نص خطبة: العلم وأثرة في حياة المجتمع

نص خطبة: العلم وأثرة في حياة المجتمع

عدد الزوار: 992

2013-11-02

العلم في مسيرة الإنسان

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالاَ الْحَمْدُ للهِ‏ الَّذي‏ فَضَّلَنا عَلى‏ كَثيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنين([2]).

بارك الله لنا ولكم العيد السعيد، وتقبّل الله منا ومنكم عموم الطاعات، وأعاد المسافرين سالمين غانمين إلى أهلهم، ودفع الأذى والبلاء عن جميع المسلمين أينما كانوا.

فضل العلم:

قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِيْ عِلْمَاً([3]).

يُعدّ العلمُ الأساس الذي بنت الشريعةُ المقدسة على أساسه جميع تشريعاتها، سواء في الجانب العقدي أم التكليفي، فما من حكم في الأول أو في الثاني إلا ويشغل مساحته من العقل. بل إن الدين الإسلامي الحنيف هو دين العقل والفطرة، وما يصطدم مع ما يُتصور أنه من ثوابت العقل إنما هو من عبث العابثين، ووضع الوضاعين، وتدليس المدلسين، وإلا فإن الدين بما هو دين، كما جاء به النبي الأعظم محمد (ص) لا يمكن أن يُتصور في جزئية من جزئياته أنها تصطدم مع العقل والفطرة، إذا ما كان العقل سليماً والفطرة سليمة.

من هنا نجد أن القرآن الكريم في العشرات من الآيات، يعطي العقل نصيباً، والعلم قيمة. وكذا روايات أهل البيت (ع) التي ركزت على هذا الجانب وأشبعته بمئات النصوص، وربما بالآلاف منها، وهي تعطي للعقل قيمته وبعده، وللعلم أهميته في بناء الذات والمجتمعات والأمم.

لذا نجد أن الإسلام شغل مساحة كبيرة بادئ بدء، أي عندما كان يُقدَّم للأمة غظاً طرياً، رغم عبث العابثين في بعض منعطفاتهم التي أرادوا للدين أن ينجرّ إليها، إلا أنه كان يحظى بدرجة من عدم التحريف الكبير، وحرف المسيرة بناءً على تلك الخطة من التحريف.

ولأن العلم قيمة كبيرة، نجد أن الناس يتفاوتون فيما بينهم على أساس منه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ([4]).

فهناك إذن أهمية للعلم، ولو لم تكن ثمة أهمية له لما صدرت آيات القرآن الكريم بالحث عليه، بقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾ فالقراءة من أهم الروافد الأساسية لبناء ذات الإنسان العالم الذي بمقدوره بعدئذٍ أن يأخذ بالمجتمع من حوله، والأمة من وراء ذلك، إلى المساحات الأفضل.

في الحديث الشريف عن المولى علي (ع) كما في غرر الحكم: «يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول»([5])، ويعني بالأصول ما يُتَّبع ويتم التوافق عليه وما يُطرح على أنه بروتوكول في التعامل مع الآخر، سواء كان فرداً أم جماعة. فالميزة هي العلم، وهو الذي يعطي قيمة، بل إن ميزان القرآن بعد التقوى يعطي العلم قيمة وحيثية. يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ([6]).

فالعلم الذي لا ينحلّ عن تقوى، ولا تكون التقوى بمثابة الجدار الحامي له، لا يمكن أن يكون عامل ممايزة إلا في الحد الأدنى، وهو البعد المادي، فالتفاضل الذي يعنيه الإمام علي (ع) إنما يكون في المقامات المعنوية، وليس المادية، وإلا فسوف نعود إلى المربع الأول.

وفي حديث آخر يرويه الشهيد الثاني العاملي في منية المريد، وهو من أعلام الطائفة وأركانها، لكنه بقدر ماكن فقيهاً، بقدر ما ضاقت به الخلافة العثمانية ذرعاً؛ لأنه كان يشكل عامل تقريب بين أبناء المذاهب، كما يمثل قلعة حصينة في الوقت نفسه لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) لا سيما في النخبة، أي العلماء ودوائر الحوزات العلمية، وقد قتل هذا الشهيد في مشهد مأساوي ورميت جثته في البحر. وهذه العصبية كانت ولا زالت إلى اليوم، إلا أنها تتقلب بقوالب وأشكال وألوان وطرق متعددة بين الفينة والأخرى، بحسب ما يوفره الزمان أو المكان من ظرف، أو ما يؤمّنه أصحاب المصالح التي يسعون لجمعها ولو كانت على حساب البشر.

يروي الشهيد العاملي في منية المريد هذا الحديث: «كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه»([7])، وهذا واقع ملموس، إذ نرى أن من لا يملك حظاً من العلم، عندما ينعت بلقب العلامة أو الأستاذ يطير فرحاً.

فالعلم شرف، ووسام لا يجاريه وسام، إلا وسام التقوى والورع والخوف من الله سبحانه وتعالى في الصغيرة. فنجد أن القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ([8]). ولكن ينبغي أن لا ننسى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لا يَعْلَمُوْنَ([9])، ولكن لا بد للعلم من التقوى، فإن العالم إن لم يكن تقياً، فسوف يكون أسوأ حالاً من غير العالم، وقد قرأت في بعض المناسبات نصوصاً مفادها أن أهل النار يتأذون من ريح العالم في جهنم، إذ يشم أهل المحشر رائحة نتنة فيتأذون منها، وهي من عالم يُعذَّب في قعر جهنم.

فلا يظنن أحدٌ أنه أصبح عالماً وانتهى الأمر، بل الملاحظ أن أكبر الجرائم التي حدثت على وجه الأرض كانت على أيدي العلماء الذين برروها ووجهوها وصححوها وشرعنوها في الماضي والحاضر، ولو لم يكن منها إلا فتوى شريح في حق الإمام الحسين (ع) ومجزرة كربلاء لكفى، وهو عالم معروف، وكان قاضياً في عهد الإمام علي (ع) إلا أنه أفتى بقتل الحسين (ع) فكان ما كان من قتله وقتل أهل بيته حتى طفله الرضيع، ورضّ صدره وظهره، وسبي عياله، وإحراق خيامه، كل ذلك بسبب فتوى من عالم، إلا أنه ضالٌّ مضلّ.

ما هو العلم؟:

ولأن العلم يشكل قيمة كبيرة، فإن علماء الإنسانية منذ اليوم الأول كانوا يسعون لاستكشاف ما تكنّه تلك المفردة من معانٍ، فالكثير من الأشياء، سواء كانت مفردات أم مصطلحات، ما لم تُفكّ شفراتها وتُبيَّن لا يمكن أن يُرتَّب عليها أثر، وهذا أمر واضح وبيِّن حتى في حياتنا الطبيعية التي نعيشها.

فمدرسة اليونان، كانت قد نهضت بالمشروع العلمي، وتقدمت بالفكر الإنساني لمسافات متقدمة جداً، قياساً بتلك الفترة والحقبة الزمنية، وكانوا قد استفادوا من موروث الأنبياء والرسل، ممن تقدموا على تلك المدرسة، وهو ما يمكن للمرء أن يضع يده على إشارات واضحة وبينة تدلل عليه، من خلال قراءة النصوص التي تضمنتها الموسوعات الكبرى في هذا الجانب، ففي قصة الحضارة أدلة وشواهد كثيرة تؤكد هذا المدعى، لكن المقام لا يساعد على أكثر من ذلك.

لقد جاء هؤلاء بمجموعة من المصطلحات ليبنوا عليها مدرستهم الفكرية، وقد كانت تلك المصطلحات معمّاة على الكثير من الناس في طبقة الوسط، لا في عموم الناس، فالفلاح لا يعنيه أن يستكشف المعلومة الدقيقة بقدر ما يريد أن يفهم ما له وما عليه منها، أي أنه يتعامل مع النتيجة لا مع المقدمات، أما أصحاب العلم والفكر والنظر الثاقب فلا يكتفون بذلك، إنما يبحثون عن الأسرار والقواعد والأصول التي انتهت بهم إلى تلك النتائج.

بل الأكثر من ذلك أن هذا الصنف من الناس يطرح الإشكالات على النتائج المستخلصة من خلال المقدمات التي تم انتهاجها وترتيبها من أجل إيجاد ما هو الأفضل من النتيجة التي تم استخلاصها، لذا تتطور الذهنية البشرية، فلا يبقى العقل جامداً.

ومن المستغرب أنك تجد اليوم في وسط الأمة، مع أننا أبناء القرن الحادي والعشرين، من يأبى إلا أن يغلق العقول، ويجعل الوصاية عليها، ويلغي حق التفكير والتدبر، رغم أن هذه دعوة القرآن: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوْبٍ أَقْفَالُهَا([10]). وهذه مصيبة وكارثة ونازلة، لأن مصيبة الإنسان أن يكون مقيداً مكبلاً لا يستطيع أن يحلِّق.

لقد قيل في معنى العلم عند اليونان: إنه الإدراك المطلق، فما يدركه العقل في هذا العالم الخارجي فهو علم، سواء كان في عالم التصورات أم التصديقات، أي في عالم المفاهيم المجردة، أو في عالم التجسد الخارجي وعالم الشهود، مما نستطيع أن نلمسه أو نحسه. وسواء كان ذلك المدرك يقينياً مسلَّماً به مئة في المئة، أم غير مسلم به، إنما هو في دائرة المشكوك والمظنون والمحتمل، بل أدخل فيه بعضهم حتى الموهوم.

ثم تقدمت الذهنية البشرية، فافتُرضت مجموعة من المصطلحات الأخرى، فقيل في العلم: إنه بمثابة الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، فما لم يطابق الواقع لا يصدق عليه أنه علم. وبين هذا الاصطلاح وما قبله عموم وخصوص من وجه.

وبناء على ذلك تترتب الموافقة أو المفارقة بين العلم والمعرفة، والنسبة الواقعة بينهما، ومن المعلوم أن النسبة بين هذين هي الترادف على التعريف الأول، وعموم وخصوص على التعريف الثاني.

ثم عمدوا إلى تصنيف العلوم بناء على معطيات المدارس القديمة والحديثة. وقد يتصور البعض أن بين الفكر الحديث والقديم تصادماً، وفي الواقع هناك تكامل بين الفكرين، ولكن عند من فتحت عقولهم، أما من أغلقوا عقولهم وانحسروا على الذات والأنا، فلا شك أن هنالك مفارقة واصطداماً وحرباً، وربما ترتب على ذلك قتل وقتال. لذا ترى القتل حتى في أتباع الدين الواحد، لأن هؤلاء لم يسمحوا لعقولهم أن تحلِّق في الفضاء من حولها لتسبر دقائق المصطلحات المطروحة، وهذه هي الكارثة التي وقع فيها أتباع الديانة الإسلامية في عصرنا الراهن مع شديد الأسف. وهذا معلول لواحد من سببين:

1 ـ رغبة السلطات في الأعم الأغلب أن تبقى الأمة تعيش هذا الواقع المر، وإن كان في صفوفها رجال الفكر والعلم والثقافة والأدب وغيرهم.

2 ـ عدم رغبة الأمة في التحرك من مربع إلى آخر، فهي تريد أن تأكل وتشرب وتركب ولا يعنيها ما وراء ذلك. وبعبارة أخرى يعنيها الجانب الكمالي لا الأساسي الذي على أساس منه تحصلت تلك المادة التي يتمايز بنو البشر على أساسها. وهذا واقع الأمة الإسلامية، والشعوب النامية، والعالم الثالث، أو المحور الجنوبي في التقسيم الحديث.

صحيح أن في الأمة مثقفين وأطباء وأكاديميين، ولكن كم هي نسبتهم في مليار ونصف من المسلمين؟ وكم هي نسبتهم بين سائر الدول النامية؟

فهؤلاء العلماء عمدوا إلى تصنيف العلوم، باعتبار أن العلم فنٌّ، والفن قابل للتقسيم، فاختار القدماء طريقة في التقسيم، أما المحدثون المعاصرون فاختاروا طريقاً آخر، ونعني بالمتأخر أو المعاصر من كان ما بعد النهضة في أوربا، وهذا هو التقسيم العام، لأن أوربا عاشت الجهل والظلمات ثم انطلقت بهذه الثورة المادية الكبرى، فلم يحصل في أوربا ثورة إيمانية قط، لذا تجد التخبُّط. فأمريكا التي تُعتبر رأس المحور المادي في العالم الرأسمالي تحتضر اليوم، لكنه احتضار بطيء، لا كما حصل فجأة للاتحاد السوفيتي أيام غورباتشوف، لأن الاتحاد السوفيتي كان يتعرض لمؤامرة في حينها، أما أمريكا فلا، لكن القدر المتيقن أن أمريكا تتآكل اليوم من داخلها، رغم أن العالم الإسلامي يعطيها أكبر من حجمها.

ففي أمريكا ثلاثة ملفات يجب أن تُقرأ:

1 ـ الملف السلوكي: ففي المجتمع الأمريكي انهيار أخلاقي كبير، والدراسات الستراتيجية للواقع البشري في أمريكا (الأنسنة) تشير إلى أن المجتمع الأمريكي في انحدار سلوكي لم يشهد له نظير منذ أن أُسست أمريكا إلى اليوم.

2 ـ الملف الاقتصادي: وها نحن نرى اليوم أن مجموعة من النواب يلوون ذراع رئيس الدولة، لأن هذا المفصل يسبب له الوجع، ولولا ما وراء الكواليس لأعلنت أمريكا الإفلاس.

3 ـ الملف السياسي: فلم تشهد أمريكا في تأريخها مأزقاً سياسياً كما تشهده اليوم، ومن الغريب المستغرب أن أبناء الأمة الراشدة الوسطى التي هي خير أمة أخرجت للناس، لا زال مثالهم الأول والأخير هو أمريكا. والأكثر من ذلك أن يصيب هذا الداء مؤمناً متديناً مواظباً على صلاة الليل وحضور المنابر.

وهكذا كان للقدماء تصنيف، حيث كانوا يرون أن العقل يطلب لأحد أسباب ثلاثة، بمعنى أن طلب العلم إنما يكون لغاية من ورائه:

1 ـ الاطلاع: فالإنسان جُبل على حب المعرفة والاستطلاع.

2 ـ الإبداع: وهنا تتمايز الأمم فيما بينها، وهي المرحلة التالية بعد الاطلاع. وهذا السلَّم الصعودي إما أن يحصل فيه ارتقاء أو يحدث الانحدار، وهو ما يتعلق بالبعد الثالث الآتي.

3 ـ الانتفاع: فإما أن يحصل الارتقاء فيحصل النفع، أو الانحدار وعدم الانتفاع.

ثم إن الانتفاع إذا كان مسيَّجاً بسياج الدين فهو كمالٌ وارتقاء، وإلا فهو الهبوط والانحدار. فتجد أن الإنسان لا يهمه إلا أن يصل إلى اللقمة ولو على حساب نهر من الدم، وهذا ما يحدث اليوم في الدنيا.

ثم إن هذا التقسيم الثلاثي يستوجب أن يترتب عليه تقسيم آخر هو:

1 ـ العلوم النظرية: وهي ما يحتاج إلى إعمال عقل وتركيز، فتكون من نصيب النخبة والمتميزين من الناس، وتحتضنها الدور العلمية ذات الطابع القيمي، من قبيل الرياضيات والطبيعيات. وقد كانت حوزة أهل البيت (ع) تركز على هذين الجانبين في يوم من الأيام، أما اليوم فصرنا نحتضر، ما خلا بعض أروقة الحوزة العلمية في قم، أما سائر الحوزات فهي تحتضر في هذا الجانب.

ففي أيام الدولة الصفوية، يوم كان الشيخ البهائي وأمثاله، بلغت الحوزة العلمية رشدها في هذا الجانب، ولا زالت آثارها إلى اليوم، لكنها انتكست بعد ذلك.

2 ـ العلوم الشعرية: وهي ما تكون للخيال أقرب منها للواقع، ولا أقل من أنها لا تحتاج إلى إعمال نظر كبير، من قبيل البلاغة بفنونها الثلاثة، المعاني والبيان والبديع، وكذا الشعر، الذي قيل فيه: أكذبه أعذبه، وإن كنت لا أتفق مع هذا القول كثيراً، لأن في الشعر الكثير من الصدق، وقد مدح القرآن الكريم الشعراء، كما مدحهم أهل البيت (ع), وما من إمام جاء بعد النبي (ص) إلا وله شاعر يذب عنه، فلو لم يكن للشعر قيمة ومصداقية لما احتُضن الشعراء من قبل الشرع.

3 ـ الجدل: وهو اليوم يشغل مساحات كبيرة، إلا أنه يعد علماً وفنّاً مبنياً على قواعد وأسس، فلا بد أن نعرف قواعد الجدل عند الدخول في ميدانه. فعندما نرى في بعض الفضائيات شيئاً من البرامج الجدلية لا بد أن ندرك أنها مبنية على علوم، فليس كل من تقدم على الآخر يكون هو الغالب فعلاً، إنما هي القواعد المنطقية التي استخدمها واللف والدوران. لذا ترى أن من يدير الحوار في تلك البرامج يكون دائماً أكثر (شيطنة) ممن يدور بينهما الحوار، وبين يديه من فنون الجدل المنطقي ما يجعله يلف ويدور ويقتطع المقدمات ويصادر المطالب ويصل إلى النتائج.

ومن هنا تجد أن الكثير من الناس قد يكون مقتنعاً بفكرة ما، إلا أنه بمجرد أن يستمع إلى كلمتين منك يتخلى عما عنده، فليس بالضرورة أن تكون قد أقنعته، لكنه الجدل المنطقي الذي جعله يتخلى عن الأول والأخير.

أما المتأخرون من علماء أوربا ومدارسها، ومن تأثر بها من الجيل الإسلامي في مصر ولبنان والعراق وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، فكان لهم تصنيف من نوع آخر، أما مجتمعات الخليج العربي فقد جاءت فيها الصحوة متأخرة مع ظهور البترول، فانتعش الفكر بقوة المادة، لذا فإننا بدأنا حديثاً ندخل مساحة المنافسة الخجولة مع الآخرين.

لقد عمد هؤلاء إلى تقسيم مبني على الملكات العقلية، أي أن الناس يتمايزون فيما بينهم حسب عقولهم، لذا تأخذ العلوم مشارب متعددة، هي عبارة عن أمور ثلاثة:

1 ـ العقل: وعلى أساسه تقوم العلوم الفلسفية، وهذه العلوم مخصوصة بطبقة معينة، حتى في وسط الحوزات، فليس كل من ذهب للحوزة العلمية درس الفلسفة، وليس كل من درس الفلسفة فهمها، وليس كل من فهمها أصبح منظّراً، فيجب أن لا ننخدع بشيء، فليس لدينا متسع من الوقت لننخدع، إذ لا وقت لدينا للتصحيح إذا خُدعنا.

2 ـ التخيل: فمن النعم الكبيرة على الإنسان أن لديه قوة التخيّل، فهي التي تفتح له الآفاق، ومن الملاحظ أن أكثر العلوم التي يستضيء بها البشر اليوم ويستفيدون منها كان أساسها الخيال، كما في غزو الفضاء واستخراج النفط من الأرض والطيران والتقنية الحديثة وما إلى ذلك. فلو أنك أخبرت أحداً في الماضي أن طائرة مصنوعة من الحديد تطير، وهي تحمل على متنها خمسمئة راكب مع أمتعتهم، فيها ما يحتاجه المسافر من أكل وشرب واتصال وما إلى ذلك، لقال لك: ليس هذا إلا في الجنة، أما في الدنيا فمن نسج الخيال.

ومساحة القوة المتخيلة هو الشعر، لذا تجد أن الشاعر يتحرك مع المخيلة، في غزله ورثائه وأغراضه الأخرى.

3 ـ الذاكرة: وهي أساس العلوم التاريخية النقلية، من قبيل علوم الحديث والسير والتراجم وغيرها.

الأئمة (ع) أعلم العلماء:

وما أريد أن أصل إليه من هذا كله أن الأئمة (ع) هم أعلم علماء الأرض. فهل أن علمهم من هذا النوع؟ وهل يخضع لهذا التقسيم أو لا؟

الجواب: أن علمهم يخضع لهذا التقسيم من حيثية، ولا يخضع من حيثيات أخرى. فجميع العلوم التي ذكرناها ميزانها وملاكها التحصيل، بأن يطلب المرء العلم بالدرس والمطالعة، أما أهل البيت (ع) فليست علومهم من هذا النوع، إنما هي علوم حضورية، ونور يقذفه الله في قلب الخاصة من عباده، وهم محمد وآل محمد (ص).

ومن جهة أخرى أن علوم أهل البيت (ع) إنما هي علوم لدنية، وما انكشف من علومهم ووصل إلينا هو أشبه بالمرآة العاكسة، أو البوصلة المشيرة باتجاهٍ ما أن هنالك بحراً أو نهراً أو جبلاً. بل إن علومهم لم تُطرق إلى اليوم، وكل ما لدينا هو علوم تقريبية تؤمّن حاجات الناس في تكاليفها، أما كبرى بوابات علومهم فسوف تفتح وتشرع في هذا العالم قبل عالم الآخرة عندما يأذن الله تعالى للخلف الباقي من آل محمد (ص) أن يشرق على العالم، وتكون أنواره هي مفردات العلم الذي يعطي الإنسان قيمته، وللحياة قيمتها.

إن كل ما طرحناه فيما مضى إنما هو مقدمة لما أردت الدخول فيه، وهو علم الإمام علي (ع) الذي تحل علينا ذكراه في الغدير في الأيام القلائل القادمة، وهو العيد الأكبر، وأشرف الأعياد، حيث تنصيب المولى (ع) بالإمامة، وسوف أتناول الموضوع فيما يأتي من الأيام إن شاء الله.

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.