم في وسط الأمة، لذا أصبح الشتات يلف المشهد، والضياع والانهيار والتخاذل والتراجع والاستسلام والانبطاح، وفي نهاية المطاف المشاركة بالجرم. فلو كان المسلم يعيش الإسلام كما أراده الله تعالى، وكما جاء به النبي الأعظم (ص) لما سارت الأمور بهذا الشك الذي نحن عليه اليوم.

2 ـ إعادة الوجه المشرق لمدرسة الحديث: ففي الوقت الذي تتحرك عجلة النقد من موقع إلى موقع، ارتفعت من جديد رايةٌ لتصحيح الأحاديث الضعيفة بل حتى الموضوعة، والتماس الطرق الملتوية من خلال مدرسة علم الرجال، لتصحيح نصوص كارثية على أتباع المدرسة من حيث الدلالة، وكذلك على الأمة بشكل عام. بل إن بعض النصوص تفوح منها رائجة الوضع من مسافة بعيدة، ولا تحتاج إلى المزيد من الجهد، لأنها تصطدم مع أبسط النظم والقواعد المعمول بها في الدين.

فلا بد إذن من إعادة الإشراق من جديد إلى السنة المطهرة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) وهذا لا يكون إلا من علماء أمناء على الأمة والدين والرسالة والفكر والدماء، فلا نستطيع اليوم أن نطلق كلمة العالم دون تقييد، فهذا الإطلاق السيّال ينطبق على كثيرين لا يستحقون هذا المسمى.

3 ـ مداورة أقوال العلماء الذين لهم بصمتهم من الماضين والمعاصرين: فكثير هم العلماء الذين كتبوا، ولكن دفنت كتبهم معهم وأفكارهم في عقولهم، أو في دفاترهم في أحسن التقادير، لكنها لحقت بهم سريعاً. فللكثير من هؤلاء بصمة، والبصمة في مساحة الفكر تبقى مؤثرة وإن مات صاحبها، فهي أشبه بالجينات في المكون الإنساني، تلاحق الذرية جيلاً بعد جيل، وهكذا بصمة الفكر تنتقل من جيل إلى جيل. فتجد بين المجتمعات مجتمعاً خاملاً، لأن بصمة العالم فيه خاملة ضعيفة، أو أنها شُيّعت معه. وتجد مجتمعاً آخر ناهضاً حركياً، يقرأ ويتقدم، وفي كل يوم له وضع، فعندما تبحث عن السر تجد أن للعالم فيه بصمته، ولا زالت تلك البصمة مؤثرة.

وقد أشار الحديث الشريف إلى ذلك بقوله: «الفقهاء أمناء الرسل، ما لم يدخلوا في الدنيا»([7]). وقوله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([8]). فهؤلاء العلماء لهم بصماتهم، فالعلماء بمئات الآلاف من الفريقين، بل أكثر، إلا أن الأسماء التي لها شخوصها ووجودها لدى هذا الفريق أو ذاك هي أسماء معدودة ومحفوظة، لأن بصمتهم ثابتة وقوية سواء في جانب المعقول أم المنقول أم فيهما معاً، وهو للمتميزين منهم.

فعندما نغربل آراء هؤلاء، بعيداً عن التقديس، فلا شك أن بصماتهم ستكون ذات أثر كبير. وينبغي أن لا نقدس عالماً عاش قبل ألف سنة أو أكثر، أو عالماً آخر نعيشه اليوم، بناء على أشخاصهم، بل يجب احترامهم بناءً على عطائهم، وما يقدمونه للأمة. وإني أتصور أن العقلية اليوم تختلف تماماً عما كانت عليه بالأمس، لذا يُراهَن عليها، وإن أصابها بعض الفتور في بعض المراحل، إلا أن أصول القضية تبقى موجودة ومحفوظة، متى ما استثيرت سوف تؤتي ثمارها.  

ثانياً ـ إدارة عجلة العلوم الدينية والمدنية من جديد: فهي بمثابة السد المنيع أمام الغلو والتطرف والخرافية بكل أشكالها.

أما العلم المدني فإن شبابنا اليوم بحمد الله اندفعوا في جميع الاتجاهات، فلا يكاد بيت يخلو اليوم من رقم أكاديمي كبير، أستاذ بروفسور أو دكتور أو مهندس أو غير ذلك، ونحن نراهن على أن جيلنا القادم هو جيل الأساتذة الكبار والشهادات العليا.

وأنتم أيها الشباب من النشء الصاعد، أخاطبكم بالمباشر فأقول: أنتم أهل لذلك، غاية ما في الأمر أن تكون هنالك عناية ومتابعة من قبل أولياء الأمور، مع جهد مضاعف منكم، فغيركم لا يتميز عليكم بشيء. تحركوا تصلوا، وابذلوا جهداً تحققوا الطموحات.

ويؤسفني أن يكون في ثانوية أجنادين قبل يومين اجتماع لأولياء الأمور، فيحضر من مجموع أولياء الأمور قرابة أربعين شخصاً فقط، مع أن عدد الطلاب كان ثمانمئة وعشرة.

إننا لا يمكن أن ننتظر جيلاً متقدماً ناهضاً واعداً والحال هذه، فما ذكرناه من حضور العدد القليل جداً من أولياء الأمور يمثل مأساةً. ثم نأتي بعد ذلك لنطلب من أولادنا النجاح والتفوق، ونحن الذين قصرنا وضيعنا كثيراً.

فعلينا أن نتابع أبناءنا حتى لو وصلوا إلى الجامعات، ومن لا يستطيع الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة يمكنه الاتصال. وأنا أكرر دائماً وأقول: إذا أردت طالباً متميزاً متقدماً فاسأل نفسك: هل تحتفظ بواسطة اتصال مع أستاذه ووكيل مدرسته أو مديرها أو لا؟ عليك أن تجيب عن هذا التساؤل، ثم كن خصيم نفسك، احكم لها أو عليها، قبل أن تعتب على الولد، أو تقول له: ابن الجيران خير منك. فأنت الذي جعلته كذلك، لأنك لو قمت بمسؤوليتك كما يجب، ولعبت الدور كما ينبغي، لكان ابنك أفضل من غيره. أما لو تخليت عن دورك فلا بد أن يتقدم الآخرون على ولدك.

هذا عن العلوم المدنية. وأما العلوم الدينية فإن الحوزات العلمية اليوم ينتظرها الكثير أيضاً، وهنالك شيء من التراجع الواضح البين، على الأقل في دائرة النتاج، فهو في أحسن الظروف إعادة لما تقدم، أما الإبداع فلا يكاد يذكر.

لنأخذ مثلاً موضوع أصول الفقه ـ وأنا ابن الحوزة ـ فعجلة هذا العلم منذ أربعين سنة تراوح مكانها، وليس هناك من جديد. فعالم الإبداع الذي كان يسود الساحة في زمن الآخوند الخراساني، ومحمد حسين الإصفهاني، والميرزا النائيني والأقا ضياء الدين العراقي وحتى زمان الشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه) قُرئت عليه الفاتحة، وعلى هذا قس ما سواه. فالفلسفة نائمة، والفقه في أدنى حالاته وأضعفها خلا بعض الشذرات والرموز. ولو أن أحداً طرح رأياً متقدماً في الفقه فسوف تقوم الدنيا ولا تقعد، وتستعر عليه نيران جهنم.

فالفقه الواعي الحركي الذي يتماهى مع واقع الأمة المتقدمة المتحركة لا بد أن تكون له القيادة والريادة والسيادة في وسط الأمة، وهذا كلام عام، أريدُ له أن يتعدى المساحات وأن يطبق الكثير منها، ولا يقف في حد معين من حدود الزمان، ومن يعتقد أنني أغمز أو ألمز في جهة معينة فهو واهم، لأنه لا يحمل من التقدير والحب والعرفان بالجميل للمرجعيات عبر التاريخ أكثر مما أحمل. وهذا الكلام أقوله لمن يتهم وليس لكم أنتم. ولكنْ هذا أمر، وأن أنتقد المسيرة والحركة أمرٌ آخر، فالله تعالى أمرني بذلك، وكذلك النبي (ص) والأئمة (ع) بالإضافة إلى العقل والمنطق. فلا بد أن نغربل الأمور، لأن المؤمن كيّس فطن. فلو أن العجلة دارت كما ينبغي لكان الحال أفضل بكثير مما نحن عليه.

إنني أعتقد أن الجانب الأكاديمي اليوم متقدم كثيراً على الجانب الديني، لذا نجد أن المشهد مختل، فعندما يتفوه الأكاديمي بكلمة واحدة تكون ردة الفعل عنيفة، لأن عجلة الأكاديمي أصبحت تتقدم على عجلة الديني، حال أن المفترض أن يتقدم كل منهما باتجاه الآخر كي تستقيم المسيرة وتأخذ القافلة طريقها إلى حيث يراد لها أن تصل.

فإن تمت هذه الاستدارة فلا مكان بعدُ للخرافة والتطرف والغلو وأمثال ذلك مما يراد تسويقه إلينا من خلال المنابر، كما نص على ذلك السيد العظيم الذي أشرت إلى كلامه    .

ثالثاً ـ الإفادة من العقل في حركته الإيجابية: بعيداً عن عوامل الكبت والمصادرة الموجهة مباشرةً لحركة الفكر الإنساني القيادي الذي بنى نفسه ووصل، وهم كثر والحمد لله تعالى.

إن إدارة العقل مسؤوليتي ومسؤوليتك ومسؤولية الجميع، فالأمة عندما يُحرَّك عقلها تتحرك، والعكس بالعكس. فنحن اليوم نرى سباتاً واضحاً، ففي الزمن السابق كان الناس يتعاطون بعض المواد الغذائية المحفزة لحركة العقل، أما اليوم فعلى العكس من ذلك، إذ أصبحوا يتعاطون المخدّر للعقل، كي لا يتحرك، ولا نعني به المخدر المعروف، كالأقراص والحقن المخدرة، إنما هو مخدر سلطة الإنسان المفروضة بلا وجه شرع. فهناك القمع بالفتوى أو الموقف أو المقاطعة أو قطع لقمة العيش، وهلم جرا، فهل يمكن أن يبقى بعد ذلك فكر أو يتحرك عقل.

رابعاً ـ التبحر في تجارب الماضين: وهو علم مستأنف. فالنظر إلى تجارب الماضين إما أن يكون بعين الازدراء بسبب الغرور بالتقنية الموجودة اليوم، أو بعين التقديس الأعمى، والتقليد لما مضى. فهناك من يأتيك بالرأي من العالم الفلاني في الكتاب الفلاني، فيقدسه تقديساً لا حدود له، حال أنه بشر، ومهما كان محترماً مقدساً فلا يعني التشبث بكل ما يراه، لأن الرأي غير القائل، فتقديس القائل لا يعني بالضرورة تقديس القول.

من هنا نجد اليوم أن الذي يتحرك في وسط الأمة في الكثير من الأحيان ليس فكر النبي (ص) والأئمة (ع) إنما هو فكر الرجال. لذا تجد أن الكثير منا يستميت في الدفاع عن رأي مرجع تقليده، والآخر يستميت في التمسك برأي من يراه مقدساً.

خامساً ـ الصبر والتحمل: فالنبي الأعظم (ص) عبر بالرسالة إلى حيث أراد بسلاح الصبر، وقد تحمل كثيراً، وأوذي بما لم يؤذ به نبي قبله. أوذي في نفسه وأهله ورسالته، حتى آخر لحظة من حياته، إلى أنه كان صابراً محتسباً.

فالإنسان القدوة في وسط الأمة ينبغي أن يقتدي بالنبي (ص) وأن يتحمل ويصبر. والشاعر يقول:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة   على القلب من وقع الحسام المهندِ

فالصبر يجعل الإنسان يترك السيف في غمده، ويترك السهم في كنانته. فأمضى سلاح في الحياة بعد حركة العقل والعلم هو الصبر. وهو سلاح الأنبياء والرسل والأولياء والمصلحين عبر التاريخ، فبقدر ما كانوا يتحلون به من صبر، تحقق بأيديهم من المنجز.

فلا بد إذن من الصبر، وبخلافه لا يمكن أن يتحقق شيء في هذه الحياة، وسوف يخرج الإنسان من هذه الدنيا بلا بصمة يتركها خلفه. فأنت أيها الأكاديمي لا بد أن تترك خلفك بصمة في الحياة. وأنت أيضاً أيها الديني لا بد أن تكون لك بصمة تُعرف بها، فإن غبت عن المجالس بشخصك، حضرت من خلال فكرك وعطائك وعملك وإنتاجك. أما إذا غاب الإنسان دون بصمة تذكر فيغيب معه كل شيء، فالعلاقات والسفرات والولائم لا تبني مجداً، ولا تخلق ثقافة ولا تحقق شيئاً.

يقول القرآن الكريم: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلْو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾([9]). فلو رأيت أمةً تلهث وراء مفردة أو اسمٍ أو فعل أو حرف مستقطع فاقرأ عليها السلام. على العكس من ذلك لو كانت تلك الأمة تعيش الفكر وتغربله.

ويقول القرآن الكر يم في موطن آخر: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِيْنَ لَا يُوْقِنُونَ﴾([10]). فالله تعالى وعدك بالكرامة والإنجاز والوصول إلى الهدف، وطلب منك الصبر. فلو أنك انسحبت من الساحة لمجرد كلمة قيلت لك، أو شتيمة قيلت فيك، أو انتقاد وجه إليك، فلا صبر لك. فقبل أن ندرس العلوم والمعارف لا بد أن نقرأ وندرس الصبر وما له من قيمة.

فلو أن السيدة زينب (ع) لم تكن متسلحة بسلاح الصبر، لما وصلت إلينا كربلاء، فلا يكفي أن يقتل الإمام الحسين (ع) كما قتل أبوه الإمام علي (ع)، لكن حضور زينب (ع) من خلال تفعيل الصبر، جعل مفاهيم كربلاء تقطع الدنيا شرقاً وغرباً، وهذا هو المهم. يقول الشاعر:

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني   صبرت على شيء أمرَّ من الصبرِ

إذن، عليكم جميعاً أيها الأبناء والإخوان من الأكاديميين وغيرهم أن تصبروا. صلوا نهاركم بليلكم بحثاً ومتابعة وقراءة وحفظاً كي تصلوا. وكذلك أنتم يا رجال الدين، يا حملة الرسالة وحماتها، عليكم بالصبر، وأن تتحملوا الآخر، وتوسعوا من دائرة الصبر.

ولا تُعر اهتمامك لمن عارضك ما دمت قد أحضرت جميع عناصر البحث وأكملتها. ولا تسلم عقلك للآخر كائناً من كان، إلا المعصوم.

هنا نسأل: لماذا الانحراف عن الوسطية؟ ولماذا هذه الدماء تسقي الأرض اليوم من نحور المستضعفين على وجه الأرض؟ ولماذا تهتك المحرمات وتباع المقدسات؟ ولماذا تهدر الكرامات؟ الجواب: لأن خللاً ما قد حصل فيما تقدم. وهنالك عوامل كثيرة سوف أقف عليها إن شاء الله تعالى في الأسبوع القادم، تبين السبب الكامن وراء استمرارنا في هذا المستنقع الذي لا نستطيع الخروج منه، شعوباً وحكومات، على مستوى الأرض شرقاً وغرباً. والجميع متورط، ولا أحد يستطيع أن يدّعي غير ذلك، لا من الدول العظمى ولا من غيرها، البعيدة والقريبة، الغنية والفقيرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.