نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (19)

نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني (19)

عدد الزوار: 1906

2017-05-22

الجمعة 15 / 8 / 1438 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عن الحبيب المصطفى (ص): «يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثماني»([2]). رواه الحاكم وصححه ووافقه على ذلك الذهبي وكذلك المحقق المعاصر الألباني.

بارك الله لنا ولكم ذكرى الميلاد الشريف للخلف الباقي من آل محمد (عج) ورزقنا الله وإياكم شرف النظر إلى إشراقة وجهه المنير:

بلغ العلا بكماله  كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله   صلوا عليه وآله

أهل البيت (ع) في عصور ثلاثة:

أهل البيت (ع) حركة مؤثرة في مسار المعارف الإنسانية واللاهوتية عبر أدوار ثلاثة، كانت مدرسة أهل البيت (ع) حاضرة فيها. وهذه الأدوار هي:

1 ـ عصر الخلافة الراشدة: ففي هذا العصر كان الإمام علي (ع) يحافظ على بوصلة الأمة من الانحراف في حالة من التؤدة والتأني والشعور بالمسؤولية العالية. يقول عليه الصلاة والسلام: «لأسلِّمَنَّ ما سَلِمَت أُمورُ المسلمين ولم يكن فيها جَوْرٌ إلى عليّ خاصة»([3]).

آراء تطرح ثم يتدخل المولى علي (ع) يصحح الرأي ويقيم العوج، حتى قال الخليفة الثاني: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

فالإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين (عليهم السلام) ممن عاشوا الدور الأول، وكان لكل واحد منهم بصمته الثابتة الواضحة البينة التي تعامى عنها أرباب الحديث ونُسّاخ التاريخ والمقلدة من العلماء الذين لم يتركوا لأنفسهم مساحة ليحركوا أو يطلقوا العنان لعقولهم أن تنتج ما ينبغي أن يُنتج، وإنما نسجوا على ما أسسه الأولون وما هو إلا نتاج بشر كما هم يتصفون بصفة البشرية.

2 ـ عصر الخلافة الأموية: وهو عصر عاشت الأمة فيه دور الفتوحات الواسعة، وبغض النظر عما لتلك الفتوحات من الإيجابيات والسلبيات، حيث إنها ضربت شرقاً إلى أسوار الصين، وغرباً إلى تخوم الأندلس، إلا أنها تحمل في داخل هذا المكون الكثير مما ينبغي أن يبعثر ويقرأ على نحو من  الأناة والتؤدة بعيداً عن المحاصصات التي باتت تسوق تفكيرنا إلى أكثر من اتجاه.

3 ـ دور الخلافة العباسية: وهو دور وجدت الثقافة والعلوم ميدانها الواسع وليد عوالم متكثرة ربما يتم الإشارة إلى بعضها. فالثقافة الإسلامية أيها الأحبة لها أصولها وثوابتها، وأعني بذلك الثقافة الإسلامية الأصيلة، رافدها الأول هو القرآن الكريم الذي نزل به الأمين جبريل على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص) ليمثل القاعدة للانطلاق عند التفكير في حالة من العصمة الربانية حيث يلوذ الفرع بالأصل ليكتسب قوته من ذلك الأصل.

فالرافد الثاني هو عبارة عن السنة المطهرة التي وصلت إلينا عبر مسارين: المسار الأول هو مسار أهل البيت (ع) والمسار الثاني هو مسار الصحابة، وفي هذا وذاك خير كثير، وإن مزج الغث بالسمين فهو جائز الانبساط على المسارين، وهنا تأتي حركة العلماء لتغربل وتنتزع السمين من ذلك الغث كي يرشد الواقع العلمي وترشد الأمة من وراء ذلك.

إن التطبيق والممارسة من أهل البيت (ع) في الدور الأول، ومن قبل الصحابة رضوان الله عليهم في الدور الثاني، أعطى للأمة حراكاً في وسط الأمة، وليس الوقت وقت المحاكمة لهذا أو ذاك، فكلنا يعلم أن من يسير وفق أدلجة معينة فإنها تفرض نفسها وأجندتها عليه فتكون النتيجة معلولة لتلك الأجندة، والعاقل يفهم.

وفي مرحلة الدولة العباسية تطورت العلوم جراء الانفتاح من قبل الخلافة العباسية على النقيض مما كانت عليه الخلافة الأموية. وبطبيعة الحال كان في المسار الأموي عناوين كثيرة تفرض نفسها لو أراد المرء أن يتحدث عنها لاستغرق وقتاً طويلاً من الليالي والأيام، لكن هذا الباب مغلق، لسبب أو آخر، أما في المسار العباسي فالأبواب مفتحة وواضحة لمن أراد أن يلج منها ويصل إلى نتيجة قد تكون مرضية إلى حدٍّ ما.

فكان لترجمة النصوص من اللغات الأخرى التي جاءت بسبب الفتوحات، ووقوع الكنوز الثقافية والعلمية وذات المساس الديني في الشرق والغرب أثرها في فتح المسار في حركة الفكر والتوجه بهذه الاتجاه. وترتب عليه أن مدرسة الحديث النقلية باتت تتهجى الحروف الأولى من بعثرة النص والغوص في أعماقه والحراك بمفردته إلى ما وراء ما يظهر من المعنى، مما شكل حالة من ردة الفعل عند أناس لم تكن لديهم الحاضنة مهيئة لكي يستوعبوا القادم.

ومع هذا العلم جاءت علوم الحساب والرياضيات والهندسة لتحرك عقولاً أتخمت بالجبر وما وراءه، ثم جاء الفلك ليفرض نفسه وتبعته أيضاً حركة الطب حيث نقلت الكثير من الأصول والمعارف والعلوم الطبيعية التي تشمل جميع جوانب الحياة بما في ذلك الفنون السبعة التي ما كانت مساحة ما جاءت به الرسالة أن تستوعب أكثر مما هو في حدود البعد الثاني أو الثالث في أحسن التقديرات.

أما الفلسفة، وما أدراكم ما الفلسفة! فقد فرضت وجوداً على ما هو موجود، لأنها جاءت في مرحلة التأسيس الأولى، فتعاطاها جمعٌ، وأحجم عنها آخرون، وإلى يومنا هذا، ومن الفريقين، هناك من يكفّر من يتعاطى هذا العلم الشريف الأقرب لعقل الإنسان، الذي ما كرم الله الإنسان بشيء بعد الرسالات التي جاءت للهداية الحقة بمثل هذا العقل، الذي يثاب به الإنسان حتى تفتح له أبواب الجنان، أو يعاقب به، ودون ذلك النيران، وهذا معطى جميع ما شرع في الرسالات السابقة.

فمشارب المعرفة ـ أيها الأحبة ـ عبارة عن قرآن كريم محفوظ وسنة مطهرة، يتبع ذلك علم التاريخ، وقد أصّل هذا العلم لنفسه في مرحلة الدولة العباسية وفتح أكثر من أفق وأفق، والسر في ذلك أن الفلسفة باتت تفرض نفسها على المشهد في كل مفرداته وسيراً وراء عناوينه.

القراءة الناقدة للتاريخ:

أيها الأحبة: لا يكفي أن نقرأ النص التاريخي، لأنه متى ما قرأناه ووقفنا عند حدوده لا نحرك فيه ساكناً فسوف نبقى أولئك الذين لا يتحركون في أكثر من مساحة قد تؤدي وظيفتها الببغاء التي لا تتحدث إلا بما لُقنت به.

إننا اليوم في مرحلة ما عادت تسمح لنا أن نعيش ذلك الوضع الببغاوي وإنما علينا أن ننطلق في آفاق واسعة فتحها الله علينا، فلماذا نغلقها؟ وشرع أبوابها فلماذا نوصد تلك الأبواب التي منّ بها الله بنا علينا؟.

ومن نعيش ذكراه هذا اليوم هو من يؤمّن لنا مساحة واسعة، فإذا كنا ممن يعيش الإمام المهدي (عج) كما أراد هو أن نعيش من العلم والوعي والانفتاح، وجمع ما نستطيع أن نجمع من المفردات، فذلك يجعلنا نسير في الاتجاه الصحيح، لأن أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله. فإذا كان هو الحاكم فبشر الحاكم بالرشاد والتقدم وإلا فليس سوى السقوط والتقهقر.

إنها محطات ثلاث لها من الأهمية الشيء الكثير، وهي عبارة عن التاريخ المدون، والدين في تكوينه، والثقافة في إسقاطاتها وانطلاقاتها، فإذا استطعنا أن نجمع بين هذا الثالوث استطعنا أن نذهب بعيداً، وإلا فهي كما قلت لكم أن نسترجع ما أسسه لنا أناس قد لا يتمتع البعض منهم بما نتمتع به نحن اليوم، فكلنا يعلم أن معارف القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين هي مما أوجد من النقلة ما يستحي الإنسان أن يستحضره من الكثير من الموروث في القرون الوسطى وما دونها.

ولكن هذه العوامل الثلاثة تحتاج إلى روافد أصيلة مقتدرة:

1 ـ الاقتصاد القوي. 2 ـ المجتمع الواعي. 3 . السياسة الحكيمة.

فمتى ما تمازجت هذه العناصر الثلاثة فيما بينها، دفعت بالعناصر الثلاثة التي تقدمها، وعندئذٍ انتظروا مجتمعاً مهدوياً واعياً يشعر بالمسؤولية، يبحث عن الحق ولا يبحث عما سواه، فلا يحاكم الآراء بناء عمن صدرت عنه، إنما يحاكمها بما هي آراء، بعيداً عن دائرة من قال.

يتصور البعض أن الصراع بين مدرسة العقل والنقل وليد اليوم، أو بسبب ما يجري من حولها، وهذا من الجهل الواضح الفاضح البين، حيث نجد في حياة الماضين أكثر من شاهد على المدعى، وأن الصراع كان محتدماً وأن من يدفع ضريبته كان الكثير من الأعلام والعمالقة في مساحة العلم والمعرفة، بل كانوا يحظون بمقام لا يحظى به أولئك المكفّرون والمضللون.

المدارس الكلامية الكبرى:

أيها الأحبة: إن العقيدة وعلم الكلام هي المساحة التي يجري فيها الصراع عادة منذ الأمس حيث العصر الأول والثاني والثالث، وحتى يومنا هذا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، بعد أن يكون قد أذن للخلف الباقي من آل محمد (عج) بإظهار العدل.

ومما لا شك فيه أن لكل مدرسة أصولها التي تبني عليها وتلوذ بها، وتلك الأصول تحقق لنا أموراً عدة لعلّي أفرض فيها فرضيات، أو أكتفي بالمدارس التي بنت وأسست وأصّلت، فهي عبارة عن مدارس ثلاث كبرى اجتاحت مساحة الفكر الإسلامي وأخذت بالأمة الإسلامية إلى أكثر من اتجاه واتجاه على نحو التبعية والتقليد لا على أساس حركة العقل وإشعال الشمعة فيه.

أيها الأحبة: إن الحركة العلمية والفكرية والعملية هي عبارة عن العناصر الأولى لهذا الاتجاه، أما المدارس الثلاث فهي:

1 ـ الأشاعرة: وهم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري المعروف بقلبه المعادلة في صفين. وهذه المدرسة يتبعها اليوم شريحة عظمى من النسيج الإسلامي. ومن أعلام هذه المدرسة ابن حبان والبيهقي والغزالي وحتى الفخر الرازي على الأصح، خلافاً لما قد يتوهم من خلال بعض الآراء التي طرحها، والتي جعلت البعض ينعته أنه من أهل الاعتزال، لكن أصول القواعد التي نسج أفكاره عليها هي أشعرية في أصولها مع تشكيك فيما زاد عليه، أوهم الدارسين أنه من رموز الاعتزال.

2 ـ المعتزلة: وهم أتباع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وهؤلاء أيضاً تبعهم رعيل من العلماء في وقتهم أو فيما أعقبهم من الأزمنة، كالزمخشري صاحب التفسير المعروف، والجاحظ، والقاضي عبد الجبار، والخليفة العباسي المأمون .

فالمأمون عندما تبنى المسار الاعتزالي أعطى لهذا المذهب جميع الأسباب التي ينطلق على أساسها، ففتح بيت مال المسلمين لعلماء هذه المدرسة، وقدم علماءها على غيرهم، حتى ساد مسار التشكيك بين أتباع الديانة الإسلامية. ولست في مقام من يحاكم، لأن محاكمة الآراء تحتاج إلى بحث طويل عريض.

3 ـ المدرسة الإمامية: وهي عبارة عن أتباع محمد وآل محمد (ص) وأخص منهم من يسير على نهج جعفر بن محمد الصادق (ع). فهذا المذهب أو هذه المدرسة لها مكونها وعناصرها، ومع شديد الأسف أننا لم نرض لأنفسنا أن نتحرك مع الأصول من ثوابت هذه المدرسة، إنما ركضنا سريعاً وراء القشور والمظاهر والخرافات والخزعبلات والأحلام المنسوجة، ظناً منا أننا نضيف شيئاً لهذه المدرسة وأئمتها، في حين أنهم يمثلون الكمال ولا يحتاجون إلى من يضيف إليهم شيئاً، إنما نتشرف نحن بالإضافة إليهم. فالأحلام والتصورات والخيالات التي ننسجها نحن من هنا أو هناك فإنها لا تقدم شيئاً، بل إنها تسيء أكثر مما تحسن لهذه المدرسة كما هو واضخ وبين.

حفظ المذهب مسؤولية الجميع:

وكم كنت أتمنى أن يكون للمرجعيات الدينية في مدرسة أهل البيت (ع) في الوقت الراهن قولة لا يخشون بها إلا الله تعالى كي يصان المذهب من عبث العابثين، من منابر ينزو عليها بعض المعممين القاصرين الذين لا يدرك بعضهم أي طرفيه أطول، فيجعل المذهب يدفع الأثمان الباهضة. وكفانا تفرجاً.

أقول: إن ما يتعلق بالمذهب هو مسؤولية كل إنسان كما هو الحال في الدين، فالدين مسؤولية كل من انتمى إليه، فهي مسؤولية الجميع وعلينا أن لا ننتظر أن يأتينا رأي من هنا أو هناك، بل علينا أن نغير  من الواقع كلٌّ بحسبه، أعلم أن الضريبة ستكون ثقيلة على الكثير منا، وقد يقبل البعض أن يتحمل شطراً منها، وقد يتخلى البعض الآخر عن مسؤوليته فلا يستطيع أن يتحمل شيئاً.

لكنني أقول لمن يتخلى عن تحمل المسؤولية: أليس لك في من مضى أسوة وقدوة حسنة لتحذو حذوهم فتنال الدرجات العلا؟ وما عسى أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا؟ إنها أيام وليال ثم يرقد في حفرة ضيقة ظلماء لا يسكنها إلا الهوام والدواب. أما من أراد أن يرافق محمداً وآل محمد (ص) في الجنان العلا الواسعة، فما عليه إلا أن يقول قول الحق، ولا يرجو من وراء ذلك إلا الرضا من الله تعالى.

ومن الشواهد على هذا المدعى أن الصراع بين العقل والنقل لم يكن وليد اليوم، إنما كان وليد القرون الأولى، ففي الحراك الأول كانت المسيرة تتمثل بالنقل، ثم جاء العقل وفرضت الفلسفة نفسها، وحركت العقول، وفتحت المغلق منها، فكان لا بد من دفع الضريبة، لأن هناك من يعيش ويعتاش ويقتات على حطام في أيدي أناس مستضعفين متى ما تفتحت عقولهم أداروا ظهورهم لهم، فكيف يساوي الإنسان بين من يدير ظهره له وبين من ينحني على يده ورأسه يقبلهما.

نعم نحن نقدر ونحترم ونقبل الرؤوس والأيدي ولكنها الأيدي التي تخط لنا مساراً نحو الهدف الصحيح، والرؤوس التي تفكر بعقلية الحق، عقلية محمد وآل محمد (ص).

فمن الشواهد على ذلك في البيت الشيعي ما يورده الكشي، وهو شيخ من مشايخ علم الرجال لا يشق له غبار في هذا الجانب، والرجاليون مع هذا الرجل على اتفاق في الكثير من مواردهم بل يضعّفون ويقبلون بناء على رأيه، وربما يسقطون الكثير من الشواهد والقرائن حتى وإن تحصلت، ويتمسكون بقوله لما له من علو مرتبة وقدم راسخة في هذا المجال.

أيها الأحبة إن الصراع بين رواة الحديث من أصحاب الإمام الصادق (ع) من الشواهد الجلية البينة، التي لا يمكن لأحد إنكارها، ولا ينبغي لأحد أن يقول: لا تثيروا هذه الأمور فربما توجد بلبلة، فإننا إن لم نقبل البلبلة اليوم فعلينا أن نسلم للضياع والشتات والانحدار والسقوط في المستقبل.

لقد عشنا وسيعيش أبناؤنا، ولكن ينبغي أن يعيش الأبناء أفضل مما عشنا، وقد تهيأ لهم ما لم يتهيأ لنا، فعلينا أن لا نتحول إلى قطاع طرق في باب المعرفة والعلم والأدب والفن والثقافة والحوار.

فمن الرواة المعروفين زرارة، وما أدراكم ما زرارة! فهو من أصحاب الإجماع، ولكن هل سلم هذا الرجل ممن لا يحركون عقولهم من رواة الحديث؟ وممن يستسلمون للنص ويرددونه كما تردده الببغاء، فقد نعته بالكفر من نعته، وكان محدثاً مثله، لكنه محدث جامد لا يحرك عقله، إنما يقف عند حدود المفردة ولا يسبر غورها، أما زرارة فكان يحرك عوامل العقل في النص فيصل إلى ما يصل إليه.

ومثله هشام بن الحكم، رأس المتكلمين في المذهب، وكان إذا أقبل على مجلس الإمام وهو في حداثة سنة وحول الإمام كبار أصحابه وأهل بيته ونقلة الحديث كان الإمام يستوي قائماً، فيما كان هشام في ربيعه السابع عشر، وكان يحتضنه ويضمه إلى صدره ويقول له: فتح الله عليك. ويستغرب أصحاب الإمام مما يفعله الإمام مع هشام، ويتمنى لنفسه ذلك، لكن الإمام يقول: هو هشام وما أدراكم ما هشام!. ولكن هل سلم هشام من مقصلة التكفير؟ ومن الذي كفره؟ هل هم أصحاب المذاهب الأخرى؟ كلا، إنما هم نقلة الحديث ورواته، ومن المحسوبين على المعصومين.

ومنهم أيضاً يونس بن عبد الرحمن، وهو صحابي من أصحاب الأئمة (ع) الأجلاء، وقد كفره علماء قم وعلماء البصرة، حال أن يونس بن عبد الرحمن كان له أتباعه في جميع الآفاق آنذاك، كالعراق ومناطق أخرى، فلم يسلم من التكفير.

ولكن أين من كفروه؟ وأين من كفر زرارة وهشام وغيرهما؟

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير، والحمد لله رب العالمين.