نص خطبة:العلم والإيمان أساس التكامل الإنساني (58)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف المروي عن النبي الأعظم (ص): «يحمل هذا العلم من كل خلف عدول، ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين»([2]).
وقفة مع المدارس الفكرية:
لتنوع المدارس أثره في خارطة التفكير عند الناس عامة، وذوي الاختصاص بشكل خاص، وليست الحوزة العلمية بعيدة عن ذلك. فالصدر الأول رضوان الله عليه يمثل نموذجاً راقياً إذا ما أردنا أن نتقدم بمسار المرجعية بعنوانها الخاص، والحوزة في عنوانها العام.
تقدم الكلام في أثر المدارس الفكرية في المشهد العملي والثقافي والرسالي والحركي في عنوانه العام. وهذه المدارس مع بدايات القرن العشرين، ونهايات القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت تتسيد المواقع وتتقاسم الحصص فيما بينها. وتقدمت الأيام والعقود، حتى طويت صفحة القرن العشرين. ثم وجد المسلمون عامة، وأتباع مدرسة أهل البيت (ع) خاصة، أنفسهم أمام نقلة نوعية لم تكن معاشة قبل ذلك، جراء ما حصل في إيران من تغيير نظام الحكم فيها. فهذا التغيير ترتبت عليه الكثير من الأمور فيما هو مضاف للقريب، وما هو موزّع على ألوان الطيف في المسافات البعيدة، ولن ألج في هذا الموضوع كثيراً، لأن له تبعاته وما يترتب عليه، وأنا في غنىً عن ذلك تماماً.
مدرسة العقل:
فمن المدارس التي تقدمت بالفكر البشري المدرسة العقلائية، ومحيط ومساحة وأرباب هذا المسار كان في أوربا، وقد أحدثوا نقلة نوعية، ولم يستسلموا للموروث، وإنما أخضعوه لأقسى عمليات الجراحة، وبعضها لم يكن خاضعاً للتخدير أيضاً، مما تسبب في آلام وأوجاع كبيرة لأرباب الكنيسة. وما نعيشه في واقعنا الشيعي اليوم، والإسلامي في دائرة أوسع، هو أشبه ما يكون بتلك النقلة.
فالمسارات الدينية خجولة عند الاقتراب من حركة العقل في غربلة الأشياء، سواء كانت تلك الأشياء ذات عمق مادي، أم أكثر من ذلك، ألا وهو العمق المعنوي، وهو ما يعنينا. والكلام في هذا الاتجاه طويل عريض، أشرت إليه من خلال فترتين زمنيتين: الأولى: قبل ثلاث سنوات تقريباً. والثانية: قبل ثلاثة أسابيع يسيرة من شهر رمضان المبارك، أعاده الله علينا وعليكم بالخير والبركة.
هذه المدرسة تدعو أن يكون العقل هو المصدر الأول للمعرفة، وما عداه لا يعدو أن يكون رديفاً، يمكن أن يؤخذ به أو ترفع اليد عنه. بل حتى ما يدعى من هذا النوع لا بد أن يخضع لحركة العقل في داخله، فإن تم أُخذ على نحو المؤيِّد، وإلا رفعت اليد عنه من الأساس. وعلى أساس من ذلك تعرف الأفكار الصحيحة والخاطئة.
وعلى رأس هذه المدرسة المفكر الكبير ديكارت، وهو أحد أعمدة المدرسة العقلية، وإن ترتب على مختاراته وتنظيراته كثير من التغيير في المسارب المادية، حتى أن البعض توهم أن الحركة المادية إنما أشعل جذوتها ديكارت. نعم، باللازم البعيد يمكن أن يكون هذا صحيحاً، ولكن إذا ما أخضع للدقة في المقاييس المنطقية، فإن التحفظ عليه يبقى كبيراً وقائماً.
هذه المدرسة كتب لها نجاح في كثير من المجالات، وتقدمت الحركة إلى أكثر مما كان مرسوماً لها، بحيث أن البعض انساق وراء هذا الأمر، حتى تخلص مما يعيشه بالفطرة في داخله مع شديد الأسف، وهذا ما يعبر عنه بالانحراف الفكري، فالانحراف الفكري لا يعني بالضرورة أن ينسلخ الإنسان من دين فينتحل ديناً آخر، بل كل مسار يأخذ البوصلة باتجاه آخر، ويسير الإنسان وراءه بخلاف الثوابت الأولية فهو انحراف.
المدرسة المثالية:
كما أن المدرسة المثالية أرادت أن تضع لها قدماً وأن تترك وراءها بصمةً بحيث لا يُستغفل أربابها ولا تلغى من الأساس في تحريك أوراق الفكر عند أبناء الأمة أو العالم بأسره. وهذه المدرسة تمثل موقفاً فلسفياً علمياً نظرياً، من خلال إرجاع كل مظاهر الوجود إلى الفكر، فليس في هذه المدرسة ما هو معنوي يرتب آثاراً، إنما هناك أمور خاصة يعول عليها في هذا المسار. والغاية من ذلك أن تجعل من الفكر منطلقاً لحقيقة الوجود. فجميع الحراك الفلسفي في المدارس القديمة والحديثة الهدف منه استكشاف الوجود، فإن انتهوا من هذه المرحلة ذهبوا إلى ما هو أكثر تقدماً وبعداً، وهو: من الذي أوجد هذا الوجود؟ هل أوجد نفسه بنفسه؟ أو أن له مُوجداً؟ بل إن بعض مدارس الفلسفة تتساءل: من قال: إن هذا الوجود المادي موجود بالفعل؟ أي أنهم ينكرون الوجود الحقيقي لهذا الكون، وهذا يكشف عن لوث فكري وصل بالعقل البشري أن ينكر المسلّمات، فيرى أن ما أمام عينيه وحواسه وهم.
إن هذه المدرسة تبني نظريتها على أساس من أسبقية المثالية بكل معانيها على الواقعية، بأن الأشياء عبارة عن مُثل لا حقيقة لها في التشخص الخارجي، وما هو متشخص خارجاً منتزع من ذلك الواقع المثالي الذي يتحرك في عالم الذهن والتصور ليس إلا، وأن ذلك العالم الذهني في تلك الحقيقة، ونعني بها حقيقة الوجود الخارجي.
المدرسة النفعية (البراغماتية):
ثم جاءت المدرسة النفعية لتستفيد من أولئك الذي خطوا بالعقل البشري مسافات وخطى بعيدة. وهذه المدرسة هي التي تسوس العالم اليوم بكل مقدراته. وهي تعبر عن مذهب أو سلوك أو توجُّه أو نمطية، يعبر عنها بالتوجه الفلسفي البراغماتي (pragmatism) أي المسار الفلسفي القائم على أساس المنفعة، بخلاف المدارس الفلسفية الأخرى، التي هدفها الأول والأخير هو الوصول لاستكشاف كنه حقائق الأشياء، حتى عندما يبحثون عن واجب الوجود، وهو الوجود المطلق، يفترضون أنه شيء يمكن الوصول إليه بالطرق المعهودة والمعلومة والعياذ بالله.
إن هذه المدرسة ابتعدت بنفسها شيئاً فشيئاً، فصارت تحاسب الأشياء بقدر ما يعود ذلك الشيء على صاحبه بالمنفعة. من هنا نجد أن البعض عندما يقف لقراءة بعض رجالات السياسة الكبار في العالم اليوم، تحدث لديه حالة من العجب والاستغراب، ولا يدري أنه يجهل الكثير من مقدمات الأشياء، فالكثير من رجالات السياسة في العالم لا يتحركون عبثاً، إنما يتحركون وفق دراسات وخطط، تكون في ظاهرها غير مقبولة، ولكن في واقع الأمر أن من سار في ترتيب أوراقها يدرك ما يترتب على ذلك من الآثار. فلا بد لمن يقرأ مشاهد السياسة أن يتعامل مع واقع، وأن يعيش حالة من الواقعية والإنصاف، فلا يذهب بعيداً لأنه يمتلك شيئاً من المعرفة هنا، وشيئاً من القراءة هناك، أو سمع مصطلحاً سياسياً، وآخر هناك. فالقضية أكبر من ذلك بكثير، لأن عوالم الفلسفة خاصة، وعوالم السياسة أكثر خصوصية، لأنها تجمع جميع المسارات والمذاهب في يدها، فعندما تكون السياسة هي السياسة المرادة والمعرّفة من خلال أرباب الفنون، فإنها تنطلق من هذه المنطلقات. فعلى الإنسان أن لا يستصغر شيئاً، وأن يكون حذراً ودقيقاً.
وللمسار الفلسفي البراغماتي آثارٌ عديدة، ومن آثاره الواضحة إحداث الثورة الكبرى على مسارات الفلسفة النظرية بشقيها القديم والحديث.
وفي الحوزات العلمية اليوم نجد أن المسار الفلسفي القديم في حالة واضحة من التراجع التي لا يمكن إسدال الستار عليها. وكذلك الحال في بقية المدارس الأخرى من المسلمين الذين ينفتحون نوعاً ما على المسارات الفلسفية، ولكنهم يتشبثون بمصطلحاتها وقواعدها القديمة. فهؤلاء أيضاً يعيشون حالة من التراجع والخجل والخيبة. فاليوم لا يمكن أن نسيّر المشهد من حولنا على أساس مجموعة من الأصول التي ثبتها بعض علماء الفلسفة من المسلمين في القرون المتقدمة، ومع شديد الأسف، إلى اليوم هي محط نظر الكثير ممن يسير بهذا الاتجاه. حال أن الفلسفة العالمية أخذت مسارات أخرى، وقد تقدموا وتأخرنا، وتطوروا وتراجعنا، وعلى هذه قس ما سواها، والمرء خصيم نفسه، وعلى المسلم أن يكون في حالة من الوعي أكبر، فعدم الوعي لا ينتج شيئاً، والأسوأ من ذلك أن يفتقر العالِم للوعي.
لقد جاءت المدرسة البراغماتية على حساب الفلسفة المثالية، التي ترى أنها قبرت المدرسة العقلانية في بداية الأمر، حيث تولد المذهب البراغماتي، وهو سيد المسارات اليوم، ولا أحد يستطيع القول: إن البراغماتية لا تأخذ الناس اليوم ذات اليمين وذات الشمال.
إن هذا المشهد بدأ في القرن العشرين يضع يده على جميع الملفات العالمية، انطلاقاً من أمريكا، العالم الجديد، لذلك تجد أمريكا اليوم، بناء على ما تتعاطاه من قواعد هذا المذهب النفعي، بيدها مقدرات العالم. وهذا هو الواقع.
إننا نجد أن دولة مثل كوريا الشمالية، تعيش خمساً وستين سنة، بعشرين مليون إنسان، تحت خط الفقر، من أجل مفاعل نووي وقنبلة نووية، أنهت بجرة قلم كل ما بنته في تلك السنين، كل ذلك بسبب تعرضها للتهديد المباشر، إما أن تتخلى عما بنته، أو تنتظر المزيد. وهنا تحرك العقل الكوري الشمالي، واتجه باتجاه البراغماتية. فذهبت معاناة أجيال وأجيال، من الجوع والفقر والمرض والجهل، بتوقيع من رجل واحد. هذا هو المنطق البراغماتي.
وقد يسأل سائل: هل يمكن أن نتصور هذا في المنظومة الدينية؟ الجواب: نعم، هذا ممكن، ولا مانع منه.
قد يتصور الكثيرون أن المذهب البراغماتي وليد اليوم، لكنه كان يسير جنباً إلى جنب مع المسار الديني الإسلامي، منذ اليوم الأول. والتاريخ أمامنا شاهد على ذلك، وأنا أخاطب العموم، خارج هذا الجامع، لكننا لا نقرأ مع الأسف الشديد.
إن القراءة مريحة، فأنت تتنقل من كتاب إلى كتاب، ومن موضوع إلى موضوع، وهذا أجمل بكثير من أن تكون على واحد من السفوح الجبلية في إحدى الدول الأوربية، كسويسرا وأمثالها. فيفترض أن تنتهي هذه القطيعة بيننا وبين الكتاب.
إن روح هذه المدرسة هي عبارة عن العمل لتوفير متطلبات الحياة، ولكن في عالم الظاهر المادي.
والسؤال المطروح بعد هذا كله: أين نقف نحن من جميع هذه التيارات الفكرية والعلمية والجدلية في بعض مراحلها؟ وفي ما يعنينا اليوم؟ وما قد يقع غداً؟ ثلاثة أسئلة تبحث عن جواب.
موصفات الفقيه:
وبالعودة إلى موضوعنا الأساس، وهو: من هو الفقيه؟ نحاول أن نختم الموضوع هذا اليوم، لننتقل إلى موضوع لا يقل أهمية عنه، وهو: من هو الوكيل عن المرجع؟ هل الوكيل يمثل الله على وجه الأرض؟ أو يمثل النبي الأعظم (ص)؟ وهل أن الوكيل عندما يتسلم الوكالة عن المرجع، يمثل المرجع بعينه؟ هذا ما سوف نصل إليه في بحثنا القادم، ونتناول موضوع الوكالة منذ زمن المعصومين (ع)، حتى الغيبتين الكبرى والصغرى، وكيف تطورت هذه الفكرة؟ وكيف أصبحنا نتعامل مع الوكيل العادي على أنه يمثل ما يمثل من القداسة؟ هذا ما سوف نتناوله في القريب القادم إن شاء الله تعالى.
يقال في الاصطلاح: عالمٌ، فقيه، مجتهد، وهي تدل على معنى واحد، وهو من يبذل جهده للوصول إلى الحكم الشرعي، من خلال القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، على خلاف في تفصيل الأدلة بين المسلمين. فهناك من يرى أن الأدلة أربعة، وهناك من يرى أنها سبعة، وهناك من يرى أنها أحد عشر، حسب توسع المذاهب وضيقها.
وفي رأيي ومرئياتي الأساسية، أن الفقيه السيد محمد تقي الحكيم رضوان الله تعالى عليه، صاحب كتاب الأصول العامة للفقه المقارن، فتح باباً واسعاً في الحوزة العلمية، إلى اليوم لم ترغب الحوزة في الدخول من خلاله مع شديد الأسف[3]. والسبب في ذلك أن الدخول من خلاله يفتح الحوزة على المحيط من حولها. ومشكلتنا نحن أتباع مدرسة أهل البيت (ع) مع شديد الأسف، اعتقادنا أننا الحق المطلق وما عدانا الباطل المطلق، وهذا خطأ، لأن معظم الأحكام التي بين أيدينا منشأها أدلة ظنية، وهنالك فرق كبير بين ما هو ظني وما هو واقعي. فليس هنالك مرجع يستطيع القول: إن هذا حكم الله، وما عداه حكم الشيطان.
لذا فإن هذا المسلم عندما يكون له خيار، ويكون للآخر خيار في الاتجاه الثاني. فوحدة المرجعية، والتمركز حول مرجعية واحدة لإسقاط الآخرين ومحاربتهم، حالة مرضية لا يمكن أن يكون لها منتج سليم. ولو كان توحيد الأمة حول مرجعية واحدة هو الهدف، لتوحدت الأمة في أيام السيد الخوئي، أو السيد الإمام، أو غيرهما، لكنه غير ممكن، والأيام القادمة سوف تزيد الفتق على الراتق.
شروط الفقيه المجتهد:
إن من يطلق عليه عنوان المجتهد بالعناوين الثلاثة المتقدمة، لا بد أن تتوفر فيه شروط، منها:
1 ـ أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة والمطهرة: فمن يتصدى لاستنباط الحكم الشرعي، لا بد أن يكون لديه الإلمام الكافي على مستوى العالم القادر على أن يتعامل مع الآيات والروايات سنداً ودلالة، على أن ينفتح على جميع المسارات من حوله.
ولننظر إلى مقدار المساحة التي يشغلها القرآن الكريم في حوزاتنا العلمية، سنجد أن آخر ما يفكرون فيه في الحوزات العلمية هو هذا. لذلك عندما يفتح البعض هذا الباب يواجه بشكل غير مناسب، حتى أن بعضهم وصل به الحد إلى التكفير والتضليل والطرد من رحمة الله تعالى.
فالسيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه عندما أراد أن يكتب تفسيراً وقف في طريقه قطّاع الطرق، بدعوى أن هذا لا يتناسب ومقام المرجعية! فهل أن التشرف بالقرآن الكريم والبحث في آياته لا يتناسب ومقام المرجعية؟ وهل تكمل المرجعيات وتشرف إلا من خلال الكتاب المنزل والسنة المطهرة الواردة عن محمد وآل محمد (ص).
2 ـ أن يكون عالماً بلسان العرب: فمفاتيح القرآن الكريم والسنة النبوية لسان العرب، لا لسان غيرهم، لأن غيرهم إذا أراد التكلم بلغتهم كان عليه أن يرجع لقاعدة، أما العربي فيتكلم على سليقته، فغير العربي يحتاج إلى صناعة كي يقوّم لسانه، أما العربي فهو طلق اللسان، وذلك ينعكس على قراءاته النصية ومتابعاته الأدبية. فلو أعطيت قصيدة شعرية لعربيّ صحيح اللسان، وآخر من واحدة من الأمم من حولنا، فسوف تلاحظ الفرق الشاسع بينهما.
3 ـ أن يكون عالماً بأصول الفقه: ولكن أي فقه؟ هل هو فقهنا الموجود اليوم في الحوزة العلمية؟ فأنا ابن الحوزة، وأعطيت الكثير من عمري لهذا الفن، فوجدت أن ما يُدرّس من هذا العلم في الحوزة، لا علاقة له في معظمه بأصول الفقه التي أسسها محمد وآل محمد (ص) وإنما هي عبارة عن مجموعة من القضايا المستخلصة والتنظيرات المنتزعة من هنا وهناك، والتي أُفرغت وزرّقت. وأقول بضرس قاطع: إن العربي السليم اللسان لا حاجة له بها، إنما يحتاجها من لا يتمتع بلسان عربي. ولا أعني بصاحب اللسان العربي أن يكون عربياً حصراً.
4ـ أن يكون محيطاً بمعطيات الزمان والمكان: فالفقيه الذي يفرغ الفتوى من الزمان والمكان، فقيه يعيش في عالم كان يا ما كان في قديم الزمان. فلا بد للفقيه أن يعيش عصره، وأن يطلع على مدارس الاستنباط وأين وصلت.
ومما ينبغي أن يتمتع به الفقيه اليوم، الخبرة المتراكمة من خلال ما عاشه من تجارب الآخرين في شتى مناحي الحياة وفصولها. فلو أنني جئت بفقيه عاش قبل ستة قرون، فهل يصلح أن يكون مرجعاً للأمة اليوم؟ ولكن يوجد اليوم فقهاء بنفس المقاييس.
ومما ينبغي أن يتمتع به في هذا الصدد أيضاً، أن يكون ذا حسٍّ عال في المجالات السياسية، وأن يعرف ماذا يدور في الدنيا من حوله. وكذلك المجالات الاجتماعية والإدارية وغيرها، ولا يستطيع الفقيه اليوم أن يقول: لا علاقة لي بالسياسة، فالناس اليوم تكتوي بنار السياسة، ولا يمكن أن يقف متفرجاً. فالفقيه لا ينحصر دوره في الحيض والنجاسة والطهارة والخمس والوصية وغيرها.
فلا بد أن يمتلك الرؤية الواضحة في مناحي الحياة بكل تقلباتها حتى يكون بمثابة ركيزة التوازن فيما ينبغي قوله وفعله وما لا ينبغي في دائرة الزمان والمكان.
من هنا نقول: على الحوزة العلمية أن تجدد نظرها في مقومات الفقيه الذي يتم الرجوع إليه وتناط به مهام الفتوى، فمقاييس الماضي لا يرتضيها شبابنا. وها أنا أدق لكم ناقوس الخطر، فالفقيه بمقاييس الأمس لا يصلح أن يكون اليوم، وغداً ستكون عدم صلاحيته أكبر.
وعلى المكلفين اليوم أن يعيدوا الحسابات فيما يتعلق بمنظومة التقليد وطرقها بما يعطي للمرحلة أثرها في ذلك حتى نكون مجتمعاً واعياً.
وعلينا أيضاً أن لا نكون سلبيين أمام الظواهر المستجدة من حولنا، وهي عبارة عن الآراء التي يطرحها بعض الفقهاء اليوم، فالخسارة التي أصابتنا باستشهاد الشهيد الصدر والسيد فضل الله، لا يعلمها إلا الله تعالى والإمام الحجة، والشيخ الفضلي عاش بين ظهرانينا غريباً، ومات غريباً، ولا زال فكره غريباً، ولا يعلم خسارته إلا الله تعالى والإمام الحجة، وغداً سوف ندفن فلاناً وفلاناً ونعيد الكرة.
فالفقيه، ومدرسة الفقه، من خلال ما لديها من أصول عامة وعملية قادرة على التعاطي مع كل جديد مهما كانت أسبابه وتبعاته، والآثار المترتبة عليه.
لذلك أقول: إن الشباب خلقوا لزمان غير زمانكم، فعليكم تقدير هذه العبارة، وجعلها نصب أعينكم، فلا تقل: قال فلان أو فلان، مهما بلغ من المقام، وتلزم هؤلاء بقوله، إنما عليك تقديم ما هو مقنع لهم من ذلك. وأنتم اليوم لا ينقصكم شيء، فكلكم يستطيع البحث والمتابعة والإنتاج، ونحن بحاجة إلى نتاجاتكم.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، ونسأله أن يحفظ المرجعيات والعلماء الذين يبذلون جهودهم في سبيل الأخذ بأيتام آل محمد (ص) لما فيه الخير والصلاح. وأهمس مرة أخرى في أذن كل فرد منكم، أن يكون حذراً في هذه المراحل، فكل منكم مسؤول عن نفسه، ومن يدفعك للوقوع في محذور سوف لن يدفع عنك.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.