نص خطبة:العلم والإيمان أساس الكمال (13)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: «من لم يقدر على ما يكفّر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً»([2]).
وفي الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «أشد ما يُتخوف على أمتي ثلاثة: زلّةُ عالم، أو جدال منافق بالقرآن، أو دنيا تقطع رقابكم، فاتهموها على أنفسكم»([3]).
ويقول السيد المرجع الكبير فضل الله (رضوان الله تعالى على روحه): علينا أن ننتقد رجل الدين حتى في أعلى الدرجات، كما ننتقد رجال السياسة والاجتماع. ليس هناك معصوم عندنا في هذه الحياة، إلا الخلف الحجة من آل محمد (عج). رجل الدين يفكر وقد يخطئ وقد يصيب، وعلينا أن ننبهه إلى خطئه ولا ندع أخطاءه تمثل حجة علينا.
التحرك العلمي والاجتماعي للصفويين:
في إصفهان بلغت الدولة الصفوية استكمل دورتها وامتداد سلطانها إلى هراة، وانعكس ذلك التمدد والتوسع والاستقرار على الساحة من حول تلك الدولة، بناءً على النَّظم العقدي فيما بين المركز والأطراف، وهذه حالة طبيعية لدى الدول التي تسير وفق أدلجة معينة.
وهذا المنعطف تجلت مظاهره في المواقع التالية:
1 ـ الطقوس الشعائرية: التي تم إحياء ما اندرس منها على يد الصفويين، وزُج فيها المفتعل والدخيل والمبتدع، وهو كثير، وقسم منه ندفع ضريبته اليوم، وهو ما يندى له الجبين.
2 ـ العناية بالأضرحة والمساجد والتكايا: من أجل تثبيت حالة معينة على أساس مما يتعلق بالجمهور العام من حولهم، ليس بالضرورة رغبة منهم في تعظيم مقام من بُني عليه المقام، أو كثرة المساجد وعلو بنيانها. فهذا الأمر نشاهده حولنا في الشاهد الحاضر بأقل طرفة عين. فهناك تسابق في البنيان لا لشيء إلا لأنه يسلط الضوء على زاوية من الزوايا لتعمّى الزوايا الأخرى.
فالتكايا كان لها نصيبها، وهي أيضاً تدغدغ حالة في التركيب الجيني للملوك الصفويين، وهو الحنين إلى الطقس الصوفي، وجلسات الخلوة، وإلى اليوم تملأ تكايا الصوفيين الأرض شرقاً وغرباً، وما على المتتبع إلا أن يحرك نفسه قليلاً.
في إصفهان بلغت الدولة الصفوية استكمال هذه الدورة، وترتب عليها الكثير من ذلك، فكانت المدارس الكبرى والمكتبات العامة وغير ذلك من الأمور.
وللحق نقول: بقدر ما كان للطقوسية من ضبايبة واستغلال من قبل ملوك الدولة الصفوية، بقدر ما كان لفتح آفاق العلم والمعرفة من أثر طيب ومباشر وكبير على الحراك العلمي والفكري والثقافي والفني، يتجلى في الأشكال التي كانت تسود الواقع آنذاك، رغم أن خلطاً بين الغث والسمين لا يحتاج أن يجهد أحدٌ نفسه كثيراً ليجده، فما عليه إلا أن يقلّب بعض الوريقات التي وصلتنا من ذلك القرن وتلك الحقبة الزمنية ليتبصر واقع الأمور وما نعيشه من حالة الرهن المباشر لذلك، من أعلى الهرم كمرجعيات، إلى أدناها كخطباء واصلين أو دون ذلك.
3 ـ المرجعية الدينية: فالمرجعية في عهد الصفويين تختلف تماماً عما هي عليه فيما قبلهم، وهذا الملف مع أنه شائك وخطير ولكن لا بد من الدخول فيه والاقتراب منه، رضي من رضي وأبى من أبى.
يقول البعض: إلى هنا قفوا، لكننا لن نقف، وإن كانت الضريبة المدفوعة كبيرة، فلا بد من دفع الضرائب، ولا تغيير بلا ضريبة في كافة مسارات الحياة، حتى الأعزب إذا أراد الزواج عليه أن يدفع ضرائب كثيرة، أقل ما فيها مفارقة الكثير من الأهل والأحبة والأصدقاء والخلان في جلساتهم وخلواتهم.
إن المرجعية الدينية يمكن أن تقرأ من خلال ثلاثة عناوين:
1 ـ خط المرجعية التقليدي المتوارث: الذي له عمقه وإلى اليوم يسجل حضوراًَ قوياً مع وجود بعض المقاربة والتماس في بعض المساحات.
2 ـ خط المرجعية في دائرة السلطة: وهذا ما عملت عليه الدولة الصفوية بقوة وهو ما سوف يتضح إن شاء الله.
3 ـ المرجعية الوسطية: وهي ما ننشدها.
جهود المحقق الكركي (ت 940 هـ):
المحقق الكركي (رضوان الله تعالى عليه) يمثل نموذجاً كبيراً، فهو في استنباطه تقليدي صرف، وفي تعاطيه مع البلاط من حوله حاضر في معترك السياسة، وفي رسم معالم الوسطية كان بأجلى صورة وأوضحها.
ولأن الصورة لم تكن واضحة وجلية في البدء، مع تقريب وخدمات واسعة من الملوك للمحقق الكركي، حسده بعض الوزراء، يدفعهم بعض رجالات العلم، فترك المحقق إصفهان وانتقل إلى النجف الأشرف.
والدولة الصفوية امتدت إلى أفغانستان في هراة، واحتاجت إلى رجل يقود السفينة، ويؤمّن بسطاً لجهة معينة، والشواهد على مثل هذه الحالة كثيرة، فقد وُلّي الإمام الرضا (ع) ولاية العهد للمأمون ليس حباً فيه، ولا حباً بآبائه وأجداده، إنما كانت المصلحة السياسية وقتها تستدعي ذلك وتستوجبه، لذلك قُدِّم الإمام الرضا (ع) ثم تمت تصفيته على يد من قدمه، والحياة دروس وعبر، وعلينا أن نستفيد منها.
كان ملك الدولة الصفوية آنذاك يعيش لوناً من العقلنة، فشخص العلاج الناجع في المحقق الكركي فاستقطبه. وهو عالم واعٍ منفتح بما تحمل هذه الكلمات من معنى، وقليل ما هم. فالذين يشكلون مثل هذه النماذج إنما هم شذرات عبر مسيرة التاريخ، وهو من تلك الطليعة بلا شك.
اختلف المحقق مع السلطة فغادر إلى النجف، ثم أعيد إلى إصفهان، وأسندت إليه المناصب العامة الكبرى آنذاك، ومنها لقب: شيخ الإسلام، وهو أول من تسمى بهذا الاسم بين علماء الإمامية. كما لقب بالولي المطلق، ولم يكن مسبوقاً به قبل ذلك من أحد. كما لقب بنائب الإمام، أي نائب الإمام الحجة من آل محمد في زمن غيبته، وكانت العناوين آنذاك لا تصدر من الهمج الرعاع، إنما من أعلى مقامات السلطة، ويترتب عليها الكثير من الآثار في الحيز العملي والميدان الخارجي.
استقر المحقق الكركي (رضوان الله عليه) في إصفهان، فشيّد المراكز العلمية، وخرج العلماء والقضاة والدعاة، فكانوا بمثابة الروافد من حوله، إذا لا يستطيع أن يصول بيد جذاء، كما يقول المولى علي (ع): «وطَفِقت أرتئي بين أصول بيدٍ جذاء أو أصبر على طَخية عمياء، يَهرَم فيها الكبير، يشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتى يلقى ربه، فرأيتُ أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذًى وفي الحلق شجًا...»([4]). لأنه لم يجد من ينهض معه ويقف إلى جانبه ويضحي من أجله، وخير دليل على ذلك ما جرى على الزهراء (ع) فلو كانوا لما كان ما كان.
الشيخ البهائي ( ت 1031 هـ):
ومن الروافد المهمة في تلك الدولة الشيخ البهائي (رضوان الله تعالى عليه) إمام العلم الديني والدنيوي، وإمام الهندسة والحساب والفلك والرياضيات، عالم مظلوم إلى اليوم، ولا تسألني عن سبب ظلمه.
والده الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي، علامة جليل كبير، استجاز منه أعلام، وأجاز أعلاماً كثر.
ومنهم العلامة عبد العالي الكركي، ابن المحقق الكركي، من علماء جبل عامل.
علماء جبل عامل:
ضمرت الحوزة العلمية في الحلة بموت فخر المحققين محمد ابن العلامة الحلي (ت 771 هـ )، وصعد نجم الحوزة في جبل عامل، فعلى يد الشهيد الأول صاحب اللمعة (ت 786 هـ) كانت البذرة الأولى، ثم الشهيد الثاني شارح اللمعة (ت 965 هـ) الذي وسع من دائرة الحوزة من جبل عامل، أما المحقق الكركي فكان نتاجها الطيب المبارك الذي شملت بركته جميع الأقطار، فكان أشبه بالشمس المشرقة من مطلعها. وكان جمع من الأساطين إلى جانبه آنذاك.
إن لجبل عامل جذوراً في التشيع منذ أن نفي إليه أبو ذر الغفاري، الصحابي الجليل الذي لم تقل الغبراء ولم تظل الخضراء ذا لهجة أصدق منه، فهذا الرجل العظيم عندما نفي اختار تلك المنطقة، وهي سلسلة جبال طويلة عريضة تمتد إلى أطراف الجليل الأعلى في فلسطين، وكانت الولاية فيها لعصور كثيرة لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) حتى جاء العثمانيون وحصل ما حصل.
كان جبل عامل مباركاً طيباً معطاءً بما تحمل الكلمة من معنى، ولا أضع يدكم أكثر مما وضعتم أيديكم عليه وعشتموه وشاهدتموه في أكثر من لون ولون.
لقد تميز جبل عامل بحوزته المنتجة الثرية القوية التي سيطرت على مفاصل بحوث العلم في الحوزات الأخرى من خلال اللمعة وشرحها للشهيدين (رضوان الله تعالى عليهما) ومعالم الأصول، لجمال الدين الحسن ابن الشهيد الثاني (959 هـ ـ 1011 هـ)، فالكتاب الأول وشرحه في الفقه، والثاني في الأصول، وبقيت الحوزة العلمية رهينة لتلك المباني والمصطلحات التي أسسوها وبنوا عليها.
المرجعية في عصر الكركي:
في هذا الجو أخذت المرجعية دورها الشمولي على يد المحقق الكركي (رضوان الله تعالى عليه) خصوصاً بعد أن فُتحت هراة واتسع البناء، فكان الأمر يحتم عليه تطوير عناصر التكامل في داخل شخص المرجع الذي يقود زمام الأمة، من خلال:
1 ـ رفع مستوى الكفاءات: في ذات المرجع ومكونه بما يجعلها قادرة على التعاطي مع تحديات المرحلة وحالة النقلة الكبرى. فبالأمس كانت خزينة الفقيه هي عبارة عما يؤخذ من الناس بفضل معاشهم ومؤنة سنتهم، ولكن مع تعدد الفتوحات للخليفة آنذاك واتساع الرقعة وجلب الغنائم بات رصيد المرجعية كبيراً، لأن المرجع كان له الخمس مما غُنم من تلك المعارك الطاحنة. وكذلك من المعادن والثروات وغيرها. فلأول مرة تجد المرجعية نفسها في وسط رسمي وسلطة.
2 ـ رفع مستوى الأهداف عند المرجع: فبعض المراجع لا هدف له في الحياة أكثر من كونه يبين الحكم الشرعي، والبعض الآخر يتقدم قليلاً، وثالث يدخل في معترك حياة الناس وواقعهم، ورابع يتلمس مواطن الخلل والضعف ليسدها ويملأ فراغها، وبعضهم يسعى لإقامة الدولة العادلة على وجه الأرض كما حصل مع السيد الإمام (قدس سره الشريف). فالمراجع يختلفون فيما بينهم من حيث البناء من شخص لآخر، فهذه قدرات وإمكانيات يمكن أن تُفعّل وتُطوَّر والعكس كذلك يمكن أن يحصل.
إن رفع مستوى الأهداف عند المرجع يعيش المرجع من خلاله المرحلة ويستشرف المستقبل، وإذا قرأت تاريخ المرجعيات من زمن الشيخ المفيد إلى يومنا هذا تجد المفارقة كبيرة، فأنت لا تستطيع أن تقيس بالسيد الإمام مثلاً من عداه.
فالمرجعية أكبر من حدود الفتوى بكثير، ولها مجالات متعددة. وقد سمعت ذات مرة مباشرة من السيد باقر المهري (رحمة الله تعالى عليه) إذ جاء إلى السيد الإمام فقال له: أريد الرجوع في التقليد إليك، فرد السيد الإمام قائلاً: إن كان في الدماء الثلاثة فلا حاجة لك في ذلك، أما إذا كان في دماء الكرامة فمرحباً بك. وهذا لا يعني التقليل من شأن المرجعيات الأخرى التي نحترمها جميعاً ونجلها ونقدرها، ولكن الله تعالى يقول: ﴿وَلا تَنْسَوْا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾([5]).
3 ـ إعادة الهيكلة العامة للمرجعية: من خلال تجديد عناصرها على أساس من الكفاءة العلمية والعملية، لا على أساس القرابة والمحسوبيات، لأن ابن المرجع قد يستحوذ على المرجعية كلها، وهذا ظلم. وكذلك صهر المرجع أو تلميذه أو من له مشتركات مع المرجع، أو من كان ابن بلده، فيصبح هو المقدم على الآخرين.
لذا نلاحظ أن السيد الإمام (رضوان الله تعالى عليه) حرم على أحد من أبنائه أن يتصدى لمنصب رسمي ما دام هو موجوداً، ويعيدها سيدنا القائد اليوم بالطريقة ذاتها، ومن خلال المنطلق نفسه، فلا نرى ابنه معه في سفر ولا حضر، ولم نرَ أحداً من أبنائه ينطق باسمه.
4 ـ فتح القنوات المباشرة مع أبناء الأمة: ليكون المرجع حاضراً في كل مساراتها. فالمرجع أبٌ للجميع، والجميع بين يديه سواء، ولا مجال للانتقائية في أي من المجالات. والسيد فضل الله (رضوان الله تعالى عليه) فتح القنوات مع أبناء الأمة من حوله، وبنى المبرات لليتامى وأبناء الشهداء، فاليتيم يقول: كان فضل الله أبي، وابن الشهيد يقول: كانت المبرات حاضنتي.
أنا لست طرفاً في هذا الموضوع إلا أن الحق لا بد أن يقال. فمن حارب وضلل وكفّر لم يبق من آثارهم شيء من أمثال ذلك .
إن المحقق الكركي قسّم الأدوار والمسؤوليات ووزعها، ففي الملف الديني بسط الوكلاء في الأطراف، وفي الملف الاجتماعي كان الإصلاح والغوص في جزئيات المجتمع، وفي الملف السياسي المشاركة الفاعلة مع الدولة القائمة، وتولي منصب القضاء والدخول في شؤون نظم حال رجالات العلم وفك الخصومة بين الناس.
وأختم بهذا الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لبعض أصحابه: «أرأيت مَن قِبَلَكم إذا كان الرجلُ ليس عليه رداء، وعند بعض إخوانه رداء، يطرحه عليه؟ قال: قلت: لا. قال: فإذا كان ليس عنده إزار يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزاره حتى يجد له إزاراً؟ قال: قلت: لا، قال: فضرب الإمام (ع) بيده على فخذه ثم قال: ما هؤلاء بإخوة»([6]).
لننظر إلى صدق السريرة في علاقاتنا، وهل أن باطننا وظاهرنا واحد أو أن هناك من يقبّل رأسك في الظاهر ويطعنك في ظهرك؟ وهل يرى الصديق الشَّين من صديقه شَيناً عليه، والزَّين زيناً له أم لا؟ وهل يبخل عليه بشيء؟ وإذا كانت لديه المقدرة على القيام بشيء هل يقوم به في قضاء حوائجه أم لا؟
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.