نص خطبة: الصيام أهم الطرق المختصرة للوصول إلى الله عز وجل

نص خطبة: الصيام أهم الطرق المختصرة للوصول إلى الله عز وجل

عدد الزوار: 522

2012-12-08

في الحديث القدسي الشريف المروي بطرقهم: «الصوم لي وأنا أجزي به» ([2]).

الهجرة إلى الله:

مما لا شك فيه أن شهر رمضان هو أحد الطرق المختصرة الموصلة إلى المطلق. فكثيرة هي الطرق التي تتصف بهذه الصفة، لكن الصوم يمثل الطريق الأكثر اختصاراً، لما يؤمّنه للإنسان من مساحة كافية، مع حالة من الصفاء الخاص بعد التخلص من الكثير من الأدران المادية كي ينفرد بهذه النفس التي بين جنباته محاسباً ومعاتباً ومحفزاً.

وهذا الطريق المختصر يحتاج إلى مجموعة من المقدمات، لعل في الطليعة منها (الهجرة) وهي حالة واكبت الإنسان منذ أيامه الأولى وأخذت أشكالاً متنوعة، لكن الأهم منها الهجرة البدنية والهجرة الروحية، فالهجرة البدنية هي الانتقال بهذا المكوَّن الإنساني من موقع إلى موقع آخر، وهذه الحالة من الهجرة ما انفك عنها نبي ولا وصي ولا مصلح في مسيرة عطائه، إما على نحو الاختيار، كما هو المفترض أن يكون مراعاةً لمقتضى الأصل والقرب، أو بناء على القهر والإكراه الذي ينصبّ من خلال دائرة الظلمة باتجاه الأولياء والمصلحين على وجه الأرض.

وحيث أعطى الله تعالى هذه الميزة للإنسان في أن ينتقل من موقع إلى موقع رغبة في الوصول إلى الغاية المنشودة، فقد أكد وثبت ذلك من خلال العتاب الصريح، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَكن أرضُ اللهِ واسعةً فَتُهَاجِرُوا فِيْهَا([3]).

فالهجرة إذن مطلوبة، والهجرة بالجسد تارة تكون رغبة في تحصيل المعلومة والمعارف بشقيها، الإنساني واللاهوتي، وتارة رغبة في تحصيل المادة والانتقال من دائرة ضيقة إلى دائرة أوسع. ومن المعلوم أن في الهجرة خيراً، وفي التجارة خيراً، وربما هناك ضرب من الملازمة بينهما، هي حالة الوصل بين هذين الأمرين.

والنبي الأعظم (ص) أسس لهذه المقولة عندما خرج مهاجراً رغبة في تحصيل التجارة في أركب خديجة في القافلة المعلومة ذات الأهداف الموجهة.

فهنالك رغبة ملحة من السماء أن يتحرك الإنسان بهذا الجسد، وأن لا يبقى رهينة موقع ولد فيه، وإن شكّل مسمى الوطن الشرعي، ومسقط الرأس. صحيح أن هنالك مثقلات كثيرة، كالقرب من الأهل، وهي حاجة إنسانية عاطفية ملحة، وكذلك التقلب والتنقل والاختلاط مع الإخوان، وثمة مصالح أخرى تفرض نفسها هنا وهناك، ولكن بمقدور الإنسان أن يتخلص من تلك الشوائب والعوالق كلها رغبة فيما هو أفضل.

أما الهجرة بالروح حيث المطلق جلت قدرته، فهي غاية الكبار والعظماء والعرفاء من الناس، وأصحاب السير والسلوك، وهم أولئك الذين انقطعوا واتصلوا.

قد يتصور البعض، أن الهجرة إلى الله تعالى تعني فيما تعنيه أن يدير المرء ظهره تماماً لكل أمر مادي من حوله، وفي هذا قراءة خاطئة ناقصة المقدمات، غير مستقيمة الربط فيما بين المقدمة والنتيجة، فهنالك عرفاء، بل كانوا سادة العرفاء، وهم محمد وآل محمد (ص) فما من إمام منهم رضي لنفسه أن يكون عالة على أصحابه أو أهل بيته، بل نزلوا إلى ميدان العمل بجدٍّ ومثابرة، وحسبُك النصوص التاريخية التي تدون لنا واحدة من المراحل المهمة حيث صدرت من بعض أصحاب يحملون القراءة النِّصْفية المشلولة التي لا تعتمد على مقومات أساسية للخلوص إلى نتائج مرضية.

واجه أحدهم الإمام الباقر (ع) في قائضة الصيف وهو يطأ الوحل بقدميه ليسويّه، فقال له: يا بن رسول الله، ألا يكفيك هذا بعض غلمانك؟ كيف لو رآك الله وأنت على هذه الحال؟ قال (ع): إذن يراني في واحدة من مواطن عبادته. هذا هو الإمام الباقر (ع).

أما الإمام علي (ع) وهو سيد الأوصياء وإمام الأئمة والناس قاطبةً، فقد نزل إلى حقل العمل أيضاً، وأكل من كدّ يده وعرق جبينه.

إذن ليس منا من يريد أن يَتعرْفَن، أو يسلك طريقاً إلى الله في الوقت الذي يريد أن يدير ظهره لكل ما مكنه الله تعالى منه في هذه الدنيا.

إن ملاك الهجرة حينئذٍ إلى الله تعالى، هو هجرة ما اعتادت النفس الإنسانية عليه من الأفعال التي تبعد الإنسان عن الله تعالى. فهنالك أمور كثيرة اعتدناها في هذه الحياة، لذا فإننا نستثقل الصوم، وهنالك أشياء كثيرة في الحياة مارسناها وألفناها، فثقل علينا أداء الحق الشرعي والخروج من دائرة مسؤولياته، وهنالك أيضاً أمور أخرى كثيرة تجعل التكليف الشرعي ثقيلاً على نفوسنا، فالصلاة، وهي أسهل العبادات، لو تعارضت مع واحدة من مصالحنا فربما تركناها وغادرناها.

ففي بعض النصوص: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش» ([4]).  أي أن العبادة تتحول إلى عادة يمارسها الفرد.

يذكر أحدهم فيما يذكر، أن أحد الرجال كان يتردد على المسجد، وربما يكون أول داخل إليه وآخر من يخرج منه، وكان يعرف بصاحب السجدة الطويلة، فلا يضاهيه في سجدته أحد من المصلين، حتى إمام الجماعة. وفي يوم الأيام، كان أحد المصلين قريباً منه، ولم يكن يعلم أن هذا الرجل يتصف بطول السجود، فاستغرب من طول سجدته التي استغرقت وقتاً طويلاً، فخشي أن يكون قد فارق الحياة، فمد يده ليحركه قليلاً، فرفع رأسه وصبّ عليه سيلاً من السب والشتائم، فلم تبق مفردة في قاموس السفلة والمجرمين إلا وصبها على رأسه.

إن هذه السجدة لم تكن مبنية على أسس وقواعد، لذا كان الانحراف 180 درجة، وكانت حجته في ذلك أن الرجل الأول قطع علاقته بالله تعالى!

فالصوم إذن أبرز المصاديق التي تساعد الإنسان على مراده في الوصول إلى دائرة الله سبحانه وتعالى، بحيث يخرج المرء من هذه الحالة من الفلترة إلى حالة أخرى، ويتقولب في قالب آخر، لأن الصوم عبارة عن قطع العلاقة مع الكثير مما اعتاده الإنسان، سواء كان هذا الامتناع خوفاً من العقاب، أو رغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، أو أداءً للتكليف بما هو تكليف. وهذه مراتب يتفاوت فيها الناس فيما بينهم.

الأعمال بالنيات:

وقوام هذه الهجرة يتكئ على أساس أصيل، ألا وهو النية الخالصة الصادقة لله سبحانه وتعالى، بحيث تأخذ موقعها الطبيعي في التأثير في الإنسان من خلال ما يتعاطاه من عمل، فأنت ترى صائماً، يقع بينه وبين آخر كلام، فيقول له: ألا تعلم أنني صائم؟! وهي عبارة سهلة، إلا أنها عند أصحاب السير والسلوك تعني طامة كبرى، لا تقلُّ في جرح صيامهم عن تعاطي أحد المفطرات المادية المحسوسة الملموسة.

إن هناك حالة من الشفافية في تعاطي مجموعة من الأمور التي تشكل سواتر والأخرى التي تشكل قوى دفع نحو الله سبحانه وتعالى، والناس بقدر ما يعيشون من صفاء في داخلهم، يستطيعون أن يمايزوا بين هذه وتلك.

لذلك يقول الحديث الشريف عنهم (ع): «من حسُنت نيته أمدَّه التوفيق» ([5]). فالنية الخالصة أن يصوم هذا الشهر، وأن يتعاطى هذه العبادة المقدسة، فيساعده التوفيق على ذلك.

وتتعقد الأمور أكثر في الجانب المادي، فقد يصوم المرء ويصلي، إلا أنه في الخمس لا يستطيع أن يتغلب على نفسه، فيرى أنه هو الذي تعب في تحصيل الرزق، ولا حق لأحد فيه، فالنية هنا فاسدة، بل إنها ليست موجودة أصلاً، لأن الرواية تقول: أمده التوفيق، أي أن الله تعالى سيقف خلف ذلك المرء الذي عقد نيته على القيام بذلك الأمر.

وقد يتطلب الأمر أن يبذل المرء روحه في ميدان الجهاد والوغى، فيكون الأمر أصعب. لذا فإن من يتعرض لمن خذلوا الإمام الحسين (ع) وقعدوا عن نصرته ([6])، ولم تكن لديهم القدرة على الانبعاث نحو صوت الحق، صوت الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت محمد (ص) عليه أن لا يلقي العتب عليهم وينسى نفسه، صحيح أن هؤلاء في دائرة العتب، إذ لم ينصروا المعصوم، لكن المرء عندما يقرأ القضية من جوانب متعددة، ويفترض نفسه في محل أولئك الناس في ذلك الزمان بحدود الظرف وحيثياته، عليه حينئذٍ أن يقيّم ما إذا كان يقول: لبيك يا حسين، أو أنه يبقى في حدود الاعتقاد بإمامة الحسين (ع) دون بذل المهجة دونه؟ 

إننا نلاحظ أن التجاوز والتهاون والتساهل يحصل في أخف العبادات مؤنة وهي الصلاة، فكيف بالمواقف التي تحتاج إلى بذل الدم والمال؟ إن الصلاة تشتكي إلى ربها، ففي بعض الروايات أن المسجد يقول في يوم القيامة: يا رب عطلوني وضيعوني([7])، وفي تفيسر قوله تعالى: ﴿الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُوْنَورد أنه التضييع([8]). والصلاة ليس فيها قتل ولا قتال إنفاق مال. فمتى ما حصلت النية الصادقة عند الإنسان أمده الله تعالى بالمدد، وهو التوفيق.

إن المرء في الكثير من الأحيان لا يقدم لنفسه شيئاً، فهو قد ينهي دراساته العليا، لكنه في النهاية قد لا يستطيع أن يشق طريقاً ناجحاً في الحياة، وقد يكثر من الولائم، لكنه لا يستطيع أن يستميل قلب أحد من الناس، وقد يقدم الخدمات الثقيلة التي لا يقوم بها إلا العصبة أولو القوة، لكنه لا يستطيع أن يكبل الآخر بقيد الإحسان، إلا إذا صاحبه التوفيق، وهو جندي من جنود الله الكثيرة، ومنها الصبر والتوكل والتقوى والتوفيق وغيرها.

إننا نجد أن من يريد الزواج بامرأة يأخذ الكثير من الاحتياطات، فيسأل يميناً وشمالاً، لكنه لا يوفق في النهاية، والسر هو النية، لذا تجد في الروايات أن من تزوج امرأة لكذا وكذا حرمه الله كذا وكذا، أو رزقه كذا وكذا، تبعاً للنية.

فمتى ما صدقت النية ورشدت، أحدثت لنا حالة من الجذوة في الهداية الربانية في داخل أنفسنا، وهو مطلب كبير، فنحن نصوم ونصلي ونقرأ القرآن ونتصدق ونقدم الكثير من الخدمات، كل ذلك لنوقد جذوة الهداية الربانية، التي منطلقها الرجوع إلى الله تعالى، كما أن الهدف منها هو الرجوع إليه تعالى، وهذا مطلب مهم وحساس. والله تعالى لم يترك الأمور سدىً، إنما هيأ لها الأسباب، ومن تلك الأسباب وفي مقدمتها فروض العبادة التي افترضها علينا، فالله تعالى ليس بحاجة لصلاتنا ولا صيامنا ولا غير ذلك، لا في الدنيا ولا في الآخرة، إنما نحن الفقراء لذلك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تجد أن لدى المصلي حالة من الطمأنينة، ولدى الصائم حالة من الاستقرار، ولدى الحاجّ حالة من الانفتاح، وهكذا تتراكم تلك الأمور حتى تصل بالمرء إلى درجة ما من الكمال.   

كما أن النية الصادقة تبعث المرء من موقعه الأول الذي فطر عليه، ألا وهو الاستجابة الصادقة لنداء الفطرة السليمة، فليس لدينا إنسان معوجّ بالأصالة، أو منحرف أو غير مستقيم، فالفطرة الأولى التي فطر عليها الإنسان إنما هي الاستقامة والكمال والصفاء، لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهيأ له هذه الأجندة، غاية ما في الأمر أن الإنسان مع مرور الأيام تراه يخسر مجموعة من مقدرات تلك الأجندة، جراء عدم الامتثال وأداء الواجب من جهة، وجراء ارتكاب المحظور وتخطي دائرة المحذور، فقد حذرنا الله تعالى من مجموعة من الأمور، لكنك ترى أن الإنسان يقترب منها، والخطوة الأولى في الاقتراب من المحذور، والانتقال من المربع الأول، وهو الطاعة والانقياد والامتثال إلى موقع المعصية والتمرد على أوامر الله تعالى، إنما تكون بالتهاون بالصلاة، لأنها الحد الفاصل، قال تعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَر([9])، أي أن الطرف المقابل للصلاة هو الفحشاء والمنكر، وابتعاد الإنسان عن حالة التعاطي مع الله سبحانه وتعالى، بناء على عدم امتثال الأمر بالصلاة يدفعه ويترك له مساحة أن يترك المربع الأول وينتقل للمربع الثاني وهو الفحشاء والمنكر.

ثم إن النية الصادقة تؤمّن للإنسان الاستحقاق الرباني، أي استحقاق الإنسان على الله تعالى أن يثيبه على ما قدّم، فإحسان النية يوجب المثوبة، فكلما حسنت النوايا لدينا تعامل الله تعالى معنا على أساس من ذلك. ومن تلك الأمور المترتبة على ذلك، الثواب الجزيل، فمهما طال بنا الزمن فإننا صائرون إلى الله تعالى، وليس لنا سوى العمل، والمفتاح الذي يفتح به القفل الذي أحكم على العمل إنما هو النية الحسنة، فالله تعالى لا ينظر إلى أعمالنا قبل أن ينظر إلى قلوبنا.

ومن النوادر والشواهد التاريخية التي ذكرت في إحسان النية ما يعرف بشهيد الحمار، وهو من أصحاب النبي (ص) والمعروف أن الصحبة ليست امتيازاً إذا لم تصاحبها الاستقامة، والكثير من الصحابة كانوا على خلاف ذلك مع شديد الأسف، فهناك سمرة بن جندب وشَبث بن رَبعي وغيرهم ممن يعدّ من الصحابة.

لقد كان شهيد الحمار يقاتل مع النبي (ص) في إحدى السرايا، ويستعد لبذل نفسه، فأعجبه حمار كان يمتطيه أحد المشركين، فصار يقاتل ليحصل على الحمار، وليس استجابة لأمر الله أو نصرة النبي (ص). فقال له أحدهم: لقد أبليت بلاءً حسناً، فقال: أحسبَ محمد أني أقاتل من أجل جنته؟ أما إن نفسي بحمار علقة، وراح يقاتل ويقاتل حتى قتل قبل أن يصل للحمار، فصار شهيد الحمار.

عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: «إنما خلد أهل‏ النار في‏ النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ‏﴾ قال: على نيته»([10]). لذا تجد أن الظالم عندما يلغ في دماء الأبرياء من المسلمين وغيرهم، إنما يعبر عن تلك الحالة، وهي أنه لو كتب له الخلود لما رفع يده عن تلك الدماء، ولو بُعث يزيد من قبره، وكان أمامه ألف حسين لقتله. وهكذا حال الخالدين في الجنة بالمقابل، فهم لو كتب لهم الخلود في الدنيا لأطاعوا الله حق طاعته.

يقول أحد الصحابة للنبي (ص): والله لوددت أن أقتل بين يديك ثم أنشر ثم أقتل ثم أنشر ثم أقتل، يُفعل بي ذلك سبعين مرة. ويقول آخر: يا رسول الله، لا نقول لك: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُوْن([11]). إنما نقول: اذهب فقاتل إنا معك مقاتلون، والله لو قتلونا ثم أحرقونا ثم ذرونا كالرماد، ثم نشرنا لعدنا إلى ما كنا عليه. فهذا مثل وذاك مثل، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ، والمواقف والتضحيات والوصول إلى الغايات إنما يأتي وليد العزيمة.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.