نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال (15)

نص خطبة العلم والإيمان أساس الكمال (15)

عدد الزوار: 1338

2017-04-19

الجمعة 16 / 7 / 1438 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع): «أن رسول الله (ص) خطب الناس في مسجد الخَيف فقال: نَضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها، فربَّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم...»([2]).

المرجعية في العهد الصفوي:

الدولة الصفوية مثلثٌ من ألوان متعددة، انتابها المد والجزر في البدء والوسط والخاتمة. كان العلماء معها على ضروب ثلاثة: شريكٌ مباشر بكل وجوده وجهوده، وناءٍ بنفسه عن كل حيثيات المشهد، فلا علاقة له بها من قريب ولا من بعيد، وثالث معارض أعلن رفضه للدولة الصفوية.

والباحثون حول الدولة الصفوية، خصوصاً من كتب باللغة الفارسية، أجهد نفسه في حلحلة الأوضاع، يساعدهم على ذلك المناخ الحر والمساحة الواسعة للنقد بعيداً عن مؤسسات التعقب والمتابعة، عامة أو خاصة.

والمرجعية في زمن تلك الدولة كانت لها السلطة والهيمنة على المشهد حتى في امتداداته السياسية والعسكرية، حتى قال بعضهم: إن بذرة ولاية الفقيه العملية كانت في أيام المحقق الكركي. من هنا جاء لقب (الولي)، وهو ليس من المستحدثات كما يتوهم البعض لأسباب ودوافع. فالمرجعية، والتقليد عناوين يفترض أن لا تكون بعيدة عن مجالس التداول الفكري والحراك الثقافي، ولا نقلل من أهمية المسائل الشرعية الفرعية في باب الطهارة وغيرها، لكن المفاتيح الموصلة لتلك الأبواب والموضوعات بتفريعاتها هي عبارة عن فكّ شفرات هذين العنوانين (التقليد والمرجعية).

فالتقليد أخذ تموضعه بين الناس في زمن الغيبة الكبرى، وربما لا يتفق مع هذا الرأي الكثير، ولكن هذه هي الحقيقة والواقع. وهذا الأمر يجرنا لمجموعة من الأسئلة، فالمرجع حالة ملحة لا بد منها، إذ ليس بمقدور جميع المكلفين أن يكونوا في دائرة القدرة على القيام بذلك، ولا أقول: إنه امتناع عقلي، ولكن في العادة أن ذلك لا يكون إلا بتعطيل مصالح البلاد والعباد.

تساؤلات حول المرجعية:

والسؤال هنا: ما هي الحدود العامة والخاصة للمرجعية؟ أو أنها من الأمور المطلقة التي لا تُحدُّ بحدود؟ يميل بعض الباحثين المتتبعين إلى أن المرجعية مطلقة، وهي عبارة عن صورة مصغرة من المعصوم، فلها ما للمعصوم، تصريحاً أو ممارسةً. والبعض الآخر لا يرتضي هذا التوجه والاختيار، إنما يطرح مجموعة من القيود سنقف على الكثير منها في أواخر البحث إن شاء الله.

وهذا المورد يدفعنا إلى سؤال من نوع آخر، هو: ما هي الآليات المنتهجة في سبيل تحقيق ذلك، سواء على القول الأول أم الثاني؟ أي على فرض أن المرجعية مقيدة أو أنها بلا قيود؟ فهل الآليات رسمية، بمعنى أن يكون للسلطات أثر في نظم تلك الأسباب والآليات كي يتشكل المرجع؟ أو هي العلم أو القداسة أو المال أو المجتمع من حوله أو غير ذلك؟ هذه أسئلة تحتاج إلى أجوبة، وعلينا أن لا ندسّ رؤوسنا في التراب، فأبناؤنا يسألوننا، والشباب في كل موقع أو بلد يسألون، وزمن التعمية قد ولّى، وكذلك زمن المصادرة والطرد للسائل وطالب المعرفة انتهت صلاحيته، ونحن اليوم في زمن لا يتيح لنا أن نلعب بالأوراق على أساس من تلك العملية الممنهجة الموجهة.

وهذا الأمر أيضاً إذا ما تجاوزناه وقعنا في شراك سؤال آخر: ما هي المساحة المتاحة للفقيه المرجع كي يتحرك فيها؟ هل هي في حدود الفتوى في الأمر العبادي والمعاملي الضيق؟ أو أن لها مساحاتها؟ وهذا المجال يختلف عن الأمر الأول.

مرحلة ما قبل الغيبة الكبرى:

وهنالك سؤال آخر: متى بدأت المرجعية دور الشكل والممارسة؟ هل في زمن المعصوم؟ بأن كانت المرجعية تتشكل، ولو من وراء الكواليس؟ أو بخطوة متقدمة تحت رعاية المعصوم؟ أو أن الأمة نامت واستيقظت مع الغيبة الكبرى فوجدت نفسها أمام مرجعية تفرض نفسها على المشهد؟

يجيبنا عن هذا التساؤل أبو سهل النوبختي في كتابه «التنبيه»، عند حديثه عن إرهاصات الغيبة الكبرى بعد الصغرى، وما تزامن معها. ومن كانت لديه الرغبة في سعة الاطلاع عليه أن يرجع إلى هذا الكتاب، ليرى الكثير من الأمور والأحداث والوقائع، والقبول والرفض الذي كان في تلك المرحلة الزمنية.

ففي الفترة من سنة 280 هـ  ـ 290 هـ أي على مدى عقد من الزمن، اعتبر ذلك العقد من أشد العقود وقعاً على مسار مدرسة أهل البيت (ع) لأن المدرسة باتت تتوثب لاستشراف مرحلة مغايرة تماماً عما كانت عليه قبل ذلك. فمن أبرز ما حصل في تلك المرحلة انقطاع التوقيعات التي كانت تصدر من الناحية المقدسة للمهدي من آل محمد (عج) وهذا الأمر أحدث إرباكاً، لأن النائب يفترض أن يكون هو الواسطة بين العموم من مريدي مدرسة أهل البيت (ع) والناحية المقدسة، حال أن التواقيع التي كانت تمثل حلقة الوصل انقطعت، فمن يملأ هذا الفراغ؟ هل هو النائب باجتهاده الشخصي ومرئياته الشخصية؟ أو أن له خط ارتباط من نوع آخر؟

فمن ردود الأفعال التي حصلت آنذاك أن بعض أتباع مدرسة أهل البيت (ع) من الخاصة رفض نيابة النائب الثالث.

أقول هذا كي نكون اليوم على بينة من الأمر، ولا نفاجأ أو نُصدم، لأن الغيبة الكبرى تعدّ فترة امتحان بعد زمن المعصوم، سواء كانت في بدئها، أم في الوسط وهو ما نعيشه اليوم متصلاً بالقرون المنصرمة، أم في مستقبل الأيام التي لا ندري إلى متى تمتد، فليس لنا علم بزمن ظهوره (عج) هل هو قرن أو قرون أو أقل أو أكثر. وهذا يولد أسئلة ملحة وخطيرة في أذهان الشباب، ومسؤولية الحوزات العلمية والعلماء أن ينهضوا في الإجابة عن هذا السؤال إجابة جذرية، وإلا علينا أن ننتظر العواقب غير المحمودة.

ففي زمن الغيبة أيام النائب الثالث كانت هناك فترة انقطاع، ولكن خرجت توقيعات بلعن من يرفض نيابة النائب الثالث، وهذه أحدثت إشكالية قوية، وهي انحصار التوقيعات بما يعني تثبيت الشخص بعينه ومشخصاته. وفي هذا الجو اختط النائب الثالث مساراً آخر، هو الارتباط بفقهاء الطائفة في جميع الأصقاع.

وهنا وقفة قصيرة، فمن حقي وحقك أن نسأل: هل إن هؤلاء النواب هم الأعلم في زمن الغيبة الصغرى، أو أنهم كانوا ممن يحمل سمة التدين فقط بحيث هيأتهم هذه الحالة للوساطة في النيابة من جهة الارتباط بالإمام فحسب؟ هذا ما يحتاج إلى شيء من الغربلة، فقد مرت القرون المتصرّمة التي كنا نسمع فيها ونسكت، لأن هذه الأزمنة لا مجال فيها للسكوت، فالفضاء مفتوح، وتلاقح الأفكار على مصراعيه.

ثم أخذت المرجعية في زمن الغيبة الصغرى مساراً ثالثاً، فأصبحت التوقيعات تصدر من جديد ولكن من ثلاث قنوات:

الأولى: من يعيشون القرب من النائب، إذ كانوا يكتبون التوقيع، ثم يقوم النائب بإمضائه، ثم تكون المباركة من الناحية المقدسة. وهذا من الناحية العلمية يدخلنا في مشكلة خطيرة جداً.

والثمرة من كل ذلك أننا اليوم عندما نتحدث في إطار المرجعية فهل أن وضعنا اليوم يشبه ذلك الوضع قبل ما ينوف عن ألف سنة؟ أم أننا تقدمنا قليلاً؟ فمن الجميل أن يقف الإنسان مع نفسه وقفة ولو قصيرة للتأمل والقراءة.

ذكرى الشهيد الصدر:

مر علينا في ثنايا هذا الأسبوع ذكرى شهادة الإمام المجدد السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) الشهيد الرابع المظلوم. فهذا الإمام الشهيد كتب رسالته العملية الفتاوى الواضحة، فكان نقلة نوعية في عالم الرسائل العملية، فهي رسالة عملية حضارية في الحفاظ على الموروث وأسسه، وانطلاق بالفتوى إلى فضاءات واسعة.

إن هذا الشهيد المظلوم ورقة من الدوحة المحمدية العلوية الفاطمية، ومرجع دين بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وفيلسوف متضلع، ومفكر مبدع، وفقيه من الوزن الثقيل، صادق مع نفسه صادق مع الأمة من حوله صادق مع ربه. وقد طرق باب السياسة، وبقدر ما هو موجود من خلط للأوراق بين المسارين الديني والسياسي عند المدرسة العامة، كذلك في حدود دائرة المدرسة الخاصة. اللهم إلا ما كان من الاختلاف على نحو النسب.

أسس رضوان الله عليه حزب الدعوة الإسلامية، وغذّاه فكراً وسلوكاً وأخلاقاً وتربية. وكان قبل ذلك قد عاش اليتم كجده رسول الله (ص) ورعاه أخوه الآية السيد إسماعيل الصدر، وفتح له من خلال البناء الأول مسارات واسعة تخطى من خلالها المألوف في المحيط من حوله.

حصل الشهيد الصدر على الاجتهاد دون العشرين من عمره، وقيل قبل بلوغ سن التكليف. وفي حدود الخامسة والعشرين من العمر شرع في بحثه الخارج، وهذا ما يبدو في الصورة العامة، إذ كان قد مارس البحث قبل ذلك على نحو الانفراد مع أعلام لهم خصوصيتهم، ومسجد الحنانة شاهد على ذلك، وقد أشير لهذا في موطن آخر.

تصدى للمرجعية دون الأربعين من عمره الشريف، والتف حول مرجعيته النخبة من أبناء الأمة، من المثقفين المفكرين والحركيين وأصحاب الدراسات العليا.

أساتذته وتلامذته:

أما أساتذته فكان على رأسهم العلم الأكبر محمد رضا آل ياسين، وهو جده، وكان مرجعاً كبيراً، رجعت إليه الأحساء في تقليدها عند النقلة من مرجعية محلية إلى مرجعية خارجية.

ومن أساتذته الملا صدرا البادكوبي، الذي درس على يديه الأسفار الأربعة. ومنهم الشيخ حسين الحلي (رحمه الله)، الفقيه المظلوم، والأصولي المقصى، والذات المحاربة. وقد تأثر السيد الشهيد بمساره واستنباطه، وبصمته واضحة على فتاواه. ومنهم مرجع الطائفة في وقته السيد الإمام الخوئي (رضوان الله عليه).

أما تلامذته فقد تخرج على يديه أفذاذ وأركان مجاهدون صادقون، تطول بهم القائمة. كالمرجع الكبير السيد كاظم الحائري (حفظه الله) والمرجع السيد محمود الهاشمي (حفظه الله) والمرجع السيد كمال الحيدري (حفظه الله) والسيد الصدر الثاني (رحمه الله) ونور الدين الإشكوري، وشهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (رضوان الله تعالى عليه) والسيد العلامة المرجع محمد حسين فضل الله (رحمه الله).

قام بطرح أصوله للمباحثة في جامع الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) وفقهه في جامع الجواهري، أي أنه لم يبرح منطقة العمارة في النجف الأشرف. وألف الكثير من المؤلفات بقلمه الشريف، منها: غاية الفكر في علم الأصول، في عشرة مجلدات لم تر النور كاملةً إلى الآن. وأربعة مجلدات في شرح العروة الوثقى، وهي بحوث مركزة معمقة. والأسس المنطقية للاستقراء، الذي أذهل به في وقته كل المجامع العلمية على وجه الأرض، وأربك عقول أصحاب المنطق في تلك المرحلة. وكذلك فلسفتنا، واقتصادنا، والبنك اللاربوي في الإسلام، وأهل البيت (ع) تعدد في الأدوار ووحدة في الهدف. وهذا الكتاب لا ينبغي لشبابنا أن يكونوا في منأى عن قراءته. فمن قرأه استطاع أن يقرأ لأهل البيت (ع) في فكرهم وواقعهم وفكرهم وعطائهم.

استشهد رحمه الله مظلوماً سنة 1980م مع أخته بنت الهدى. وكان قد عُذّب، وظهرت آثار الحرق على وجهه، وسُلّم جسده، أما أخته الشهيدة بنت الهدى فاختلف في أمرها، فقيل: إنها عذبت ثم قتلت ثم سلمت، وقيل: إنها وُضعت في حامض النتريك (التيزاب) وأذيب جسدها. ومن الواضح أن الطاغية لم يرد أن يكرر ما فعل يزيد بقتله الحسين (ع) وتركه أخته زينب (ع) تسافر بثورته.

الفقيه في فكر الشهيد الصدر: 

إن الفقيه عند الإمام الشهيد الصدر (قدس سره) يختلف تماماً عما هو عليه في الكثير من المدارس، فلا بد أن يتصف الفقيه في نظره بما يلي:

1 ـ التبحر في العلوم الشرعية: وهذه نقطة ارتكاز والتقاء.

2 ـ أن يكون قوياً في نفسه: بحيث يثبت على موقفه مهما كلفه ذلك من ثمن. إذ كان بمقدوره أن يساوم ويداهن، ويكتفي بالتسبيح والاستخارة، ويعيش ما قدر له أن يعيش. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل بالمطلق، بل على العكس من ذلك.

3 ـ أن يكون قريباً من ربه: يعيش الله تعالى في أقواله وأفعاله.

4 ـ أن يكون قادراً على إيصال أفكاره لأبناء الأمة.

5 ـ أن يكون واعياً لكل أبعاد المرحلة من حوله: حتى لا تختلط الأوراق عليه.

6 ـ أن يكون قادراً على التضحية في سبيل المبدأ: وأن يوطّن نفسه على ذلك.

7 ـ أن يكون قريباً من أبناء الأمة: بحيث يعيش همها اليومي، وطموحاتها المستقبلية.

والشباب الذين يرغبون في الوقوف على الكثير من جوانب حياة ذلك الشهيد العظيم المغمورة، عليهم أن يرجعوا لكتاب السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، لأحمد أبي زيد العاملي، وسوف يقف على شيء مهول، وعالم من نوع خاص.

صحيح أن الشهيد الصدر قد قتل، إلا أنه لا يزال يبث الحياة في العقول النيرة والذوات الطموحة. فنسأله تعالى أن يجمع بينه وبين أجداده الطاهرين ـ وهو كذلك إن شاء الله ـ وأن يجعلنا من المستضيئين بنور علمه والمقتدين بسيرته، الآخذين بحجزته. وأن يحفظ علماءنا ومراجعنا جميعاً.

وفي الختام أود أن أشير إلى أمر مهم، هو أن البعض كان يظن أنني سوف أخوض في موضوع آخر وأذهب يميناً وشمالاً، إلا أنني أقول شيئاً واحداً فقط: عندما اعترض ذلكم الشامي الإمام الباقر (ع) في المدينة وقال له: أنت البقرة، قال (ع): يسميني رسول الله (ص) الباقر وتسميني البقرة! قال: أمك طباخة، قال (ع): ذلك شأن النساء. قال: أمك بذيّة، قال (ع): إن كانت كذلك فغفر الله لها، وإن لم تكن فغفر الله لك. فهوى على قدميه يقبلهما.

فالإمام الباقر (ع) قدوتنا، ولي فيه أسوة، وهو جدي، وأنا أولى من يستن بسنته، لذا أقول: نحن لا نزداد على المسيء إلا عفواً، فليسعَ سعيه، ويناصب جهده.

نسأله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.