نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال (21)

نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال (21)

عدد الزوار: 1997

2017-06-01

الجمعة 29 / 8 / 1438 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في المروي عن الحبيب المصطفى (ص) : «إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر هو عند الله أفضل‏ الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإن الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم..»([2]).

معالم مدرسة الشيخ الأحسائي:

الحديث موصول بما تم التطرق له في الأسبوع الماضي حول الدولة القاجارية ودور العلماء الأعلام فيها، ومن تلكم الشذرات ـ كما ذكرنا ـ الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي (قدس سره الشريف). ومرجعية الشيخ الأوحد في الأحساء كانت في وقتها تعتبر المرجعية الكبرى، ولها تجذرها العميق في جميع مفاصل المجتمع الأحسائي، العلمية منها والاجتماعية.

ولا أدل على ذلك من بقائها حية إلى يومنا هذا تفرض وجودها، لتشغل مساحة ليست بالهينة بين المؤمنين المحبين المريدين.

لقد كانت مدرسته تتكئ على ركنين أساسيين:

الأول ـ الجانب الفقاهتي.

الثاني ـ الجانب العقدي.

أولاً ـ البُعد الفقهي في مدرسته:

أما في الجانب الأول فقد نسج خطوط معارفه في هذا الحقل الفقهي على أساس من روافد ثلاثة مهمة جداً:

1 ـ الأصالة في الاستدلال: التي استمد عناصرها من مكوَّن الحوزة العلمية في بنائها المعرفي، فهو لم يشذ عنها قيد أنملة، بل سلط الأصول على الفروع وانتزع الأحكام كما هو عليه المشهور والمجمع عليه في الأعم الأغلب.  

2 ـ النظر في الفتوى: وهو ما يعطي للفقيه امتيازاً، فالفقيه الذي يقصر نظره على حدود ما توارثه لا يذهب بعيداً ولا يُحدث إبداعاً، ومن المعلوم أن بعض الفتاوى تستمد قوتها مما ادُّعي في حقها من الشهرة تارة والإجماع تارة أخرى، وبقدر ما يكون الفقيه قادراًَ ومطلعاً على مباني القوم يستطيع أن يصنع له نفقاً ليجتاز إلى الضفة الثانية. نعم، قد يجابه بالكثير من ردود الأفعال لكن حيث إن حركة الفقيه مصدرها الأول وهدفها الأخير هو الله سبحانه وتعالى، ما كان ذلك ليقف حاجزاً أمام ما اختاروه من آراء وثبتوه من فتاوى تستفيد منها الأمة اليوم وفي القادم من الأيام.

3 ـ قبول الآخر مهما كانت الظروف والمفارقات: ويلمس الواحد منا ذلك جلياً عند استعراضه آراء أصحابنا من أعلام المدرسة منذ زمن المفيد (رضوان الله عليه) ومن تقدَّمَهُ إلى الزمن الذي كان يعيش فيه ويشغل مساحته.

هذا في الركن الأول (الفقاهتي).

ثانياً ـ البعد العقدي:

وأما في الركن الثاني (العقدي) فقد أحدث مفارقة بينة لا يمكن إنكارها مع ما هو مشهور ومألوف، وما بُسط له البساط طويلاً ليفرض وجوده. فقد كان للشيخ الأوحد (رضوان الله عليه) نظر يستمده من معين صافٍ وقراءة لها أبعادها وحركيتها حتى ثبّت الكثير من العلوم والمعارف وانتزع الكثير من الآراء التي يقف عندها الكثير من الباحثين المنصفين اليوم وقفة الإعجاب.

فالشيخ الأوحد في مدرسته العقدية لم يأت بالغريب الشاذ، ولم يستند إلى الأصل والركن الضعيف المهزوز، إنما كان يبني على أساس من قواعد محكمة وأصول   ثابتة متسالم عليها، نعم كان لإشراقاته إسقاطها في استنطاق النص الموروث كما هو واضح وبين، والناس في ذلك شرع سواء.

وما أريد أن أؤكده بادئ بدء أننا نقلد فقط في الأمور الفرعية، كالعبادات والمعاملات وما إلى ذلك من الأمور الفقهية والتشريعات التي تنظم حياتنا مع أنفسنا ومع الخالق والدنيا بتشعباتها والآخرة وما يوعد فيه الإنسان، ومع الله جلت قدرته أولاً وآخراً. أما في الجانب العقدي فلا نقلد أحداً، إنما هي مسؤولية الإنسان المسلم أن يقف على أصول المعتقد الذي يؤمن به، والدين الذي يلتزم أحكامه وتشريعاته، فلا في معرفة الله تعالى والإقرار بربوبيته تقليد، ولا فيما يتعلق بأصل العدالة الإلهية تقليد، ولا في ما يثبت نبوة نبينا محمد (ص) تقليد.

لذلك نقول: رفقاً بأناس باتوا يقرأون ويستنطقون ويناقشون ويشكلون، وعلينا أن لا نطرد أحداً نُسأل يوم القيامة عن مبررات طرده عن دائرة الإيمان والإسلام والتسليم. فالواجب علينا أن ننفتح على هؤلاء ونحتضنهم ونستوعبهم بقدر ما لدينا من علم ومعرفة، ونساعدهم على تخطي المرحلة، ونتقبل الإشكال بصدر رحب ولنا في القرآن الكريم والنبي (ص) وطريقة المعصومين (ع) أسوة، وكذلك في العلماء والصلحاء المتنورين من علماء الطائفة، فهم لم يطردوا أحداً بل استوعبوا جميع أطياف المحيط من حولهم على ما كان عليه.

محورية القرآن:

فالشيخ الأوحد (رضوان الله عليه) بنى على النص القرآني بكل تجلياته، وهذا الجانب يدعونا ـ ونحن على مسافة خطوة واحدة من شهر رمضان المبارك ربيع القرآن الذي سنقرأ فيه كثيراً ـ أن نتدبر القرآن الكريم أكثر مما نقرأ. فأنا أدعو لقراءة القرآن، ففي ذلك أجرٌ عظيم، إلا أن القرآن الكريم نفسه يدعونا أن نتدبره، بأن نقف عند كل آية قبل أن نتجاوزها، ونسأل عن مداليلها ومعطياتها وإشراقاتها وإسهاماتها؟ وهل هي جارية فيما يأتي من الأزمان أو أنها موقوفة في زمن معين؟

علينا أن نستعين بروافد بين أيدينا قررها الأعلام وثبتوها، لننطلق مع القرآن على أساس ما كان القرآن يؤسس له، ويريد للأمة أن تتقدم على أساس منه.

كان الشيخ الأوحد منطلقاً من البعد القرآني يغوص في أعماق الآية لينتزع منها ما أمكنه من أسرارها وهذه نعمة أفاضها الله عليه، وهي نعمة لا بد أن تُشكر ممن أنعم الله بها عليه من الناس الكُمّل الذين يعترفون بها، كما أنها تُكفر في بعض الحالات من بعض من يمتحن بها فلا يشكرها شكراً فعلياً وإن نطق بالشكر ولقلق بلسانه. بل الأكثر والأنكى من ذلك أن يكفر بها من إذا كانت النعمة في صالح أخٍ أو صديقٍ أو صاحبٍ فيكفر بها لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن تكون النعمة عند غيره.

أما الرافد الآخر الذي اتكأ عليه الشيخ الأوحد الأحسائي (رضوان الله عليه) في المجال العقدي فهو أحاديث أهل البيت (ع) بكل صدقيتها. فأهل البيت (ع) خلفوا وراءهم موروثاً كبيراً، إلا أنه لم يغربل حتى يومنا هذا، ولا زال في مرحلة المادة الخام الأولية للباحثين، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِيْ عِلْمٍ عَلِيْمٌ﴾([3]). فهم (ع) مصادر الحكمة وينابيع المعرفة ويصعب على الإنسان أن ينتهي مع معطى ما قدموه من خلال جلسة أو تقرير أو بحث أو كتابة، فعطاؤهم له قابليته على نحو إشعال جذوة الفكر عند الإنسان وفي الجانب الثاني الحراك العملي مع تصرفاته في جانبيه العبادي والمعاملي.

فأهل البيت (ع )  في منظومتهم الحديثية يمثلون رافداً مهماًَ يسير مع القرآن الكريم حيثما سار، فالقرآن هو الأساس، والسنة رافد وتابع ومبين ومفرِّع، فما اصطدم من هذا مع ذاك وجب رده إلى كتاب الله لتكون الحاكمية للكتاب.

فالشيخ الأوحد (رضوان الله تعالى عليه) كان له نظرته وتحركه في النص الوارد عن أهل البيت (ع) فالأنس بخطابهم يتولّد لدى الإنسان من كثرة التردد عليهم من خلال ما خلفوه من ورائهم، فأنت تستطيع أن تتعرف شخصية فلان من الناس عند الاقتراب منه، فإن كان أديباً قرأته في أدبه، وإن كان حكيماً قرأته في حكمته، وهكذا. فأهل البيت (ع) إذا أردت أن تقف على مكامن العظمة فيهم فما عليك إلا أن تكرر قراءة النصوص الصادرة عنهم (ع) لتدرك عظمة تلك المدرسة ورفعة شأنها.

فالشيخ الأوحد (رضوان الله عليه) تقلب في حياض مدرسة أهل البيت (ع) الحديثية كثيراً، وغاص فيها وسبر أغوارها وانتقى بعض الشذرات التي لا زالت إلى يومنا هذا تنير الطريق للباحثين والمريدين.

أما الرافد الثالث له في هذا المجال بعد القرآن والسنة فهي قواعد الحوزة وأصولها العلمية العامة التي تعارف عليها من تقدمه، فهو لم يحدث أصولاً جديدة في هذا الجانب ليشنع عليه بما شنع حتى أخرج من حظيرة الإسلام كما سأصل إلى هذه النقطة في حينها.

إنه ابن هذا النسيج وهذه المدرسة وأعمل الأصول كما أعملها غيره وخلص إلى نتائج وإن لم يتفق مع البعض الآخر فيها. ولكن الاختلاف في الرأي ـ أيها الأحبة ـ لا ينبغي أن يفسد في الود قضية بين الأشخاص المختلفين أنفسهم، ناهيك عن الأتباع والأنصار والأعوان والمريدين والسائرين على النهج والخط والطريقة، فكل طرف يحترم الآخر حتى تصل نهاية المطاف لما هو المراد والمبتغى.

والجانب الآخر يتجلى في قدرته على التحليل والبحث عن الحل إذا ما انكشفت الثغرة أمامه، وهذه ميزة حسنة. فكثير من الناس تجده اليوم يثير المشكلة ويطرح الإشكال، لكن الهم الأول والأخير له هو هذه الحدود، فلا يبحث عما وراء ذلك من البحث عن الحل ورفع الإشكال وإغلاق الأبواب على أصحابها، فيكتفي بحالة التشكيك والتردد والتوقف ثم ليس وراء ذلك شيء.

فالشيخ الأوحد (رضوان الله تعالى عليه) كان يجهد نفسه لإيجاد المبررات والمخارج لمن لم يتفق معهم في الرأي ثم يجهز بعد ذلك حتى على بعض المخارج التي يحسن الظن من خلالها لينتهي إلى القول الفصل الذي يدين به بينه وبين الله، وهذه الميزة هي العمدة في البحوث العلمية عامة. لذلك علينا أن لا نستغرب عندما نسمع أن العالم الفلاني له رأيه الذي لا يتفق فيه مع المشهور أو الإجماع، وليكن ذلك، فالإجماع في أغلبه منقول، وربما كان في النقل ما فيه، والشهرة قد تكون مما لا أساس له كما قرره العلماء في محله، فلا ينبغي أن نكبل عالماً يحمل الكثير من التنوّر ووسائل وأصول المعرفة الحوزوية ومما كسبه من روافد أخرى، بل ينبغي أن نترك المساحة لهم ليبدعوا. فبعض الآراء المأنوسة اليوم، كانت مرفوضة ومستنكرة، ودفع العلماء من أجلها الكثير، لكنها اليوم صارت من المسلّمات، فمن الطبيعي أن لا يقبل الرأي اليوم لكنه يقبل في قادم الأيام عندما نتخلص من الأنانية وفرض الأمر الواقع، لنصل إلى نتيجة مرضية.

اتهامه بالغلو:

فالشيخ الأوحد (رضوان الله عليه) رُمي بالغلو في أهل البيت (ع) أي الارتفاع بهم إلى مقامات معينة، حتى كُفِّر، وبعث في تعقبه للتخلص من شخصه وإنهاء حياته. فما هي الأسباب وما هي الدوافع وراء ذلك؟

الجواب يتلخص فيما يلي:

1 ـ التعقيد المعنوي: المتولد من دقة المسائل والبحوث التي تعرض لها الشيخ الأوحد (رضوان الله عليه) وأعقد المسائل هي المسائل الكلامية الأصولية المبنية على مسارب فلسفية كان لها الإسقاط في توجيه البوصلة لأكثر من اتجاه واتجاه، وهذه الحقيقة إذا أدركناها فإن كثيراً من موارد الالتباس ترتفع ويماط الستار عنها.

فقد كتب ما كتب بلغة علمية لا يفهمها إلا أصحاب العلم والمعرفة، وهذه واحدة من الإشكاليات التي نعانيها، لا مع الكاتب والمتحدث وإنما مع المتلقي واندفاعاته، فإن كان المتلقي حريصاً على الوصول إلى معرفة الشيء والوقوف على كنهه فعليه أن يرجع لصاحب العلاقة ليستكشف الأمور ويستجلي الحال من صاحبه، لا أن يجتهد على حساب شيء ولم يكن ملماً بخصائصه، كما هو واضح.

2 ـ خروجه عن خريطة البحث المتبعة عند الآخرين: فقد أحدث لنفسه مساراً في بعض الجوانب المحسوبة المعدودة، ولم يتفلت كلياً من الضوابط الموجودة ولكنه في بعض الموارد أعرض عنها، لا لشيء إلا لأنه وجد في تلك العناصر ما لا يوصله إلى النتيجة ونسج على هذا المنوال جمع ممن جاؤوا بعده.

3 ـ البواعث النفسية الشخصية عند خصومه: فهؤلاء الخصوم عندما يغادرون مساحة الله تعالى، ويديرون ظهورهم للدين تكون الأحكام في الكثير من الأحيان جائرة ظالمة ليس لها من مبرر على الإطلاق، فهذه البواعث النفسية عند بعض أقرانه في زمانه دفعتهم أن يرتكبوا ما ارتكبوه في الأحكام الجائرة في حقه حتى كفّروه، فلا تستغربوا اليوم من أن يقال: فلان فيه كذا أو كذا، فالأمر طبيعي من حيث كونه متوقع ممن يقول بالتكفير والتضليل وغيرها، لا أنه طبيعي من حيث كونه مقبولاً، فهو مرفوض ومردود على أصحابه.

4 ـ عدم اتباع أسلوب المجاراة مع الآخر فيما أراد: بسبب ما كان لديه من ثقة عالية بالنفس قلما تتفق عند الآخرين، فعنصر الثقة بالنفس أمر مهم.

وهنا أهمس في أذن كل متخرج من الثانوية العامة أو التجارية أو الصناعية أو غيرها ممن يريدون إكمال دراساتهم حتى المراحل المتقدمة العليا فأقول لهم: اجعلوا الثقة بالنفس أمامكم لتحددوا مساركم، ولا تتأثروا بتوجيه الآباء والأمهات والإخوان والأصدقاء، بل عليك أيها الشاب أن تقرر وفق ما تثق فيه من نفسك من القدرة على الوصول من خلاله إلى الهدف، ولا تستمع لأي كان أن يحرف البوصلة عما يتوافق والقدرة الموجودة في داخلك. وعليكم أيها الشباب أن لا تخدعوا أنفسكم، فالله تعالى أعطى الكثير من النعم، منها الذكاء والحافظة والقابلية والتوجه والمتابعة، فعليكم أن تفعّلوا هذه العناصر، وتجعلوا منها هي الحكم في ما تتخذونه من قرار. ويبقى الأهل والأصدقاء محترمين لكن الثقة بالنفس هي التي توصلنا للهدف.

الغلو أسبابه وآثاره: 

والأمر الآخر الذي كنا نعانيه في هذا الصدد ولا زلنا هو الغلو، فليس من الصحيح القول إن منشأ الغلو كان في زمن الشيخ الأوحد أو في زمن غيره، فمقالة الغلو قديمة، وقد أشرت إليها في خطبة سابقة، وذكرت أن هناك من قال بعد وفاة النبي (ص): إن محمداً لم يمت. وهدد من قال ذلك بالقتل، وهو الخليفة الثاني. وهذا هو الغلو، فكأنه لم يسمع قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهم مَيِّتُونَ﴾([4])، وقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾([5]).

فالغلو: هو تجاوز الحد في الشيء، وتخطي حدود الوسطية فيه، فكل ما جاوز هذه المعادلة فهو غلو، سواء كان فيما يلبس ثوب الصلاح أم العكس. وهو من أشد الأمراض فتكاً في الدين والدنيا، سواء في المجتمعات الكبيرة أم الصغيرة، وهو على أصناف ودرجات لا تكاد تسلم منه جماعة.

وأبرز صور الغلو التي عرفها التاريخ هو الغلو عن المارقين عن الدين، فهؤلاء أحدثوا انعطافة خطيرة إلى هوة سحيقة لا زال نتنها إلى اليوم يُشمّ من أبعد المسافات. وقد رأيتم هذه الأيام ما حدث في مانشستر من تفجيرات. كل هذا بسبب المروق من الدين وليس الرغبة في تحكيم الدين.

وبعد معركة صفين وحصول التحكيم برزت صفحة أخرى من الغلو واتسعت، وكان أول ضحاياها الإمام علي (ع) وهو الخليفة الأول لدى أتباع مدرسة أهل البيت (ع) والخليفة الراشد الرابع لدى عموم المسلمين، فهو خليفة المسلمين جميعاً بالإجماع المركّب. فقد قضى شهيداً في شهر الله، وفي واحدة من أشرف ليالي شر رمضان، وفي محراب العبادة حال الصلاة، فهل هنالك ما أكثر مروقاً من الدين من ذلك؟

ثم اتسعت دائرة الخروج عن الدين، وكثرت أقطابه، وتوجه إليه المريدون، حتى وصل إلى شذاذ الآفاق اليوم كما نرى.

ومن حقنا أن نسأل: ما هي الأسباب التي تدعو للغلو؟ الجواب: أسبابه كثيرة، منها: 

1 ـ السذاجة: فهي تجرّ الناس إلى مواطن الغلو. والسذاجة قد تكون علمية، بسبب عدم فهم الخطاب الديني، لأن الساذج لا يفهم القرآن الكريم ولا السنة النبوية ولا أقوال العلماء. ففي قتل الإمام علي (ع) كان المبرر عند المارقين قرآنياً، وقد احتجوا بقوله تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إلا للهِ﴾([6])، فقد فهموا من ذلك أن الحكم لله لا لعلي (ع) وهي قراءة ساذجة خاطئة للنص القرآني، والأمة اليوم مبتلاة بأمثال هؤلاء الذين لا يفقهون من الدين شيئاً.

2 ـ بذرة الانحراف الكامنة في النفوس: فأنت ترى أن بعض الشباب مثلاً يقترن بقرين من هؤلاء، فيأخذ عنه ما يأخذ من أفكار وسلوكيات تمثل المروق عن الدين.

3 ـ الأطماع الدنيوية: كحب السلطة والمال وغير ذلك، فحب الدنيا رأس كل خطيئة. ومن منا جاءته دنيا هارون الرشيد فكان أتقى وأورع منه؟

4 ـ غياب الوازع الديني: لذلك تجد من يقتل الطفل في حجر أمه، ثم يقتل الأم، ويفعل ما يفعل ثم يقتلهم جميعاً.

5 ـ الاستغراق في الجانب العبادي الأجوف والطقوسية العرجاء: وذلك بكثرة القراءة والصلاة والزيارة وغير ذلك من المظاهر العبادية التي لا تغوص في أعماقه.

هل تتذكرون صاحب السجدة الطويلة؟ الذي اختلف مع شخص حرّكهُ من سجدته قليلاً فلم يترك لفظة مستقبحة مستهجنة من قاموس الأولين والآخرين إلا قالها في وجهه، وهو في بيت الله!.

أما عن نتيجة ذلك الغلو الأهوج، وهل هنالك غلو في أهل البيت (ع)؟ وما هو موقف أهل البيت (ع) من الغلو؟ هذا ما سوف نقف عليه إن شاء الله تعالى.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.