نص خطبة:العلم والإيمان أساس التكامل الإنساني (57)  

نص خطبة:العلم والإيمان أساس التكامل الإنساني (57)  

عدد الزوار: 1317

2018-07-21

الجمعة 29/ 10 / 1439 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

في الحديث الشريف عن النبي محمد (ص): «تدرون من مفلس أُمتي؟ قلنا: نعم، من لا مال له. قال: لا، مفلس أُمتي من يُجاء به يوم القيامة قد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فيوضع على حسنات الآخر ، وإن فضل عليه فضل أُخذ من سيئات الآخر فطرحت عليه ثم يؤخذ فيُلقى في النار»([1]).

 

حقيقة العبادة في مدرسة الإمام الصادق (ع):  

محطات أربع أتوقف عندها على سبيل العجلة:

المحطة الأولى: ذكرى وفاة الإمام الصادق (ع): فالإمام الصادق (ع) كبير في إنسانيته وكبير في علمه، وكبيرٌ في صبره. سئل أبو حنيفة: من أفقه من رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد([2]).

إن العبادة هي إحدى الطرق التي نسلكها للارتباط بالمعصومين (ع)، ومن خلالهم بالله جلت قدرته. وقد تقلب بنو البشر في العبادة، نظمتهم أسلاك الرسالة السماوية أم لم تنظمهم، فقد تواضعوا هم أحياناً على بعض المفردات والممارسات، فجعلوا منها طقساً دائماً يتعاطونه عند مناسباتهم الخاصة والعامة.

لذلك تجد أن الوثنيين مثلاً أصحاب عبادة، ويمارسون طقسهم كما هو الواضح والبين عبر وسائل الإعلام وغيرها. فعندما يقف هؤلاء أمام معابدهم أو جنائزهم، أو عند حاجاتهم ذات الارتباط المباشر بالشأن الشخصي الذي يأخذ أسبابه من الطبيعة من حوله، تجد أنهم يحنون رؤوسهم ويخضعون لإلهٍ، وإن لم نتفق معهم في كونه إلهاً، فهي بالنتيجة ضرب من ضروب العبادة.

وكذلك أصحاب الديانات القديمة جعلوا لهم أرباباً وآلهة، وكانوا يتقربون بها إلى إله لا يستطيعون الاهتداء إلى كنهه وخصائصه، وهذا يحكي التوحيد في لون من ألوانه، غاية ما في الأمر أن الطريق الذي سلكوه في الوصول للمطلق في عموم مفهومه، كان يحتاج الكثير من التوقف والتأمل، فكان هنالك إله للرزق والجمال والحب وهكذا، ولكنهم بالنتيجة يعتقدون أن هذا الإله الذي افترضوه في جسم مادي معين، هو ذلك الإله الذي يتحكم في مفاصل حياتهم. وهذا اللون من التصور هو الذي أكسب مسألة الألوهية جانب المادية في التعريف لدى بعض المدارس.

والديانات السماوية كذلك شقّت طريقها وثبتت الكثير من مفاهيمها على أساس البعد العبادي، فالعبادة ترطب النفوس وتلين القلوب، وتشد الإنسان نحو المطلق، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان ممن يحملون الوعي والإدراك والإحساس والإنصاف للإنسان بما هو إنسان فيه مستودع سر الأسرار، وهو العقل، الذي إلى اليوم لم تُفكّ شفراته، ولم تحلّ عقده، لا لشيء إلا للدلالة على أن الإنسان لا يزال قاصراً، يبحث ضمن حدود دائرة ضيقة.

أما خاتمة الرسالات التي جاء بها البشير، الحبيب المصطفى محمد (ص) فقد وضعت يدها على أم القضايا وأصول المسارات في الارتباط بالله. فمثلاً: الصلاة معراج المؤمن، والدعاء مخ العبادة. وكذلك العبادات الأخرى المقننة والموجهة، فهي تتحرك ابتداءً في دائرة الشرعة السمحاء، وليس فيها تعقيد ولا شروط مصطنعة، صنعتها عقول الرجال، إنما هي عبادة سهلة بسيطة في تمظهرها، وذات بعد عميق في جوهرها.

هكذا كان النبي (ص) عندما يؤم الصحابة في مسجده، فكانت الصلاة تتحرك عبر أبسط صورها في الظاهر، لكنها تعرج بأرواح المصلين من خلفه إلى عوالم القدس، لأنها صلاة تحررت من القيود المصطنعة والمفروضة التي لم يقم عليها دليل يُعتنى به، حتى ملّ بعض الناس من بعض الطقوس، بل تخلى بعضهم حتى من هذه العبادة، وهي الأجمل والأسهل والأقرب للإنسان، ألا وهي الصلاة التي لم يتخلَّ عنها حتى الإنسان البوذي، بل حتى الوثني. فجميع هؤلاء كانوا يتحركون في مسارات العبادة.

إن الطقوسية أيها الأحبة قد تتحول إلى سوط مسلط، إذا ما خرجت عن حدود التشريع المحكم الذي أصله آية من كتاب منزل، أو رواية أُحكم بناء طريقها سنداً، صدرت عن محمد (ص) أو أحد الأقطاب من آل محمد، واستُظر الحال الظاهر منها دون ليّ لعنقها.

إذن ثمة طقوس عبادية وردت عن النبي (ص) وأُصّل لها في القرآن الكريم، فنحن مطالبون بها، فإذا أتينا بها وتقربنا من خلالها إلى الله تعالى، وصلنا إلى الأهداف المرجوّة من خلالها. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾([3]).      فلو صلينا وفق ما جاء به النبي (ص) وما أراده من حيثية العبادة وما تصبّ في صالحه، لتحقق هذا.

والصيام لا بد أن يقودنا إلى التقوى، لتتحقق من خلاله كما أراد الله تعالى حيث قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ﴾([4]). وهكذا في سائر المسارات العبادية.

فالعبادة في طقسها السهل اليسير الذي شرعته الرسالة الخاتمة، هي هذه العبادة التي تعارف عليها المسلمون دون زيادة ولا نقيصة، وكل أمر زاد فهو ردٌّ على صاحبه.

والأمر الثاني هو الطقوسية الدخيلة المتدرعة بثوب الدين، وهذه هي التي أنهكت كاهل المسلمين قاطبة. فالبعض يتصور أن الفرقة الإمامية وحدها تعج بمسارات الطقوسية الدخيلة، وهذا الكلام فيه الكثير من الجور، فما من مذهب إسلامي إلا وفيه طقوسيته المرهقة المتعبة والمتكلفة التي ليس لها أصل، لا من آية في كتاب، ولا من سنة معتبرة، إنما وضعت في عهد متأخر، حال أن جميع المسلمين يجمعون على أن المشرع الأول والأخير هو النبي الأعظم محمد (ص).

الأحساء في منظار العالم: 

المحطة الثانية: الأحساء والعالمية التاريخية:

مر بنا حدث كبير، انتبه إليه البعض ولم ينتبه آخرون، ومن انتبهوا لذلك كانوا على نحوين، فمنهم من تأمل، ومنهم من تحرك في هذا الاتجاه وفق معطيات بوصلة، وبعضهم تخلى عن ذلك. ثم يستجد السؤال المهم لمن خلص منها إلى نتيجة: ماذا يعني ذلك؟ وأين نحن من ذلك؟ هنا السؤال الذي يبحث عن جواب.

إن الأحساء الغالية الحبيبة الولود، هذه الأيقونة الخاصة، والجوهرة في جبين الخليج والجزيرة العربية. الأحساء وما أدراك ما الأحساء!

لو أردت أن أبحر في معطيات الحروف التي تركب منها اسمها لاحتجت إلى وقت طويل، ولا أبالغ إذا ما قلت: لن أقف على نهاية تحكيها تلك الهيئة من ذلك المركب المادي من حروفها. إنها الأحساء وكفى. فلنعتز بها ونفتخر، وإذا ما أردنا أن نضيف أسماءنا فلتضف إليها. فكم هو جميل أن تقول: أنا أحسائي! تطرق بها مسامع القاصي والداني، القريب والبعيد.

إنها أيقونة جميلة أيها الأحبة،  فعلينا أن نعلقها على صدورنا وسام شرف، وأن نكحل بها عيوننا. فالأحساء مهما قيل فيها من شعر، وسطر فيها من نثر، وقُدمت في موقع رتبيّ بين مدن العالم، تبقى هي الأحساء، كبيرة في نفسها وأرضها ومائها ونخيلها، كبيرة جداً بأهلها.

فالأحساء قديماً وضعت أساس الثقافة الإنسانية، فثقافتنا تربو على ستة آلاف سنة، ونحن أبناء هذا العمق وهذه الحضارة وهذا العطاء، وقد سُرق منا أننا أول من علّم البشرية الأبجدية فسكتنا، وادّعى جيراننا أنهم أول من صنع الفخار، ونسوا أننا هنا وضعنا أسسه وقواعده منذ أكثر من ستة آلاف سنة.

وأما في الأرصفة البحرية، فأقدم رصيف عرفته البشرية هو رصيف هذه المنطقة أو المحافظة أو ما شئت فعبّر:

عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ     وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشيرُ

أهمية الحدث العالمي أن تكون الأحساء ضمن منظمة اليونسكو العالمية، وهذا يعني أننا فرضنا وجودنا باستحقاق. وقد اعترضت الملف الكثير من العقبات، ولولا رجال أخلصوا من خلال واقع المحبة للأحساء لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. فالأسماء كثيرة إذا ما أردنا أن نسطرها ونرسل لها عبارات الشكر، وإن كانت لا تفي بالغرض، إلا أن بصمتهم سوف تبقى خالدةً تتماشى مع سمو الأحساء ورفعتها.

رحيل المؤرخ جواد الرمضان:

المحطة الثالثة: رحيل العلامة المؤرخ، شيخ المؤرخين، الأخ الحاج جواد الرمضان. فقد كان هذا الرجل أيقونة المؤرخين في بحثه وتعاونه مع الجميع، بل مثّل محطة استقطاب للباحثين عن مفردات هنا وهناك، تعنى بذوات الأشخاص أو خصائص الكتب، أو معطيات المراحل ذات التراكم.

هذا الشيخ الجليل فقدناه، والفقد يمثل خسارة كبرى من الصعب أن نتخطى مرحلتها بسهولة. وقديماً قيل، وحديثاً أيضاً: من أنجب لم يمت، إلا أن هذه المقولة عليها الكثير من التأمل، فكم ترك السابقون للاحقين!.

فالأحساء الأم الولود التي أشرت إليها في مستهل الكلام، لن تبخل علينا في القادم من الأيام والسنين بمثل هذا الرجل، الذي نفخر ونعتز به، ونستطيع أن نطارح الآخرين من خلال ما قدمه من عطاء كبير، نأمل أن يرى نتاجه النور سريعاً، وأن يصل إلى يد المريدين والمتلقين والباحثين والدارسين. ونأمل أن تقام الندوات والبحوث والمراكز العلمية لقراءة ما خلفه وراءه من عطاء كبير.

ولكي تكتمل الصورة لا بد أن ينهض كل واحد منا بمسؤوليته. فهذا الشيخ رحل إلى جوار ربه، في وقت كانت الأحساء تعيش أجمل الأعياد.

لقد كانت بيني وبين الراحل علاقة محبة وصداقة وبحث ومتابعة، وقد وجدت فيه الأب والمعلم والمربي، ووجدت فيه تاريخاً يمشي، ويتنقل في أكثر من جانب وجانب. إن سكتّ بين يديه ابتدأك، وإن استرسل في كلام أخذ بك إلى عوالم غريبة. لم ندفنه، إنما دفنا الكثير من أسرارنا.

من هو الفقيه:

أما المحطة الرابعة فعنوانها: من هو الفقيه، وهو البحث الذي دخلنا في السنة الثانية منه، وقطعنا شطراً ليس بالقليل .فمن هو الفقيه؟ هذا السؤال سأله الإمام علي (ع) وأجاب عنه، فقال: «ألا أخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمِنْهم من عذاب الله، ولم يرخّص لم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره. ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر. ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّر»([5]). واليوم أصبح البعض، لا أنه يقنّط الناس من رحمة الله فحسب، إنما يزجّهم في الجحيم قبل الموت، وقبل الإيداع في القبور، وكأن مفاتيح النيران بيديه.  

كما أن من صفات الفقيه أن لا يجعل الطرق معبدة أمام الناس، فيدّعي أن الجنة لمن والى علياً (ع) فقط، مهما عمل، ومهما اقترف، ومهما قام به من فعل يتنافى وخطابات السماء. فهل هذا الكلام منطقي؟ وأين هذا من كلام علي (ع): «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»([6])؟ وأين هذا من قوله: «الله الله في الصلاة، فإنها خير العمل، إنها عمود دينكم»([7])؟ وأين هذا من الروايات الكثيرة التي تقرن بين الولاية والعمل الصالح؟ بل إن العمل السلبي يقطع أواصر الارتباط بالولاية، فلأجل تثبيت الولاية في نفوسنا لا بد من العمل بما أمر به الله تعالى على يدي نبيه الأعظم محمد (ص).

فولاية الإمام علي (ع) ليست إمضاء على بياض منذ ولادة المولود كما يتصور البعض. فهذا ما لا تقره روايات أهل البيت (ع) ولا سيرتهم، ولا وجود لنص قرآني يؤمنه، إنما هي أحاسيس ومشاعر وعواطف.

كما أنه من غير المقبول منطقياً ولا قرآنياً تصنيف الناس على أساس أن هذا ولائي وذلك غير ولائي، ولا أن هذا مؤمن والآخر غير مؤمن. فالإيمان بالله تعالى والنبي (ص) والولاية لا يحدده أنت ولا أنا، لأنه من مختصات الناس التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، إلا أن يدعي المدّعي أنه رب مطلع على أسرار العباد ،وهذا أسوأ وأنكى.

فلا شك أن الولاية حسنة كبيرة لا تضر معها سيئة، وتمحو الكثير من السيئات، ولكن لا على الإطلاق، إنما على قاعدة: أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فليس من العدل الإلهي أن يقضي المسلم عمره تاركاً للصلاة، ثم يأتي يوم القيامة أمام الله سبحانه تعالى، ليرفع شعار الولاية، فيقول: إن الولاية تعصمني من عذابك! هل قال هذا أحد من علمائنا، أو تفوه به إمام من أئمتنا (ع)، أو جاء بنص من كتاب ربنا؟

إذن لا معنى للمزايدة على الإيمان والولاء، فليس هناك أفضل من إيمان العجائز، مع أنه إيمان فطري بسيط ليس فيه سوى المحبة للناس، فلا بغض ولا تسقيط ولا ضغينة ولا حسد.

لقد كان آباؤنا وأجدادنا من الفلاحين الطيبين، فلماذا لا نحمل طيبتهم ومودتهم وصفاءهم، والتعاون الذي كانوا يعيشونه.

ثم يقول علي (ع): «ولم يرخص لهم في معصية»، كما نرى اليوم في بعض من يحاول النيل من الآخر ومحاربته، فإنه يبدأ أولاً بتبرير الكذب تحت عنوان التورية مثلاً، حال أن أيّاً منا يستطيع أن يركب مطية التورية ويسوّق على أساسها الكذب الصراح، الذي لا يغطيه رداء.

لذلك ينقل عن السيد الخوئي رحمه الله أن كان يقول: ليست لدي مشكلة مع من يغتابني وهو من سائر الناس، أما رجل الدين فلا، لأنه لا يغتابني حتى يفسقني.

وهذه المقالة المشتهرة بين الكثيرين، وهي أن الفاسق لا غيبة له، محل تأمل، فمن قال إن ذلك على إطلاقه؟

ثم يقول (ع): «ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره»، كما يحصل اليوم من البعض، حيث يتمسك بروايات عرجاء إسرائيلية موضوعة لأغراض وأغراض، ويترك الآيات الشريفة والروايات الصحيحة.

ويقول (ع): «ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر. ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّر». فلا خير في من يصل إلى مراتب علمية عليا في الظاهر، لكنه علم بلا تفهّم، إنما هو حفظ واستظهار وعرض. ولا خير قراءة لا تأمل ولا تدبر فيها، ولو قرأ القارئ ما قرأ. وكذلك العبادة، فإنها إن فرغت من التفكر أصبحت في مساحة الممارسات الفارغة التي ليس فيها سوى صورة خارجية. فالعبادة ليست بالكثرة، إنما هي بالمعرفة. فكثرة الحج والعمرة والتصدق والصوم والصلاة ليست أدلة على العبادة الحقة، ما لم تكن عن معرفة.

نسأل الله تعالى أن يحشرنا مع الصادق من آل بيت محمد (ع) وأن يجعلنا من السائرين على هديه. والحمد لله رب العالمين.