نص خطبة: العقل المنفتح سر النجاح
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم محمد (ص): «إن تستقيموا تفلحوا»([2]). وفي حديث آخر عن المعصومين من آل بيت محمد (ع): «كيف يستقيم من لم يستقم دينه»([3]).
العقلُ أولاً:
حديثنا حول أهمية العقل في درك المرحلة التي نعيشها، لما يكتنفها من حوادث ومخاطر.
لقد أكرم الله تعالى البشر دون سائر المخلوقات بنعمة العقل، وبهذه النعمة أصبح الإنسان يتحرك في فضاءات الكون من حوله، لا يقيده عن السفر بعيداً إلا الثوابت الدينية، فمتى ما اقترب الإنسان منها، وتحرك من خلال عقله في الفضاءات من حوله، استطاع أن يخطو بالأمة خطوات، أما إذا بنى عقله بناء مادياً صرفاً، على أساس السلّم التعليمي، المبنيّ أولاً كآلةٍ يصل من خلالها إلى حياة سعيدة، ولكن في حدود هذا القالب المادي، فإن الخطورة لن تكون أقل مما لو كان تسيّد الموقفَ أجهلُ الجهلاء.
لذلك اقتضت حكمة السماء أن يكون الرسل والأولياء والمصلحون، إما ممن امتازوا في دائرة العقل من خلال أمر تكويني مباشر، أو على أساسٍ من كسب تحصيلي، بذلوا الكثير من الجهد في سبيل الوصول من خلال ما يقدمونه إلى نتيجة مرضية.
بل حتى الأمور العقلية، إذا ما وقفنا عند حدودها كمفردة، وما يترتب عليها في الخارج من أثر، فإنها تبقى محكومة بدائرة النسبية. لذلك تتمايز العقول، ويتمايز الأفراد من ورائها، ثم تتمايز الأمم التي تسير في ركب العقل والعقلاء. أما إذا تخلف العقل، أو كان الرَّين يشكل حاجباً بينه وبين المعقول خارجاً، فلا كلام أن النكبة سوف تكون وشيكة الوقوع إن لم تكن قد أطلت برأسها بالفعل.
لذا نرى أن علماءنا، رضوان الله على من مضى منهم، وأيد الله من بقي، نذروا أنفسهم، منذ الأيام الأولى، في سبيل القيام برشد العقل من حولهم، بعد جهد جهيد، وبعد انصهار وذوبان في المطلق، روضته العبادة ليلاً ونهاراً، وبعد الالتزام بالثوابت المؤصَّلة قرآناً وسنة.
والنتيجة أن الرسالة ما انفكت تدعو أبناء الأمة للتدبر والنقد المباشر، للقضايا والأحداث، والنتاج الفكري، ففي زمان الغيبة لا يوجد العقل المعصوم، وما يتحرك في الساحة هو العقل المنقوص، مهما أوتي من قوة الدَّرْك، بناء على ما يقدم من إعدادٍ، تأصيلاً لذلك الحراك والنشاط الفكري.
إن وجود المعصوم في عالم الوجود الخارجي لطفٌ وفاعلية، وهو في زمن الغيبة لطفٌ ورعاية، ولا فرق في أن يكون المعصوم (ع) يتحرك في وسط الأمة في ثوب الظاهر، أو يكون مشرفاً عليها في عالم الباطن، والإشكالية تكمن في الفرد الذي يعتقد بالمعصوم، فما دام المرء في دائرة الدرك لهذه المفردة المقدسة، فهو يعني فيما يعنيه، اللامفارقة في أن يكون في عالم المعصوم وجوداً خارجياً، أو في دائرة المعصوم من خلال عالم الغيب واللطف، فنحن نؤمن ونعتقد بالخلف الباقي من آل محمد (عج) وأنه الإمام المفترض الطاعة علينا جميعاً.
نعم، إننا نتباين في معرفتنا هذه، فبعض منا يذهب إلى مسافات بعيدة يثبتها من خلال العقل والنقل، وبعض آخر يتَّكِئُ على النقل دون العقل، وآخرون يرغبون في التواصل من خلال العقل، وجماعة أخرى ترتمي في حدود الموروث التلقيني، الذي تكتسبه من خلال الأسرة تارة، أو من المجتمع تارة أخرى، وليس من الضرورة بمكان أن تكون الأسرة أو المجتمع قد بنت معارفها على أسس سليمة، وخصوصاً في مسألة الخلف الباقي (عج) فهناك حشوٌ من الروايات يواكب المسيرة منذ الميلاد إلى الغيبة الصغرى فالكبرى التي نعيشها، بل حتى الآيات التي تكتنف المرحلة الممهدة لظهوره وما بعد ظهوره.
والنتيجة أن هذا الموروث كمفردة، هو كغيره من المفردات في موروثنا، تحتاج إلى غربلة، فلم نعد كما كنا في الماضي، نلقَّنُ كما تلقَّن الببغاء، ثم تعيد ما تم تلقينها إياه من جديد، حرفاً بحرف، إنما نحن أبناء مرحلة تسودها حركة العقل، شئنا أم أبينا، ومن لا يُقرُّ بهذه النتيجة عليه أن يراجع الحسابات، ويرفع النظارات السوداء عن عينيه من جهة، وأن يلغي رَيناً تكدسَ على قلبه، ليبصر بنور البصيرة، أن العالم قد تقدم من حولنا، حتى الجماعات التي كانت توصف في يوم من الأيام بالجهل والتخلف، والتي كانت تعيش الرق في يوم من الأيام، أصبحت اليوم تزاحم القادة على مستوى العالم، لا لشيء، إلا لأنهم أَعتقوا أنفسهم من نير ذلك المستعمر الذي صادر العقليات.
قد يتصور البعض أن حركة الاستعمار في زمن الغيبة تأتي فقط لامتصاص ثروات الشعوب، كالنفط أو الثروة الحيوانية أو النباتية أو المعدنية وغيرها، لكنهم لا يلتفتون إلى أبرز شيء يصادرونه، وهو العقل البشري، فقد مرت قرون طويلة، وهذا الحق مصادَر من الإنسان، فحق العقل أن يكون هو السائس نحو الهدف. ففي يوم من الأيام، حتى في الممارسات اليومية في بيوتنا لم يكن يُقبل منا أن نستفهم أو نستوضح أو نسأل، أما اليوم فالعكس هو الصحيح، وإن كان البعض يميل إلى أن يُبرز رغبة ملحة أن يبقى المجتمع يعيش في حدود تلك الدائرة الضيقة، التي تضيق على أصحابها أيضاً دون أن يلتفتوا إلى تلك الحالة.
التمييز بين الحسن والأحسن من القول:
والقرآن الكريم، في مسار التدبر والنقد المباشر يأخذ بأيدينا نحو ذلك، فيقول مثلاً: ﴿الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبابِ﴾([4]).فليس كل ما يقال هو حسن، وعلى فرض أن يكون حسناً فهناك من هو أحسن منه، ففي كلام الصحابة مثلاً جانب من الحسن، لكن الأحسن من ذلك هو كلام النبي محمد (ص) ثم كلام سيد الوصيين أمير المؤمنين علي (ع) كما يستعرضه لنا النهج الخالد، نهج البلاغة، الذي من حقنا أيضاً أن نقف قليلاً فنتساءل كما كنا نتساءل في الماضي: أي زاوية تلك التي تحتضن هذا السِّفر المقدس في بيوتنا؟ وهل أهدينا يوماً هذا السفر الخالد، توأم القرآن الكريم، لأحد ممن يعز علينا، لنربطه بالهدف والمبدأ؟ نحن علويون بالانتماء، وفاطميون بالانتماء والممارسة في حدودها الضيقة، وحسينيون، إلا أننا في أدنى المراتب التي تدلل عليها معطيات النهج الحسيني.
فالقرآن الكريم إذن يضعنا على جادة الطريق، بأن هناك سيئاً، وهناك حسناً، وهنالك أحسن، ولا يرضى للأمة أن تتمسك بالحسن، إنما لا بد أن تتمسك بالأحسن، فالأحسن في مقابل الحسن لا في مقابل السيّئ، لأن أفعل التفضيل يؤتى به ليعطي لوناً من الخصوصية مع مبالغة في الصفة.
أما في الحكمة الإنسانية، فإن الفيلسوف الكبير الشيخ الرئيس ابن سينا رحمه الله، ينتزع لنا واحدة من الحكم الرائعة التي لو التفت إليها الإنسان، واستضاء بها لأعطته مساحة من الفضاء المضاء. يقول: من تعود أن يصدق من غير دليل، فقد انسلخ من فطرة الإنسانية.
إن الإمعات في المجتمع كُثر، منذ زمن الرسول (ص) إلى يومنا هذا، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. والإمعة هو من انسلخ من فطرة الإنسانية، ولم يعد إنساناً بالمعنى الدقيق للإنسانية، لأن قيمة الإنسان تكمن في عقله، بأن يكون صاحب عقل راشد وفكر نير، وثقافة واسعة والتزام ديني، فإن تمازجت هذه المكونات فيما بينها، أصبح الإنسان حينئذٍ في الصف الأول القادر على تقديم ما هو الأفضل من جهة، وما يكتسب من خلاله الرضا المنشود من الله سبحانة وتعالى من جهة أخرى.
السؤال مفتاح العلم:
والحديث عن الإمام الباقر (ع) كما في الكافي للكليني، يقول فيه: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني: من كتاب الله؟. ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (ص) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يابنَ رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوْفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وقال: ﴿وَلَا تُؤْتُوْا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامَاً﴾، وقال: ﴿لَا تَسْأَلُوْا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾»([5]).
ففي زمن التابعين، وهم الذين سمعوا من الصحابي عن النبي (ص) ولم يروا النبي (ص)، كان الحظر قد رُفع عن تدوين السنة، فنقل بعض الصحابة مجموعة من الروايات لتلامذتهم التابعين، فصارت المساحة واسعة جداً أمام التابعين في أن ينقلوا النصوص، وبذلك عجّ المجتمع الإسلامي بباعة الحديث، ولم يُبتلَ بهذه الظاهرة أصحاب مدرسة العامة فقط، إنما تسلل إلى أتباع مدرسة أهل البيت (ع) أيضاً، لذلك نرى أن الكثير من النصوص التي دونت وتم إسنادها لتلك الفترة، فيها الكثير من المتناقضات، التي بمستطاع الفرد العادي الذي لم يدخل الحوزات العلمية، ولم يمسك بأسباب التمييز في باب التعادل والترجيح بين الروايات، أن يضع يده عليها دون جهد كبير، فالتهافت والتناقض فيها واضح وجلي.
والإمام الباقر (ع) بالتقسيم الطبقي يكون من التابعين، أما بالنسبة لمنظومة أهل البيت (ع) فليس لدينا تابعي وصحابي بهذا التصنيف الاصطلاحي، إنما عقيدتنا في أهل البيت (ع) أن أولهم محمد، وأوسطهم محمد، وآخرهم محمد (ص).
فعندما يقول الإمام (ع): «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني: من كتاب الله؟» أي اسألوني: هل هذا من كتاب الله؟
ثم لاحظوا الجيل الواعي الذي ينشد الوصول للحقيقة وكشف السر عن المعلومة، كيف يذهب مع الإمام بعيداً، فيقول قائلهم: يابنَ رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ فيجيب الإمام (ع) بآيات من القرآن.
فالسؤال مفتاح العلم، ولا يستحينَّ أحد أن يقول أو يسأل عندما تكون الرؤية أمامه غير واضحة، فالعيب كل العيب، والسقوط كل السقوط، أن يرتب المرء آثاراً على أمورٍ نُقلت له، أو سمعها من هنا أو هناك دون تمحيص، فربما يكون المتحدث أو الناقل ممن يدس السم في العسل، أو ممن يتربص الدوائر، أو ممن يصطاد في الماء العكر، فكما أن المنافق تخلل صفوف المسلمين زمن الرسول الأعظم (ص) فإنه موجود في كل زمان ومكان، ولو لم يكن موجوداً لما جاءت سورة كاملة مخصصة لهذه الفئة من الناس، وقد أربكت هذه الفئة وضع النبي (ص) في حياته وبعد وفاته، ثم ثنَّت بعليٍّ (ع) واستأصلته، فنحن نعرف أن ابن ملجم كان في المسجد قبل صلاة الفجر، أي أن المظهر الذي تمظهر به هو مظهر العبادة، فالمسجد في تلك الأيام كان مظهراً مجسِّداً للعبادة الخالصة، ولم يكن فيه شيء من النفائس التي من الممكن أن تُسرق. فالرغبة التي تمظهر بها ابن ملجم هي العبادة بلا شك، وقد جاء ليصلي صلاة الليل، وكمن في زاوية من المسجد، ثم هاجم علياً (ع) في محراب الصلاة. وهذا لونٌ من ألوان النفاق.
ثم سارت المسيرة، وطوت مسافات ومسافات دون وعي، أو مع الوعي والتغافل أحياناً، كما حصل في الكوفة وسيناريو مسلم بن عقيل، وما إلى ذلك. وبالنتيجة غُيرت صفحة التاريخ، بل سُوِّدَت صفحته، ووصلت إلى ما وصلت إليه.
فمفتاح العلم هو السؤال، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن نسأل عن المسألة الفقهية ونتفحص عنها، فلا يكفي قول فلان الفاضل، فربما كان هناك التباس في الأمر، أو عدم وضوح في بيان المصداق، ولكن شرط أن يكون السؤال للاستفادة، لا أن يكون الهدف هو الضرب بين رأسين، بأن تأتي أحداً تسأله، ثم تسأل الآخر، بحثاً عن وجود التناقض، فهذا ليس من الدين، يقول الشاعر:
شفاء العمى طول السؤال وإنما تمام العمى طول السكوت عن الجهلِ
فلو رأيت ساكتاً لا يسأل، فاعلم أن الجهل يكتنفه في جميع جوانبه، أما إذا رأيته ملحاحاً في السؤال، فهذا يعني أنه يقرأ ويرصد المفردة ولديه حالة من الاستنارة دفعته للسؤال والتساؤل، بل إننا في موروثنا الإسلامي لو غيبنا السؤال الذي ربى القرآن الأمة عليه بقوله: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾([6])، وجردنا النصوص من زاوية السؤال، فربما لا يبقى من الصحيح ما يعادل العشرة في المئة، لأن المعصوم (ع) يعيش في الكثير من ظروفه حالة من التقية، ففي أكثر المراحل إشراقاً، ابتسم الدهر أمام الإمام الصادق (ع) مع هنٍ وهن، ومع الإمام الرضا (ع) كذلك، في حدود فترة تم التآمر خلالها على شخصه. فليس لدينا إمام عاش الراحة والاستقرار أبداً، بل إن بعض الأئمة (ع) كان يخشى الصحابة المقربين منه.
لذلك صدرت بعض النصوص من المعصومين (ع) بلعن من كان يكذب عليهم([7])، وهناك من الزنادقة من اعترف أنه وضع أربعة آلاف حديث([8])، ولكم أن تتصوروا، كم هو أثر تلك الأحاديث الكثيرة في بناء فكر الأمة؟ بل لا زالت مصانع الأحاديث تُنتج إلى يومنا هذا.
الانفتاح سر النجاح:
لا بد أن ندرك أن الانفتاح هو سر النجاح الأكبر في الحياة، ومن أراد الانغلاق اليوم، فلا بد أن يبحث عن زاوية في أطراف الربع الخالي، ويعيش كما يحب، أما من أراد أن يعيش الواقع، ويهيِّئ نفسه لمستقبل مشرق على يدي الخلف الباقي من آل محمد (عج) فعليه أن يعيش الانفتاح، بل إن أئمتنا هم أئمة الانفتاح، فليس لدينا إمام منغلق، ودونك موروثهم، فسوف تجد فيه أن مبدأ الانفتاح هو حجر الأساس، ومن قال غير ذلك فعليه أن يأتي بالدليل، أي أن الأصل هو الانفتاح، وخلاف الأصل يحتاج إلى الدليل، وليس الأصل هو الذي يحتاج دليلاً.
فمن أراد أن يثبت أن الانغلاق والانزواء والانطواء والتخلف والرجعية والجهل هو الأساس، فعليه أن يأتي بالدليل. صحيح أن الآليات تشتد وتضعف، والظرف السياسي أو الأمني أو العسكري أو الاقتصادي يساعد تارةً، ولا يساعد أخرى، لكن يبقى الانفتاح هو سيد الموقف، حتى أن الدول والأنظمة المنفتحة نجد أنها تشق طريقها فتصبح النتائج مرعبة ومخيفة للآخرين. بل حتى في حركة المدرسة الإمامية، لم يكن أصحاب التخلف يخشون أكثر من أن تكون هناك قامة منفتحة.
لذلك نجد مثلاً، أن الدولة الصفوية في إيران عندما حكمت، تبنت فكراً معيناً، قوامه في الكثير من الأحيان الروايات الضعيفة الأسانيد، وتم احتضان العلماء الذين تصب جهودهم في هذا الجدول، وقدمت لهم الكثير من العطايا، وهيأت لهم الكثير من الأسباب، حتى أتخموا المشهد الحديثي بالكثير من الروايات غير المنقَّحة، التي لا زالت الحوزات العلمية تدفع ضريبتها إلى يومنا هذا، ومن ورائها المجتمع كذلك.
ومن جهة أخرى أطلقت الدولة الصفوية العنان للبعض، مع التبني لبعض القامات في مسار التخلف، لذلك تسببوا في عرقلة المسيرة الفكرية في مدرسة أتباع أهل البيت (ع). ومثال ذلك الشيخ محمد أمين الاسترابادي، وهو محدث احتضنه أقطاب الدولة الصفوية من حيث يشعر أو لا يشعر، لا حباً فيه ولا في مروياته، بقدر ما هو نكاية بحركة العقل عند علماء الأصول في الحوزة العلمية. فألّف الشيخ الاسترابادي كتاباً أسماه «الفوائد المدنية»([9])، عندما كان في المدينة المنورة، وبذلك تبنت الدولة الصفوية هذا الرجل ومشروعه.
ولا نريد هنا أن نتهم الرجل، إلا أننا نقول: إنه من حيث يشعر أو لا يشعر تمت الاستفادة منه استفادة كبيرة في تعميق الشقاق بين أتباع مدرسة أهل البيت (ع). فقد ضرب أقطاب الطائفة على أساس من ميراثه.
ولكي لا نتجنى عليه، دونكم الصفحات الأخيرة من كتابه، وانظروا كيف يتعامل مع العلامة الحلي مثلاً، الذي لولاه لما استنشقت إيران نسيم الولاية لمحمد وآل محمد (ع)؟ وبم ينعته؟ وماذا يقول فيه؟
فالانفتاح هو سر النجاح الأكبر في الحياة، وهو مبني على مسارين، داخلي وخارجي، فالمسار الداخلي في الأسرة، فكون الأب يقلد مرجعاً ما، ليس بالضرورة أن يجبر العائلة على تقليد ذلك المرجع، فما المانع أن يكون الزوج من مقلدي السيد المرجع السيستاني، والزوجة تقلد الميرزا التبريزي؟ وما المانع أن يكون الزوج مقلداً للسيد القائد، والزوجة تقلد السيد السيستاني؟
فلو أن الأب بذر بذرة السوء في الأسرة، فعليه أن ينتظرها في المجتمع، لذلك تجد اليوم من يعزف على هذا الوتر بسبب وجود ما يساعد عليه، فهناك من يحث الآخرين على عدم الصلاة خلف فلان من الناس مثلاً لأنه يقلد المرجع الفلاني! فهل هذه آية من كتاب الله؟ أو رواية عن المعصوم (ع)؟ أو فتوى من مرجع؟
أمانة العلم والإفتاء:
إن بلاءنا اليوم هو من الفتاوى الاستنتاجية المنسوخة، ومشاكلنا من فتاوى (الأنابيب) فعندما يتحرك رجل الدين، ويرى أنه النائب المطلق عن الحاكم الشرعي، فهذه مصيبة في الأمة وكارثة.
أما نحن فنقول: إن طلبة العلم هم من حملة الأمانة، ويفترض أن يصدقوا في حملهم إياها، قال رسول الله (ص): «آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»([10]). فأداء الأمانة ينطبق على الجميع، من الفلاحين والكادحين والرؤساء وغيرهم، فعدم نقل النص بأمانة هو خيانة، ولك أن تتصور ما يترتب على تلك الخيانة.
فلا بد من احترام عقول الناس، ومن أراد من الآخرين أن يحترموا عقله، عليه هو أولاً أن يحترم عقول الناس، أما من يريد أن يضع حبالاً في رقاب الناس ويقتادهم من مسار إلى مسار فهو واهم، لأن المرحلة اليوم تختلف عما كانت عليه في الماضي، ولا حجة اليوم لأحد في تحصيل المعلومة.
والجهة الأخرى التي يجب أن تسود فيها حالة الانفتاح هي المؤسسة الدينية، فإذا انفتحت الحوزة على جميع المسارات، في الأحساء أو قم أو النجف أو مكان آخر، كان ذلك بلسم الجراح للأمة المجروحة، أما إذا أوصدت أُبواب الحوزة في وجه الميرزائي والشيرازي والخامنائي وغيرهم، وحُصرت في جهة معينة، فهذا يعني أنها سوف تبتعد عن المجتمع بالكامل.
إن تغاير المساحات وتبادل المواقع وتلاقح الأفكار يُنضج الفكر، ويدفع عجلة المجتمع نحو السمو والارتقاء.
السيد الإمام من أبرز رموز الانفتاح:
ومن أبرز رموز الانفتاح في الحوزة العلمية هو سيد الأمة (رضوان الله تعالى عليه) وأكرر كلمتي في هذا الشأن، شاء من شاء وأبى من أبى: ما كان الواحد منا يجرؤ أن يناقش فكرة ما، لا لشيء، إلا لأنها صدرت من آية الله العظمى فلان، أو من المجتهد فلان، فهؤلاء شرف لنا، نحترمهم ونقدرهم، لكنهم ليسوا في سلة واحدة، ولا على مستوىً واحد.
إن السيد الإمام (رضوان الله عليه) قاد الانفتاح في مسارات متعددة، وكان المنطلق لهذا الانفتاح هو النص المقدس، فإننا متى ما انغلقنا على النص، بقينا في حدود تركيبه اللفظي، ومتى ما انفتحنا عليه، جنّح بنا إلى مسافات بعيدة من عوالم المعنى التي يربطها الله سبحانه وتعالى بسر عظيم: ﴿وَاتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله﴾([11]).
فمن