نص خطبة: العلم والإيمان أساس الكمال (10)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
العقل أساس الإنسانية:
في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر. ثم قال له: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا في من أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب»([2]).
ما دخل العقل في شيء إلا زانه، ولا سُلب من شيء إلا شانه، سواء كان محكماً في قول أم فعل، من أي أحد صدر، من كبير أم صغير، أم قريب أم بعيد، أم من عالم أم جاهل، أم كان موجهاً لفعل، بذات الترتيب الذي ذكرت، فالملاك فيهما واحد، وهو سيادة العقل على منظومة التفكير وجريان الحركة.
لقد حظي العقل بعناية خاصة من الله سبحانه وتعالى، حيث وردت هذه المفردة فيما يقرب من خمسين موضعاً من آيات القرآن الكريم، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن للعقل المركزية الأولى في توجيه الأقوال وتسيير الأفعال. وفي روايات أهل البيت (ع) أعطي العقل الصدارة بين الكثير من المفاهيم والقيم، لا لشيء إلا لأنه يستحق ذلك التقديم على ما سواه. كيف لا؟ وقد أخذ الله تعالى على نفسه إن لا يكمله إلا في من أحب من خلقه، وسيد هؤلاء بالمطلق هم محمد وآل محمد (ص).
ما هو العقل؟:
والعقل في اللغة شغل العلماء كثيراً، لأنهم إذا ما عنوا بتعريف مفردة ما قصدوا إلى جذرها في التركيب، وما توحي إليه الهيئة من دلالة في اللفظ.
فالعقل مصدر عَقَل يعقِل عَقْلاً، فهو معقول وعاقل، وأصله المنع والإمساك. والعقل ما تُعقل به حقائق الأشياء. وقد اختلف في محله أين يستقر من الإنسان، إذ ذهب فريق إلى أن موطنه القلب، وآخر ذهب إلى أنه الرأس، وجماعة أخرى حاولت أن تمزج بين القولين لتجعل مستقره الرأس والقلب في آنٍ واحد.
وكان لأصحاب الاصطلاح أيضاً لمساتهم في تعريفه، رغبة في تقريبه لذهنية المتلقي، فقالوا: إنه كائنٌ غير محسوس، ووجوده من الأمور البديهية، أي التي لا تحتاج إلى دليل وبرهانٍ على إثباتها، وجعلوا من التمايز بين الإنسان بما هو هو، والحيوان، دليلاً على أن العقل موجود، فما يحكم تصرفات الإنسان العاقل هو العقل، ونصفه بأنه عاقل لأن العقل أخذ مساحته في التوجيه، أما في الحيوان فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع، فلا عاقل إلا الحيوان المقيد بقيد النطق، الذي له القدرة والقيمة، وهو الإنسان فقط وفقط، وقد كرم الله تعالى الإنسان على سائر المخلوقات، وكان سيد الكرامة هو العقل، فبالعقل نمايز بين الصحيح وغير الصحيح، والسليم والسقيم، والحسن والقبيح، وهكذا.
مراتب العقل:
وللعقل مراتب أربع، يتنقل من الواحدة للأخرى، فبعض الناس يبقى في حدود المرحلة الأولى، فيكون أقرب ما يكون للحيوان، الذي ربما أُودع في بعض أصنافه الخفية شطرٌ من العقل، على أن الإنسان رغب في أن يكون في حدود تلك الحالة من البهيمية.
1 ـ العقل الهيولاني: وهو الذي يمثل المرحلة الأولى من مراحل العقل، وهي تعني فيما تعنيه المرتبة التي تكون فيها النفس خلية من جميع المعقولات التي لها حراكها في مرحلة التأسيس، سواء كان ذلك من الضرب البديهي أم كان خارج حدوده. وهذه المرحلة نستطيع أن نطلق عليها مرحلة الاستعداد للقوة لكسب المعارف، وكثير من القوى في الإنسان هي في حدود هذه المرحلة. أي القوة فقط، أما عملية الفاعلية والتحريك فتأتي متأخرة رتبةً عنها.
2 ـ العقل بالملكة: وهذا يتقدم بالإنسان في مساحة التقدم والتحضير لاستشراف الآفاق بناءً على تأسيس الأولويات في بناء العقل وحركته. وهي مرتبة يحصل للعقل من خلالها العلم بالبديهيات، أي القضايا التي لا تحتاج إلى دليل عليها، كوجودي أنا، إذ لا أحتاج إلى من يدلل على وجودي، وكذلك وجود الكون من حولي، لأنني أبصر الكون بعيني وأحس الأشياء فيه من كل جانب، بعيداً عن دائرة الفلاسفة السوفسطائيين.
وسواء كانت البديهيات هنا من الأمور التصورية أم التصديقية أيضاً، فإنها تبقى في حدود ما يشكل المكون الأساس للانطلاق إلى المرحلة الثالثة، وهي الأكثر تقدماً وأهميةً، وهي مرحلة العقل الفاعل.
3 ـ مرحلة العقل الفاعل: وكم نحن اليوم في مسيس الحاجة أن نحرك عقولنا وأن نترك للعقل مساحةً كي يتفعل في جوانب ما خُلق من أجله من قبل الله سبحانه وتعالى تشريفاً وتكريماً للإنسان من بين جميع مخلوقاته.
ومن خلال هذه المرتبة يتم استخراج العلوم النظرية، من العلوم البديهية الحاصلة للعقل في المرحلة الثانية التي أشرنا إليها. وهنا يمكن أن نعبر عنها بالقوة المنتجة. وقد تقدمت المعسكرات في سائر مكون هذا الكوكب، وتقدمت كثيراً بناء على ما هو المنتج والمستفاد من الحركة الفاعلية للعقل، ودونك الغرب والشرق فيما تقدموا، ودونك الأمة المغلوب على أمرها رغم أن الله تعالى شرفها بسيد البشر، وشرفها بخاتمة الرسالات، وبكل ما يدفع إلى أسمى مقامات الشرف.
4 ـ العقل المستفاد: وهي أرقى درجات الكمال العقلي، ولا يصل إليها إلا من أحب الله تعالى له أن يصل إليها بمعطى النص الذي تلوناه عن الإمام الباقر من آل محمد (ع). وهي مرتبة التعقل الفعلي المتولد من خلال حضور المعقولات البديهية والنظرية.
العقل نعمة كبرى:
ويبقى العقل أيها الأحبة السيد المقدم، والزعيم المسيَّد على رأس الأمة، لأنه النعمة الكبرى، وبمقدوري ومقدورك أن نتلمس ما لو غاب العقل أو أُسقط، فما عسى أن يكون المستوى الذي يتردى إليه الإنسان من درجات السقوط، فالمجنون مثلاً الذي سلبت خاصية العقل من مكوّنه يرثى لحاله ويبكى لواقعه ويتحسر على مشهده، ويكون الأمر أكثر خطورة عندما يقطع المرء مشواراً من حياته عاقلاً ثم يتحول فجأة إلى ذلك الإنسان الفاقد لخاصية العقل وحركته، وكم شاهدنا في الحياة من نماذج، فهنالك الكثير ممن كانوا متقدمين في دراساتهم ويحققون المراكز المتقدمة والمواقع العليا في التميز، لكن لسبب أو لآخر تحولت الأمور إلى وضع مأساوي، فينقلب ذلك الإنسان من العاقل الحكيم إلى مصاب بغياب العقل، فتترشح الحركات والأفعال التي يترفع عنها أبسط بني البشر لأنه لا يدرك ما يصدر عنه من قول أو فعل، والأمور بحساباتها بقدر ما يكون الإنسان في هذا الجانب.
ومثال آخر يساق على هذا المشهد، وهو الإنسان الذي يغيّب عقله بمحض إرادته، أو وقوعاً تحت سلطان البعض من حوله، كما يحصل لمن يتعاطى المسكر، إذ يفقد عقله وتكون تصرفاته لا تقف عند حد، فيتجاوز حتى على الأعراض القريبة من حوله، وهل بعد ذلك سقوط وسوء يمكن أن يُتصوَّر؟
أما العلماء فربما تتسلل لهم لوثة العقل أيضاً، ويغيب العقل عنهم، فيكون النتاج خطراً، لذلك يقول سيدنا الإمام (رضوان الله على روحه الطيبة الزكية المباركة): زلة العالم زلة عالم بأسره. فمتى ما كتب العالم، وكان فيما كتب الزلل، زلت الأمة من ورائه، والعكس صحيح إذ يرقى حبر العالم إلى ما هو أسمى وأرقى من دماء الشهداء بمنطوق النص عن النبي الأعظم محمد وآل محمد (ص).
إن العقل أيها الأحبة نعمة كبرى، ومن الواضح جداً عدم قدرته على درك ملاكات الأحكام ومناطاتها على نحو الاستقلال، رغم أنه يتدرج حتى يصل إلى المرحلة الرابعة إلا أنه يبقى قاصراً، لأن سيد العقول ومبدعها ومكرم الإنسان بالعقل هو الله تعالى حصراً عليه، لا على غيره من البشر مهما تقدموا. نعم، ربما يتم ذلك في بعض الموارد التي تحفظ ولا يقاس عليها، والشواهد من الشريعة كثيرة.
حجية العقل:
إن الدليل العقلي هو أحد الأدلة الأربعة، وقد سبق وأن تكلمنا عن الكتاب والسنة والإجماع، ونصل اليوم إلى المورد الرابع وهو العقل.
ينقسم العقل من حيث حجيته إلى قسمين: الدليل العقلي القطعي، وهو نوعي في إصداره وحركته وتوجيهه، وآخر لا يرتقي إلى هذا المستوى.
دعونا في هذه المرحلة التي يكون فيها الدليل العقلي قطعياً، أي دليل العقل النوعي، فإن كان الدليل من هذا النوع كان مقدماً على الدليل الشرعي اللفظي، وكذلك على غير اللفظي من الظنيات. وهذا يعني أن هنالك روايات كثيرة لا يمكن لها أن تصمد أمام النقد، لا لشيء إلا لأنها لم تصدر من منبعها الأصيل، فإما أن تكون من المدسوس أو المنحول أو الموضوع أو المقطع الأوصال أو المصحَّف عن وضعه التركيبي الأصلي. وإلا فإن الدليل الشرعي اللفظي الذي لا تتحكم القرينة في مساراته ومعطياته يبقى هو المقدَّم على غيره، وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوْحَى﴾([3]). فما صدر عن النبي وآل بيته (ع) قطعاً، ولم يحتج إلى قرينة صارفة، مع الموافقة المطلقة، فهو الوحي الموحى من الله تعالى في بيان أحكامه.
وهذا الكلام لا يشمل القرآن القطعي الصدور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكفلت السماء بحفظه، أما السنة المطهرة فهي قابلة أن تستمر بمسيرتها بعيداً عن يد العابثين ولم تقع في الوحل، وكم وقعت من النصوص المنسوبة إليهم في هذا المستنقع. ونحن اليوم من يدفع الضريبة، وما يجري في الساحة ويشغلها هذه الأيام هو نتاج لمثل تلك الأمور.
ثم الدليل العقلي الظني، الذي لا يصل إلى مستوى القطعي، وهو متأخر عن الدليل الشرعي اللفظي الظني، وكذلك غير اللفظي أيضاً إذا كان ظنياً. ونستطيع في هذا المربع أن نضع يدنا على الإشكالية، بين ما هو منتج عقلي مقدم، وما هو منتج عقلي لكنه ظني من خلال مقدماته التي ليس لديها القدرة على الوصول إلى النتائج الصحيحة السليمة، ورغم ذلك يراد منا أن نرفع يدنا عن أدلة عقلية قطعية، لننساق وراء نصوص عبث بها العابثون، وتحكمت بها فصول السياسة عبر القرون المتقضية.
وأما من حيث الموضوع فيقسم العقل إلى قسمين: المستقلات العقلية، وهي ما يدركه العقل ويحكم به دون حاجة إلى البيان الشرعي، وفي هذا الموقع خلاف طويل عريض بين أتباع المذاهب الإسلامية، دُفع ثمنه أيضاً وضرائبه.
ومن مسائله التي أخذت الكثير في هذا المجال: الحسن والقبح العقليان، وقد أجهد علماء الأصول من الشيعة والسنة أنفسهم في تنقيح المناطات وفصل الاشتراكات، للخلوص إلى نتائج تستفيد من ورائها الأمة.
ثم المستقلات العقلية، وهي ما يدركه العقل من خلال البيان الشرعي كما لو كانت مقدمة الشيء شرعية، ومتعلقه أو مؤخره عقلية، أو عكس ذلك. ومن شواهده ومصاديقه مسألة الضد التي أجهد العلماء من أرباب الأصول أنفسهم لبيانها.
مسار العقل في حياتنا اليوم:
وهنا يرد سؤال: ما هي المساحة التي يشغلها المسار العقلي في حياتنا اليوم ونحن أبناء القرن الحادي والعشرين الميلادي والخامس عشر الهجري؟ هل يراد لنا أن نتحرك وفق معطيات العقل، أو يراد منا أن نجمد عقولنا؟ أنصفونا أيها العقلاء ولو للحظة واحدة، ولا نريد أكثر من ذلك.
ما هي المساحة التي يشغلها العقل في حياتنا اليوم وخصوصاً في الأوساط الحوزوية؟ ففي الحوزة مسارات عدة، ربما كانت في يوم من الأيام لم تحظ بعناية التقسيم وتسليط الضوء من الباحثين والناقدين والمتابعين والمريدين أيضاً، أما اليوم فلا مجال لنا أن نغض الطرف عنها.
يقول البعض: لماذا تتحدثون في الفضاء العام؟ إن الكلمة ربما تقال في زاوية ما، فلماذا تصدحون بها في كل مكان؟ لكن ما جاوز الشفتين فقد ملأ الخافقين. فأنا الآن أتحدث ولدي يقين أن بعض من في الجامع يراسل من هو خارج الجامع، وهذا أمر طبيعي.
كان الشيخ الوائلي في أيامه يقول: نحن في زمن الكهرباء ويراد منا أن نعيش عالم الظلمة. أقول: رحمك الله يا شيخ المنبر المقدس في روحه، الواعي في فكره، والمحطم لأصنام الجهل والغباء في ذهنية البعض. أقول لك وأنت في عالم الفردوس: ماذا يراد بنا ونحن في عالم الانترنت المتقدم على عالم الكهرباء في عطاءاته وإشراقاته ونتاجاته والأخذ بمسيرة البشر إلى عوالم الآفاق البعيدة؟
إن هذا الرجل لو بعث من قبره لما استخدم مفردة (كهرباء) التي أصبحت قديمة جداً، إنما هو عالم النت، فالدنيا اليوم بين يديك بحركة أزرار بسيطة، فكيف يمكن لفلان من الناس أن يتحدث في مكان ما ولا أحد يدري به؟
فالمسارات في الحوزة في التعاطي مع العقل أربعة:
1 ـ المسار التقليدي المعتدل.
2 ـ المسار التقليدي المتشدد المتطرف المتزمت الذي يلغي الآخر.
3 ـ المسار الإصلاحي المحافظ.
4 ـ المسار الإصلاحي المنفتح.
وسوف أقف عند هذه المسارات الأربعة في الخطبة القادمة إن شاء الله تتعالى.
ولدي هنا أيها الأحبة كلمة مهمة أقول فيها: لن يكون الدم رخيصاً مهما كلف الأمر من ثمن. ونقول كما قال السيد المرجع: قولوا: أنفسنا. ونقول أيضاً: إن المتاجرة بدم أربعمئة مليون شيعي مسلم ليس من الأمر الهين والسهل. وفي الوقت نفسه ليس من الأمر الهين السهل الاستهتار بدم مليار مسلم سني. فينبغي على الجميع أن يحترم الكبار عند الفريقين، ومن يَحترم يُحترم.
ما الذي تنتظرون بنا؟ هل تنتظرون بنا حتى نقتل كالخراف؟ ولماذا نصبح في معرض الخطر؟ إننا لو لم نكن في دولة الأمن والأمان، والسلطة الشديدة الحاكمة في هذا الملف لكان حالنا مختلفاً.
إننا نرى البعض، من أجل دراهم معدودة يتسلمها وكيلٌ هنا أو وكيل هناك، قامت قيامتهم وتحركت (غيرتهم)، واستنهضوا المرجعية وفعلوا ما فعلوا، ولكن دماء أربعمئة مليون شيعي مسلم لا تحرك فيهم ضميراً.
إننا سنبقى نحافظ على مقدسات الجميع بدمائنا، وأرواحنا، ولن ننتظر من أحد قولاً ولا فعلاً، فدماء الناس وأعراضهم وكراماتهم غالية عند الله تعالى، وعند الناس، وعند الإمام الحجة (عج) والإنسان الذي يحترم نفسه ويرى أنه عاقل.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.