نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال (22)

نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال (22)

عدد الزوار: 962

2017-06-15

الجمعة 1438/9/7هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عنهم (ع): «... إذا كان ليلة الجمعة نزل من السماء ملائكة بعدد الذر في أيديهم أقلام‏ الذهب‏ و قراطيس الفضة لا تكتبون إلى ليلة السبت إلا الصلاة على محمد و آل محمد (ص)...»([2]).

وقفة مع الدولة القاجارية:

عندما ثبتت الدولة القاجارية أقدامها، أخذت تتلاعب بالكثير من الأوراق، الثابت المستقر منها، وماله قابلية الحركة في أكثر من موضع، واستجاب جمع من العلماء، ووقع آخرون في مصيدة، وتفلّت جمع ثالث، ووقف كوكبة آخرون أمام لعبة السلطان القاجاري، لكن ما يكتب ويدون ويتم تناقله يعبر الزمن ويتخطى المساحات ويخلف الآثار، بحيث تأتي الأجيال بعد ذلك لتدفع الثمن باهضاً، وما نعيشه اليوم أيها الأحبة ما هو إلا القليل من تلك الأمور التي أُسس لها وأعطيت من المساحة ما يؤمن لها بقاءً ولو في محدودية معينة.

موقف الأئمة (ع) من الغلو:

لقد كان موقف أئمتنا (ع) من الغلو واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار، غاية ما في الأمر أيها الأحبة أن من في قلوبهم مرض، وفي نفوسهم الرغبات والمطمح الكبير في المكاسب الدنيوية جعلهم ذلك يستديرون على أنفسهم ويديرون ظهورهم لما كان من المعصومين (ع) في سبيل نجاتهم ونجاة الآخرين، لذلك ظلوا وأظلوا في كثير من المساحات، فقدموا الأحاديث التي تصب في صالحهم، ولو تلويحاً، وأعرضوا عن نصوص صحيحة الأسانيد  صريحة الدلالة تدفع غائلة ما كان يجيش في صدور البعض منهم.  

فالإمام السجاد (ع) الإمام الصابر، خرج من كربلاء وهو يحمل ثقل مسؤوليتها، لأن المسؤولية فيها تعني الصلاح في وسط الأمة التي بات العوج ينخر الكثير من مفاصلها. إلا أن بعضنا يقسو عليه ويظلمه فيصوّره بأنه العليل الذي لم يجد له مشروعاً حياً يتعاطاه في المدينة إلا البكاء ليلاً ونهاراً، وكأنهم يريدون أن يصفوه بما لا يوصف به إلا الضعفاء، ونعوذ بالله منهم ومن مقولتهم. فالإمام زين العابدين (ع) أكبر من ذلك بكثير، فقد قعّد وأصل وفرّع للكثير من الأصول والفروع والثوابت التي تدفع الأمة، تارة بشكل خطاب للأصحاب  من حوله، وأبناء الأمة في دائرة أوسع، كما حصل في مكة، وتارة من خلال ما كان يدونه بقلمه الشريف، وتارة ثالثة من خلال الأدعية التي يرددها ويرسل من خلالها الشفرات، مما يؤمّن للأمة ما فيه صلاحها في الدارين الدنيا والآخرة.

أيها الأحبة: علينا أن نعطي للأئمة (ع) مساحتهم التي أعطاهم الله تعالى إياها، كي نستطيع أن ننجو بأنفسنا وننجي من يسير معنا، ومن يأتي من خلفنا. فالأجيال أمانة والأمة أمانة، والمقصر في هذا الزمن لا يعذر، لأن الأخطار باتت محيطة في أكثر من مفصل ومفصل، فما عاد للإنسان في نفسه حرمة، ولا في شرفه ولا في ماله، ولم يعد هنالك شيء يحترم مع شديد الأسف، وما ذلك إلا بسبب الركوب في سفينة الغلو الأهوج البغيض الذي بات يفتك في أكثر من مكان ومكان، لذلك علينا أن نتنبه ونأخذ الحيطة والحذر.

إن البعض ركب في هذه السفينة، إلا أنه لا يفصح عن نفسه ولا يبرز هويته، وإن لم تتنبه الأمة من خلال قياداتها ومرجعياتها وكبارها للخطر ومكمنه، فسوف يأتي اليوم الذي يشهرون فيه أسماءهم ويميطون فيه اللثام عن وجوههم، وعندئذ يكون الندم ولات حين مندم، فلن يستطيع الندم أن يحقق لك نجاحاً أيها الفرد، ولا أنت أيها المجتمع، ولا أنت أيها السلطان الديني، ولا انت أيها السلطان الدنيوي، فعندما يتحرك القارب مليئاً بالحقد والشحناء والبغضاء والكره، فعلى الجميع أن يقرأ على نفسه الفاتحة، ولا ينتظر أن يقرأها غيره عليه.

لقد شخّص أئمتنا (ع) الداء منذ ذلك اليوم، ووضعوا الحلول، وأرادوا للأمة أن تنتبه، ودقوا ناقوس الخطر منذ ألف وأربعمئة سنة، حتى النبي (ص) أفصح عن ذلك، وأشار للمنافقين وسمى بعضهم بأسمائهم، بل الأكثر من ذلك أنه هدم مسجد الضرار، وقد دوّن القرآن الكريم ذلك، وسطرته السنة المطهرة، وتناقلتها الأجيال. فليس كل محراب نزيهاً، ولا كل خطيب شريفاً، ولا كل معمم له قيمته التي يفترض أن تعطى للمعمم الشريف. فعلينا أن لا يختلط علينا الحابل بالنابل، وأن نغربل ونصفي، فلماذا لا نأخذ من أئمتنا (ع) دروساً وعبراً، فهم لا يريدون منا بكاءً طويلاً، ولا دموعاً باردة، ولا تمحوراً ولا تَشكُّلاً في مجالس هنا أو هناك مما لا نستفيد منه أحياناً إلا زرع الحقد من قبل البعض ممن لا يعيشون هماً، ولا يتحملون مسؤولية، ولا يعنيهم ما يحصل من حولهم.

مسؤولية الفرد والمجتمع:

يقول النبي الأعظم (ص): «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»([3]). فالحاكم راع ومسؤول عن رعيته، والمرجع راعٍ ومسؤول عن مقلديه، وأئمة الجمعة والجماعة مسؤولون أيضاً عمن يقف وراءهم قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، وأصحاب الحل والعقد في وسط الأمة لا بد أن ينهضوا بمسؤوليتهم. وقد قلت قبل يومين: لا تعتقد أيها المؤمن، بل أيها الإنسان، أنك صغير، بل أنت كبير بإنسانيتك ودينك ومعتقدك وفي نفسك:

أتحسب أنك جرم صغير   وفيك انطوى العالم الأكبر

فالعالم بأرضه وسماواته، وحجره ومدره، بنجومه وذراته كلها انطوت فيك أيها الإنسان، أما أنت أيها المؤمن فكبير بالله تعالى، لأنك عبد من عبيده، وأنت كبير بمحمد وآل محمد، لأنك تسير على هديهم ونهجهم، لأنك تعتقد الإسلام منهجاً، والإسلام يعني الوسطية والسلام والمحبة والأخوّة والصدق في المعاملة والوفاء بالعهد وما إلى ذلك من مفاهيم الكمال التي لو فتشت عنها فلن تجد لها عيناً ولا أثراً في غير هذا الدين الحنيف، دين السماء الأنقى. فرسول الله (ص) أشرف البشر، والأمناء على الدين من بعده من لا يقاس بهم أحد.

موقف الإمام السجاد (ع) من الغلاة:

فالإمام زين العابدين (ع) وصل الحال بالغلاة في عصره أن يبلغه عنهم كلام، فهل وقف مكتوف الأيدي؟ وهل ركن للبكاء على حساب إنارة الطريق وإضاءة القلوب لأبناء الأمة؟

يقول (ع) وقد دخل عليه أحد أصحابه فشرح الحال: «لعن الله من كذب علينا، إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله. كان علي (ع) والله عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله (ص) ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله (ص) الكرامة من الله إلا بطاعة الله»([4]).   

فما أكثر الكذابين اليوم وصناع الرواية من خلال منبر الإمام الحسين (ع) ومن خلال القنوات المشبوهة وإن أضيفت في عنوانها إلى جهة محسوبة على مدرسة أهل البيت (ع). فمصنع الكذب منذ ذلك اليوم يولّد وينتج وإلى يومنا هذا يصنعون الرواية ويسندونها لواحد من الأئمة (ع) فأي جريمة أكبر من هذه. 

إن علياً (ع) إنما بلغ ما بلغ، ونال ما نال بطاعة الله تعالى، وليس بإضافات أو ادعاءات من هنا أو هناك، وكذلك رسول الله (ص). ونحن نقرأ في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشيد بالطاعة وتحث عليها وتنهى عن المعصية والمخالفة وتنكب الطريق. يقول تعالى: ﴿وَلَو تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيْلِ ~ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِيْنِ ~ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِيْنَ﴾([5]).

موقف الإمام الرضا (ع) من الغلو:

وفي حديث آخر عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن الغلاة([6]) والمفوضة([7]) فقال: «الغلاة كفار، والمفوضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسوله (ص) وولايتنا أهل البيت»([8]).

مراحل الغلو:

إن الغلو مرض خطير يدخل العقول والأفهام بشكل تدريجي، حتى يبلغ بأصحابه مرتبةً يتركون فيها العبادات، بدعوى أن الصلاة والصوم والعبادات للقاصرين عن المعرفة. ثم يتدرجون حتى ينكروا بعض الآيات والسور التي لا تتماشى مع أفكارهم هذه، وتتقاطع مع مسيرتهم وتفسد مشروعهم. ثم يرتقون في الغلو مرتبة أخرى فيقولون بتناسخ الأرواح لكي يبقوا على الذوات المقدسة حاضرة بينهم، فكلما مات أحدهم قالوا: انتقلت روحه إلى ولده.

ثم يتقدمون قليلاً في الغلو فيستبيحون المحرمات، فلا حرمة لدم ولا مال ولا عرض كما ترون اليوم. فقد ذُبح مجموعة من الأطفال الأقباط في حجور أمهاتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهكذا يدخلون مرحلة أخرى من الغلو أخطر، وهي دعوى أن بعض الصالحين أفضل من الأنبياء والملائكة، فهو يدّعي الإسلام، وطريقة النبي (ص) لكنه يرى أن فلاناً الصحابي أفضل من النبي (ص) وأن فلاناً خادم الإمام أفضل من النبي (ص).

ثم يوغلون أكثر في الغلو فيدّعون أن الله تعالى يحلّ في بعض الأجسام الخاصة التي ينتقونها. وهذا ما نراه في بعض المتصوفة الذين يصل بهم الأمر إلى الاعتقاد أن الولي المقرب عندهم الذي لا يسقط كأس الخمرة من يده، قد حلت فيه الذات الإلهية.

ثم يبلغ بهم الأمر إلى الاعتقاد بألوهية علي (ع) وأنه يحيي ويميت، ثم يقولون بألوهية بعض أصحاب الأئمة (ع). ومن هؤلاء الذين أُلهوا أبو الخطاب، محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، والمغيرة بن سعيد العجلي مولى جبيلة.

كما بلغ بهم الأمر إلى تأليه بعض السلاطين والحكام، فقد قال شاعرهم، مخاطباً المقتدر:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار   احكم فأنت الواحد القهار

 تصوروا مثلاً أن المنصور الدوانيقي أُلِّه وشهد له جمعٌ من بني العباس أنه هو الله، وأنه يعلم سرهم ونجواهم.

فالغلو ليس مختصاً بجماعة دون جماعة إنما هو مرض يجتاح الكثير من النفوس.

نسأله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفق، والحمد لله رب العالمين.