نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال (14)

نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال (14)

عدد الزوار: 1289

2017-04-14

الجمعة 9 / 7 / 1438 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

مسؤولية العالم تجاه الأمة:

في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص) أنه قال: «أيما رجل آتاه الله عِلماً فكتمه وهو يعلمه، لقي الله عز وجل يوم القيامة ملجماً بلجام من نار»([2]).

مسؤولية العالم بين أبناء الأمة هي التعليم بالدرجة الأولى، فمتى ما تعلمت الأمة، ومتى ما ركبت سفينة العلوم والمعارف، شقت طريقها نحو الهدف في أعلى درجات السمو والرفعة واليقظة.

أما المسؤولية الثانية فهي التذكير بما تم تأسيسه من قواعد، وما رفعت عليه من أعمدة وقُسّمت من فروع. وأعني بالتذكير هنا التذكير بأمهات القضايا التي تعصف بالمجتمعات بين الفينة والأخرى. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾([3]). فالرسول (ص) لم يكن نائياً بنفسه، بل كان يعيش في صميم الحدث، ويضع يده على الجرح، وبعيداً كل البعد عن المجاملة والمصانعة. لذلك سارت سفينة الإسلام بهديه (ص) حتى وصلت إلى المستقر الذي وصلت إليه اليوم.

إن التذكير بالتكرار مطلوب ومؤكَّد عليه كثيراً في القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِيْنَ﴾([4])، وما نعيشه اليوم يدفعنا لحتمية التأكيد في القضايا المطروحة، أما الثمرة المترتبة على ذلك فهي عظيمة جداً، ومنها:

1 ـ رسوخ المعلومة في ذهن المتلقي: وهذا مطلبٌ في منتهى الجودة التي ينبعث الإنسان وراء تحصيلها.

2 ـ تعميق الفكرة أو القضية في ذهن المتلقي: من خلال التماس الروافد من هنا أو هناك حتى تأخذ تجذرها وتصبح ثابتة محكمة.

3 ـ النزول بالفكرة من عالم المفاهيم إلى عالم التصديق الخارجي: والنهوض بكل أعبائها والتضحية من أجلها. وبقدر ما تكبر القضايا، وما تكون فيها من قيمة، بقدر ما تستحق من التضحية من قبل أبناء الأمة، والتاريخ حافلٌ بذلك.

والمسؤولية بالدرجة الأولى ـ كما في النص الشريف الذي تلوناه ـ تقع على عاتق العلماء في زمن الغيبة، ففي زمن الأنبياء والرسل تكفلوا هم بهذه المهمة، وانتدبوا العارفين والعلماء من حولهم أيضاً، لا سيما من تربى على أيديهم، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.

وكذلك في زمن حضور الأئمة (ع) إذ كانت المسؤولية بهذا الاتجاه، فنهضوا بها بقدر ما أمكنتهم الظروف وأتيحت لهم الفرصة.

ثم جاء دور العلماء، لا سيما في زمن الغيبة، إذ تأكد الأمر وترسخ واتسعت دائرته. وبطبيعة الحال أن العلماء يختلفون فيما بينهم، كما أشرت إلى ذلك في الخطبة السابقة.

فالمرجعية سقف معين تعيشه الأمة ويعيشها، وهذا هو الحكم الأولي، أما من خلال الأحكام الثانوية فتأتي عملية الفرز والفصل في الملفات بين مرجع وآخر.

المحقق الكركي مثال العالم العامل:

ففي الدولة الصفوية كان المحقق الكركي، وكذلك الشيخ البهائي، وغيرهما ممن تطول به القائمة لو أردت استعراض طبقة عالية من علماء الأمة الذين يحملون امتيازاً، ولكن لا بد من الإشارة للشذرات التي خلفت وراءها موروثاً يرفع الإنسان رأسه به اعتزازاً وافتخاراً.

فالمحقق الكركي بفضل وجوده تطورت المرجعية كثيراً وتقدمت في مجموعة من الميادين التي لم تكن مسبوقة بها قبل أن يتسنم دفة المرجعية. وكان ذلك على كافة الأصعدة، لا على صعيد واحد كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

فالمحقق الكركي ابن جبل عامل في لبنان، وهذا البلد له طبيعته وخصوصياته، حيث تقلبت على ترابه أقدم الحضارات وأكثرها إبداعاً، فالحضارة الرومانية بكل إبداعاتها وتشكيلاتها، وما تعيشه لبنان من انفتاح وثقافة متقدمة وغيره إنما هو وليد ذلك الموروث الطويل العريض الذي ترك مساحة كافية من الحرية للتحرك والحراك في أكثر من اتجاه واتجاه، ولا تسأل عن النتائج لأن الأمور بخواتيمها.

هذا الرجل العظيم عاش الأجواء التي تهيئ له أسباب التشكيل والتكوين الذاتي في ذلك الظرف المواتي جداً، ثم انطلق إلى إيران بطلب من الدولة الصفوية ليمسك بالملف الديني.

والسؤال هنا: لماذا لم تكن المخاطبة للنجف مثلاً، التي كانت تمثل حاضرة؟ بل حتى كربلاء في وقتها التي كانت تمثل حاضرة، فلم لم يستقطب رجل من أقطابها وأعلامها؟ وكذلك كاشان التي لم تكن بعيدة عن تلك الأجواء، إذ كان لها قيمتها وحضورها؟ أو غيرها من الحواضر؟.

أتصور أن الرجل كان هو المناسب في المكان المناسب، من حيث الظرف الزماني والمكاني بما كان يمتلكه من آليات. فقد يكون لدى البعض علم، لكن المسألة ليست حصراً في هذا الجانب، فالمرجعية تختلف عن القيادة كثيراً، لأن المرجع قد لا تحتاج معه لأكثر من أن يكون عالماً عادلاً متولداً من أبوين شرعيين، وهذه الميزة تنطبق على الكثيرين في الحوزات العلمية. أما القيادة في وسط الأمة فتختلف تماماً، وتحتاج إلى عناصر كثيرة أخرى كي يصل القائد بالأمة من حوله إلى حيث المبتغى والمراد.

فإذا اجتمعت القيادة والمرجعية في شخص واحد، كما كان في يوم من الأيام في شخص السيد الإمام (قدس سره) فذلك فتح الفتوح، إلا أن التاريخ لا يسعف على تحقيق مثل ذلك إلا بعد فترات طويلة، ونأمل أن لا تكون كذلك، لأن الأمة في مسيس الحاجة أن يجتمع هذا وذاك لتأخذ مسارها الطبيعي، وتسترجع الكثير من دوران حركتها.

أبرز إنجازات مرجعية الكركي:

فالمرجعية في زمن المحقق الكركي تطورت كثيراً، بفضل وجوده وتحرره وذكائه، والرمي بالبصر في أكثر من اتجاه واتجاه، ولملمة الكثير من الأوراق المبعثرة، فطبع اسمه على صماخ التاريخ إلى يومنا هذا، وجامع مقاصده خير شاهد على ذلك.

1 ـ تأسيس ونشر العلوم:

فالأمر الأول الذي تحرك به هذا الرجل العظيم هو المسار العلمي، ففي زمنه تعددت الفنون وتشعبت المعارف. وبقراءة سريعة للمرحلة الصفوية يضع المرء يده على العديد من الشواهد.

وهنا ملاحظة بسيطة لمن أراد أن يكمل القراءة للمشهد الصفوي من جميع جوانبه، وهي أن لا يحصر نفسه على ما تُرجم من النصوص، إنما عليه أن يتسلح باللغة الفارسية، ويغوص في أعماق ما كتب بتلك اللغة، لأن المترجَم إما أنه لا يخلو من التشويه، أو أنه لا يفي بالغرض كما هو مطلوب، إذا لا يشكل سوى 10٪ من مجموع الدراسات حول تلك الدولة.

فالمستوى العلمي تعددت مشاربه، والفنون كذلك أخذت مسارات في منتهى التقدم والسعة. ففي المسار العقلي والفلسفة والرياضيات والتنجيم والفلك وأمثالها قد لا تجد في مسير المدرسة الإمامية مرحلة من المراحل في الماضي مثل ما تجده في تلك الحقبة الزمنية. فلو وضعت يدك بيد الشيخ البهائي (رحمه الله) لأخذ بيدك يرشدك إلى تلك المساحات والعوالم المتقدمة بحيث أذهلت المستشرقين عندما أرادوا أن يتعقبوا آثاره وآثار العلماء من حوله في تلك المرحلة الزمنية.

2 ـ التأليف والتصنيف:

والأمر الثاني هو المسار النقلي: فقد تحرك هذا المسار بشكل كبير، وكتبت الموسوعات، وكان فيها الغث والسمين، وربما لا يكون معنىً لمطالبة من كتب أن يكون محقِّقاً منقحاً، لأنه انتقل إلى عالم آخر، إلا أن المسؤولية اليوم ملقاة على عاتق طلاب الحقيقة ورواد المعرفة أن يكشفوا المستور ويغربلوا الموروث، فالزمن ليس في صالحنا أن نتفرج على موروث مشوه لأن الجيل ما عاد يتقبل مثل هذا الوضع، فالكرامات المصطنعة والمنامات الملفقة وغيرها طويت صفحتها وذهب زمنها إلى غير رجعة، والحجة اليوم تقرع بالحجة والدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان.

وفي الوقت نفسه أؤكد جانباً مهماً، هو أن مدرسة أهل البيت (ع) من القوة والاستحكام في وضع لا تحتاج معه إلى تلفيق المعاجز والكرامات، بل ربما أساءت إليها، كما هو واضح وبين، فقد أصبحنا اليوم موضع تندّر عند بعض الجهات والأطراف الأخرى، فهل نرضى لأنفسنا أن نكون محصورين في هذه المساحة؟ أم علينا أن نحرك الأجواء؟ أظن أن العاقل يميل للثاني، ولا يستسلم للأول، إلا إذا أراد أن ينسلخ من كينونته في هذا الزمن، ويرجع للوراء ولو في عوالم التبصير التي تعقد جلساتها ليعيش واقع ما قبل هذا.

كان المستوى التأليفي زمن الدولة الصفوية من الكثرة بمكان، إلا أنه جعلنا ندفع الضرائب حتى يومنا هذا، والسر في ذلك أن (الوِجادة) التي ذكرتها فيما مضى وخصصت لها وقتاً لا بأس به في إحدى الخطب الماضية، لعبت دورها المتقن من قبل من أسس لها وروّج وفرّع.

إن الأموال كانت توفر الكتب العجيبة الغريبة التي عفا عليها الزمن، فنفثت فيها الروح من جديد، والكتب التي لا وجود لها انتحل ما يشابهها، وتحركت (ماكنة) تصنيع الروايات. فتصنيع الروايات ليس حصراً على طائفة بعينها، إنما كل الفرق والطوائف الإسلامية مبتلاة بهذا الداء، وهو مرض عضال مع شديد الأسف.

أما على المستوى الآلي والتقني ففي الوقت الذي كانت أوربا تقدم في مشروعها المادي كانت المسلمون منقسمين إلى قسمين: أتباع الدولة العثمانية وأتباع الدولة الصفوية. فكان الغرب يتقدم في قراءاته وتحريك عقله، أما المسلمون فكانوا يحركون عقولهم في كيفية قضاء بعضهم على البعض الآخر، والتاريخ اليوم يعيد نفسه.

إن المستوى الآلي والتقني في تلك المرحلة له إسقاط كبير. ففي مجال التدوين كان سوق الوراقين قد تقدم كثيراً، وكانت الأمة لا تستيقظ صبيحة كل يوم جديد إلا على كتاب جديد، حتى أن بعض العلماء شكّل بعض المجاميع من حوله في سبيل جمع الروايات في موسوعات، ولا تسأل عن غربلة مجموع تلك الروايات.

3 ـ الإصلاح المالي والإداري:

أما المستوى الإداري في أيام مرجعية المحقق الكركي (رضوان الله تعالى عنه) فقد شكل المحقق اللّجان غير المألوفة، والمؤسسات الكبرى الراعية للحراك العلمي والفني والعملي.

هذا هو المحقق الكركي، فقيه أخذ بالمجتمع من حوله سواء في دائرته الضيقة وهي الحوزة العلمية أو في شموليته لجميع أطياف المجتمع.

أما على الصعيد المالي فكانت المرجعية الدينية تدير الحراك المالي بناء على المركزية، وهنا حصلت النقلة في باب الحقوق الشرعية، وهي نقلة كبرى، وسوف نرجئ ذلك إلى الملف المالي للمرجعية بما له وما عليه، فذلك أكثر جدوائية وعملية من قضية مر عليها قرون.  

وفي هذه الأجواء وتلك المسارات تشكلت المرجعيات المحلية وبرعاية من المرجعية المركزية المتمثلة بالمحقق الكركي، بمساندة الدولة الصفوية، إذ لم يجد المحقق في نفسه غضاضة أن تكون للمرجعية مواقع في أكثر من موطن وموطن مع تماسّ مع المركز وارتباط به، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على انفتاحه ونفوذ بصيرته، وقبوله للآخر.

فالمرجعيات المحلية أخذت دورها بناءً على أن المظلة كبيرة والخيمة تجمع الجميع، وهذا واضح حتى في الأقطار البعيدة، إذ كانت المرجعيات المحلية تمسك بزمام الأمور.

ومن تلك المرجعيات المحلية مرجعيةٌ تعرضت لها قبل أكثر من ثلاث سنوات، وسوف أعيد التعرض لها في القادم من الأيام، لأن البعض يبدو أنه لم يفهم المراد من طرح موضوع المرجعية المحلية، وأسأل الله تعالى أن يمدّ في عمري لأبين ما هو المراد من ذلك.

وهنالك أمر آخر على المستوى الاجتماعي، فالمرجعية في زمن المحقق الكركي أخذت دوراً بارزاً في هذا الاتجاه من خلال الالتصاق بالأمة، أفراداً وجماعات. فكانت هنالك نوافذ تم فتحها لهذا الغرض، منها بيت المال العام، فلم يكن بيت المال للمرجعية، إنما كان بيت المال العام، وهذا الأمر يذكّر الأمة بما كان عليه الأمر أيام النبي الأكرم محمد (ص) إذ كان بيت المال للمسلمين، وهذا يخرجنا من دائرة كونه بيت مال خاص بالمرجع فلان أو فلان أو الشيخ فلان أو السيد فلان، فهو بيت مال المسلمين بشكل عام.

4 ـ الإصلاح القضائي والتبليغي:

أما مناصب القضاء فقد انتقى المحقق العلماء الذين لديهم القدرة العلمية والخبرة العملية ليجعلهم قضاة، ليعيشوا المشاكل مع الأمة ويأخذ بها إلى حيث أرادوا من السعادة. فما كان يصل إلى منصب القضاة آنذاك إلا المجتهد النافذ وصاحب الخبرة.

أما صلاة الجماعة والجمعة فقد فرّق الأئمة في جميع المناطق التي كانت تحت سلطة الدولة الصفوية، فالمركزية أعطت للجمعة قوتها، وما نشاهده اليوم خير دليل على ذلك في حضور الخطاب الديني.

يقول الإمام الشهيد الصدر (قدس سره): «الهاربون من مسرح الحياة الاجتماعية([5]) المنعزلون عن الناس زهداً وتعففاً وتقوى ـ كما يدّعون ـ هم في الحقيقة هاربون من المسؤولية».

فليس كل من هرب من مسرح الحياة كان دافعه الورع والتقوى، إنما هو الخوف، لأنه إذا قال كلمة الحق، كان عليه أن يدفع الضريبة.

5 ـ التحرك السياسي:

وفي الجانب السياسي ثمة تمازج في البعد الديني في أعلى مستوياته، وكان المحقق الكركي نموذجاً واضحاً، إذ جسد دور الإمام الرضا (ع) في مجمل مرتكزاته، ومن أراد أن يقرأ حقبة الإمام الرضا (ع) في ولاية العهد قراءة منطقية واقعية، عليه أيضاً أن يقرأ حياة هذا الرجل العظيم. فالفقيه الكبير في نفسه يكبر في عيون الآخرين لأنه قريب من ربه.

كان المشهد السياسي في زمنه مشهداً محموماً، إلا أن ذلك لم يمنع الشيخ الجليل من خوض غمرات البحر، ويتحرك في مسارات المد والجزر. وكم غُيب هذا الرجل العظيم عن حياتنا! حتى الحوزوية مع شديد الأسف.               

كان العلماء في زمن الدولة الصفوية على ثلاث مواقع، وهذا ما سوف نتحدث في القادم إن شاء الله تعالى.

وأختم كلامي بحديث عن الإمام الباقر (ع) وقد سأله أحد أصحابه عن أفضل الأعمال يوم الجمعة فقال (ع): «لا أعلم عملاً أفضل من الصلاة على محمد وآله»([6]).

أسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.