نص خطبة: السيدة المعصومة جذوة العلم ومنارة الأدب وإشراقات العبادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) وهو يقول لأحد أصحابه: «يا إسحق بن فَرُّوخ، من صلى على محمد وآل محمد عشراً، صلى الله عليه وملائكته مئة مرة..»([2]).
وفي الحديث الشريف أيضاً عن الإمام الجواد (ع): «من زار قبر عمتى بقم فله الجنة»([3]).
وقفة مع ميلاد كريمة أهل البيت (ع):
أسعد الله أيامنا وأيامكم بذكرى ميلاد السيدة المعصومة (عليها السلام) الذي قد يكون يوم أمس أو اليوم، في المدينة المنورة بأنوار النبي محمد (ص).
للسيدة المعصومة مقامٌ عالٍ سامٍ، يدل على ذلك ما كان يقوم به أبوها الإمام الكاظم (ع) عندما كان يفدّيها بنفسه في ثلاثة مواطن. ألقابها كثيرة، وفي الطليعة منها (المعصومة). وكلنا يعلم أن العصمة ضربان، ضربٌ اختص به الله تعالى الإنسان الذي اصطفاه حجة على خلقه، كما عليه مذهب الإمامية، وتوقف فيه علماء العامة بالمطلق، إلا فيما استثني من خلال آية في كتاب الله. وهو شأنٌ مربوط بالأنبياء والرسل. والضرب الآخر هو العصمة الاكتسابية، وهي ما عليها اتفاق جميع من يملك عقلاً، سواء اتصف بصفة الدين ولبس عباءته، أم كان بعيداً عن ذلك في مظهره.
واللقب الثاني لها: كريمة أهل البيت (ع)، وهذا اللقب عندما يذكر يتداعى للأسماع اسم الحسن المجتبى (ع) فهو كريم أهل البيت (ع) وقد تحدثت عن هذا الجانب بإسهاب، في ذكرى مولده في شهر رمضان المتصرّم، أعاده الله علينا وعليكم بالخير والبركة. وفي هذا اللقب وذاك، دلالة كافية على سمو وعلو المرتبة لهذه السيدة الجلية.
وقد اختلف في عمرها الشريف، فقيل: توفيت وهي في السادسة عشرة من عمرها، وأقصى ما وصل إلينا في الأخبار أنه ثمانية عشر عاماً. ومع هذا العمر القصير نجد العظمة والنورانية والرفعة والشموخ والخصوصية، وهي ليست معصومة تكويناً.
ألا يدعونا هذا أن نتلمس معالم هذا الطريق ونضع أيدينا على الأسس والقواعد التي اتبعتها هذه السيدة الجليلة حتى وصلت إلى هذا المقام؟
لقد شابهت أمها الزهراء (ع) في الكثير من صفاتها، أكتفي بواحدة منها، وهي العلم والمعرفة الواسعة بعلوم الإسلام. فعندما نتحدث عن الزهراء (ع) نجد أنها العالمة المحدَّثة والمحدِّثة، فهذه خصوصيات الزهراء (ع) ، لكن السيدة المعصومة (ع) استطاعت أن تقترب من بعض المربعات الخاصة بالزهراء (ع) ومنها صفة العلم.
ويشهد على ذلك أمور كثيرة، منها التصدي للفتيا عندما يغيب والدها الإمام الكاظم (ع) عن المدينة، إذ تقوم هذه السيدة الجليلة بالجواب عمَّا يطرح من أسئلة، تتعلق بأمورهم الدينية في شتى المحاور وتشعبها.
والشاهد الآخر على علميتها مدرسة الحديث التي خلّفتها وراءها. وهنا يُطرح سؤال مهم، يتولد من حقيقة مهمة، هي أن الكثير منا تشرف بعتبتها الطاهرة، وقسم كبير منا سلم عليها عن قرب، ووقف على ضريحها الشريف، ولكن، ما الذي يعرفه عن هذه السيدة الجليلة العظيمة بكل ما تحمله من معانٍ مكتنزة فيها؟.
ويتولد عن ذلك سؤال آخر: هل قرأنا بالفعل شخصية هذه السيدة الجليلة، لنقدمها قدوةً لبناتنا؟ لأننا إن ضربنا لهم مثلاً بالزهراء (ع) قالوا: هذه لها خصوصيتها، فهي مصطفاة من عالم الغيب، ولها عناية خاصة من خلال المحيط والمكون، أما فاطمة المعصومة فاكتسبت جميع الكمالات بناء على الجهد الشخصي الذاتي، وهذا يعني فيما يعنيه أننا ننتمي إلى مدرسة الإسلام، ومذهب جعفر بن محمد (ع)، فإذا ما سرنا وفق معطيات هذا الدين، وهذا المذهب الشريف، فسوف نصل إلى ما وصلت إليه السيدة المعصومة، لعدم وجود الخصوصية في المقام للعنوان الأولي.
أما روايتها للحديث فتدل على ما لها من قدم راسخة في العلم، ورواية الحديث لها قيمتها، خصوصاً إذا أخذ الحديث طابع الخصوصية في بعض جوانبه وإشراقاته. فقد كانت هذه السيدة الجليلة تعنى في مروياتها أن تثبّت المعتقد في قلوب المؤمنين بمحمد وآل محمد (ص).
فقد روت بطريقها الخاص، العالي السند، حديث الغدير وتنصيب الإمام علي (ع) إماماً على الأمة. ثم روت في موطن آخر بطرقها المعتبرة فضل علي (ع) وفضل شيعته، ورفدت ذلك بحديث المنزلة، بطريق معتبر. وروت بطريقها الخاص المعتبر حديثاً آخر يتعلق بحب آل محمد في نفوس المؤمنين. إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومن الملاحظ أن هذه الأحاديث الأربعة المنتقاة المشار إليها، تصب ّكلها في موضوع واحد، فإذا جُمعت فيما بينها تخلص إلى نتيجة مهمة، هي أن الهم الأكبر عند هذه السيدة الجليلة كريمة آل محمد (ع) هو تثبيت الإيمان، وربط النفوس بالمعتقد، وهو ولاية علي وآل علي (ع).
إن الأدلة على عظمة أي فرد، تتم من خلال عدة أمور، منها نتاجه العلمي والفكري والأدبي والفني والسياسي والاجتماعي وغيره، وفيما تقدم من الكلام، إشارة على ما لها من التقدم.
مدينة قم، التاريخ الحافل بالعطاء:
والأمر الآخر هو الضريح الطاهر في قلب المدينة المقدسة، مدينة قم، ففيه من الخصوصية الكثير. أما مدينة قم، فقد وردت في حقها روايات كثيرة، في مجموعها تسوق إلى اتجاه واحد، هو أن للمدينة خصوصية لا تجاريها فيها كثير من المدن، عدا ما ورد فيها نصوص خاصة.
قم المقدسة مدينة هادئة مستقرة، طبيعتها جافة، وهذا الجفاف له انعكاسه على الأفراد أيضاً كما هو حال سائر الشعوب على وجه الأرض، حيث تتأثر بالبيئة التي تعيش وتتربى فيها، مادياً ومعنوياً، كالتضاريس والأنهار والأشجار والرطوبة والجفاف، كل ذلك يترك أثراً على الإنسان في بناء تكوينه الجسدي الأول، وكذلك له تأثيره في الروح. فمن يعيش في مناطق تعجّ بالمعاني من العبادات والزيارات والأفكار وغيرها، تأخذ شخصيته طابعاً خاصاً ولوناً متفرداً، بحسب ما تمليه تلك البيئة. فنحن جميعاً أبناء بيئتنا وليس هنالك من يتجرد ويتنصل من ذلك.
فمدينة قم دلف إليها العلماء منذ بدايات القرن الثاني، عندما حصلت عملية التهجير الأولى ضد العلويين، حيث خرج الأشعريون من الكوفة فاختاروا منها موطناً لهم، وآثارهم إلى اليوم موجودة، وبيت النور الذي كانت تتعبّد فيه السيدة المعصومة أواخر حياتها شاهد حي على ذلك.
وقد أخذت قم المقدسة بعدما شرفّها مرقد السيدة المعصومة (ع) لوناً آخر لم يكن معهوداً من قبل إلا في حدود ضيقة، ألا وهو الحوزة العلمية، فقد جاء إليها الأشعريون وهم حملة حديث، ولما كانوا كذلك وكانت إيران لتوّها تدخل في هذا الدين بعد الفتوحات، والصراعات الكثيرة التي كانت آنذاك، كان مذهب أهل البيت (ع) يؤسس قواعده ويضع الخطوط الأولى لمعالمه، ومن هناك كانت الانطلاقة.
وقد أخذت هذه الحوزة بالتوسع شيئاً فشيئاً، حتى بلغت ما هي عليه اليوم، من قوة وثبات وإبداع وخلاقية، يقف وراء ذلك أمور عدة:
1 ـ ضعف الحوزة النجفية أيام البعث الغاشم: الذي شتت شملها، وبعثر أوراقها، وضيع جهودها، بين عالم مقتول، وآخر مأسور، وثالث منفي، وهكذا. فالنجف منذ خمسين سنة تشكو الضعف والتراجع، وتحاول أن تحافظ على مكونها، وهذه ليست المرة الأولى، بل تعرضت النجف في أكثر من مرحلة ومرحلة لحالات ضعف لصالح مواطن أخرى، جراء الأحداث التي كانت تجري، أمنية أحياناً، واقتصادية أخرى، وأحياناً وبائية، كما حصل في حوزة سامراء، حيث اجتاح النجف الطاعون، فكانت سامراء هي الملاذ، فتشكلت حوزتها بقوة، واستمرت فترة قصيرة لكنها مؤثرة، وقد تخرج منها الكثير من الأعلام.
فضربة حزب البعث للحوزة العلمية النجفية لم تكن سهلة، إنما وضع خططها الاستعمار الأجنبي، ونفذها البعثيون، وكان الضحايا هم علماء مذهب أهل البيت (ع) من مراجع وفضلاء وكتّاب ومحققين، حتى بلغ الحال أن الكثير من علمائها اختفوا ولم يعثر لهم على أثر إلى يومنا هذا.
فهجرة العقول من النجف لا بد أن تبحث لها عن ملاذ آمن، فقد هُجّر الكثيرون سنة 1975 م وسنة 1979 م، كما هاجر الكثيرون أيضاً طوعاً بسبب الخطر المحدق الذي كانوا يستشعرونه. فتوجه أكثر هؤلاء نحو قم المقدسة، حيث النهضة العلمية في أوجها.
ومما يميزنا نحن أتباع مدرسة أهل البيت (ع) الفصل عن المكونات الكبيرة والحواضر العلمية، وهذه مشكلة كبيرة، فقبل أربعين عاماً لم يكن أحد يعرف عن قم شيئاً سوى القلة، فلم يكن الكثير منا يعرف شيئاً عن تاريخها وعلمائها الذين تسيّدوا المشهد فيها مرجعياً وعلمياً.
بل الأكثر من ذلك، أن النتاج العلمي القمي بقي مُقصى عن المشهد، وكان الضوء يسلط على مركز واحد، حال أن حجر الأساس في الحوزة العلمية في قم كان قد وضع قبل النجف، فالنجف كانت على يدي الشيخ الطوسي، بينما مدرسة قم وضعت على يد القميين، كالشيخ الصدوق وشيخه ابن الوليد وأمثالهما، وهي قبل تلك الفترة بكثير.
ومع مجيء هؤلاء الأعلام من النجف إلى قم، تلاقحت فيها الأفكار، فأصبحت تعيش رشداً ونضجاً جديدين، وكانت لهؤلاء الأعلام قدم راسخة في المسارات العلمية الواضحة القريبة وهي الفقه والأصول، ولكن كان الكثير منهم أيضاً يحمل معه الإبداع المخنوق عندما كان في النجف، فتفلّت من قيوده عندما وصل إلى قم، الحاضرة المتوثبة بثوبها الجديد، وهنا تكمن المفارقة.
ومن الجدير بالذكر هنا، أننا عندما نتحدث عن قم، فلا يعني أننا ندير ظهرنا للنجف، لأن النجف وقم واحد، فالحديث عن النجف يكمّل قم، والحديث عن قم يكمّل النجف، ولا ينبغي لمتصيّد أن يتصيد في الماء العكر.
قد يقول قائل: لماذا تشير إلى ذلك بهذا الشكل؟ أقول: عندما تحدث آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي في وقتها عن قم، سلقوه بألسنة حداد، بل حاربوه حتى في زيارته الأخيرة للنجف قبيل وفاته. والشواهد على ذلك كثيرة وواضحة، فبقدر ما يوجد من ذوي النفوس الطيبة المؤمنة، هناك في مقابلها من أهل النفوس الخبيثة التي تريد أن تبعثر أوراقنا وتشتت شملنا وتضيع جهودنا، ولو أمكنها القضاء علينا لقضت، فيجب أن ننتبه لصعوبة المرحلة وخطورة الموقف، وأن نسدّ الخلل في صفوفنا، كما نسد الخلل في صفوف صلاتنا، بل الخلل في النفوس أخطر، وسدّه أهم.
2 ـ تعدد العلوم والمعارف في حوزة قم: وذلك منذ أيامها الأولى زمن المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسس حوزة قم بثوبها الجديد، وأستاذ المراجع في قم، منذ ذلك الحين والعلوم فيها متفرعة.
فالفلسفة أخذت نصيبها، والعرفان حلّق في أعلى ما يمكن أن يصل إليه، والتفسير أخذ بعداً مميزاً، بل اقتحمت حتى ميادين السياسة وحققت فيها الكثير من النقاط.
وكذلك العلوم التطبيقية، وهي مهمة جداً، فقد مر علينا قبل أيام قليلة ذكرى الإمام الصادق (ع) وكان الكثير منا يعلم أن للإمام الصادق يداً في علم الكيمياء، وقد علّم جابر بن حيان وغيره، فإن كان الأمر كذلك، ألا يفترض أن يكون جزءٌ من الحوزة العلمية معنياً بهذه العلوم؟ ألم يرد الإمام الصادق (ع) أن تكون هذه العلوم واحدة من اللبنات في هذا الصرح العلمي العظيم؟
إن أتباع أهل البيت (ع) في زمن الإمام الصادق (ع) كانوا يمثلون ثلاثين مذهباً، وليس مذهبهم الخاص فقط، وإلى اليوم هنالك تعدد في داخل أتباع مذهب أهل البيت (ع) كالزيدية والإسماعيلية وغيرهما. فعندما تحرك المريدون والأصحاب في فلك مرجعية الإمام الصادق (ع) تقدّموا كثيراً وقدّموا لغيرهم، ولكن عندما تخلف من جاء بعدهم، وحصر نفسه في عناوين معينة أصاب المشهد الكثير من الضمور والضعف والتراجع.
فأنت تجد الجوامع والمدارس والحواضر تهتم بالفقه والأصول بشكل رئيس، والتفسير في أحسن التقادير، لأن السيد الخوئي أصيب من هذه النافذة، والسيد الصدر كذلك، وكذلك الشيخ محمد جواد البلاغي الذي أصبح نسياً منسياً بسبب هذه النافذة، وغير هؤلاء. أما في قم فكانت الأبواب مفتحة للعلوم النظرية بكافة تشكيلاتها، ثم جاءت العلوم التطبيقية فأخذت نصيبها، حتى بلغ المشهد ما بلغ إليه اليوم كما هو واضح.
أضف إلى ذلك مطاردة العلوم المستجدة، فهنالك معاهد لرصد كل جديد في معاهد العلم والمعرفة، والكثير من المعممين يحملون تخصصاً في جانب من هذه الجوانب، فالتوثيق العلمي أمر مهم لنهوض الأمة فيما إذا أرادت أن تنهض، وهذا ما التفت إليه الغربيون وتخلّف عنه الشرقيون، لذلك حلّت النكبة.
ومن أسباب تقدم هذه الحوزة القمية، وضع لائحة قوانين القبول والرفض للطالب المنتسب للحوزة العلمية في قم، ففي الحوزات العلمية سابقاً، في النجف والحلة وإصفهان والأحساء وغيرها، لم تكن هنالك ضوابط في قبول الطلبة ورفضهم، إنما كانت الحوزات تعيش حالة من القبول العشوائي، فالحوزة كانت مفتحة الأبواب أمام الكثيرين، ومنهم من لديه إخفاقة علمية وعدم توفيق في عمل، فكانوا يلجأون للحوزة العلمية، ويبقى الطالب وجهده، قد يتقدم كثيراً، وقد يتقدم قليلاً، وقد يخفق ويتخلف.
أما في قم، فكانت الشروط منذ البداية موضوعة، لا كما يتصور البعض أنها مستحدثة، لكنها خلال العقود الثلاثة الأخيرة خضعت للتطوير والتشديد، فقد كانوا في السابق لا يقبلون من كان من غير أهل قم أن ينتقل إلى قم للدراسة، حتى يصل مرحلة السطوح، ثم طُوّرت هذه الشروط، وكان لهذا التطوير انعكاسه الإيجابي.
كما وضعت لجنة للامتحانات، وهو منتج أكاديمي تم اجتلابه للحوزة، فأحدث نقلة نوعية فيها. كما ارتبطت نتائج هذه اللجنة بالكثير من القضايا، ومنها امتيازات طالب الحوزة، فمن أخفق وفشل حُرم من الراتب الشهري، أو أعيد إلى مرحلة سابقة، وربما يغلق ملفه الدراسي في الحوزة تماماً.
كما أن الرواتب لها سلّم خاص، يرتقيه الطالب من المرحلة الأولى إلى العاشرة، قبل أن يلج مرحلة البحث الخارج.
وقد أثر هذا في رفع نسبة الكفاءة بين المعممين، وأحدث تحولاً كبيراً. فوضعت المحفزات، وسعى أصحاب الهمم العالية أن يصلوا إلى ما هو أفضل، لذلك تطورت الحاضرة العلمية في قم المقدسة.
ومن فوائد ذلك أنْ تخرج منها جيل يعي المسؤولية ويعرف الهدف، وهو أمر مهم. وربما يقول قائل: هنالك تفاوت وفروق في المستويات. أقول: هذا من الأمور الطبيعية جداً، حتى في زمن النبي (ص) كان هنالك تفاوت وفروق وصراع على المكاسب في حياة النبي (ص) فضلاً عما حصل بعد وفاته، ودونكم التاريخ.
ومن ميزات حوزة قم العلمية، تعدد مراكز البحث والتحقيق والنشر، ففي أي بحث علمي تبغيه، هنالك مؤسسات علمية تدعمك وتوصلك إلى ما تصبو إليه.
أضف إلى ذلك أن الأساتذة وضعت لهم محفزات، فدارت عجلة الإبداع وتطورت ضوابط العلوم والإنتاج عندهم.
ومن أهم منتجات قم العلمية الحوزوية: تفسير الميزان، لشيخ العرفاء والمفسرين، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، الفقيه والمفسر والعارف المعروف. وكذلك تفسير الأمثل لأستاذنا الشيخ مكارم الشيرازي، حفظه اله تعالى، الذي مثّل نقلة نوعية وعصرية في تاريخنا، وهو أول تفسير شيعي إمامي يترجم لأكثر من عشر لغات عالمية.
وفي عالم الأحاديث هنالك جامع الأحاديث، وهو إصدار موسوعي يشتمل على أحاديث الشيعة في مصنفاتهم على مدى العصور.
وأما الفقه، فحدّث ولا حرج، بحيث تجد مستحدثات المسائل المستعصية لها باب واسع في حوزة قم، وفي مواطن أخرى يتم التحفظ والتوقف فيها.
ففي هذا الشهر الذي نحن فيه وقع خلاف حول الهلال، في مسألة ثبوته بالعين المجردة والعين المسلحة، وقد كان أستاذنا الفاضل الشيخ اللنكراني رضوان الله عليه، أفتى بالاكتفاء بثبوته بالعين المسلحة، وهي فتوى غير مسبوقة، مما يدل على أن الحراك كان موجوداً.
وهكذا تجد الكثير من الفتاوى في الموت السريري ونقل الأعضاء والتلقيح الصناعي وغير ذلك.
أما الفلسفة فقد بلغت رشداً بعيداً وواسعاً، ويكفي في ذلك وجود الآمليين العظيمين الكبيرين، الجوادي الآملي، وحسن زادة الآملي. بالإضافة إلى مفخرة الحوزة العلمية المصباح اليزدي. وأخيراً، العلامة المرجع الشيخ السبحاني، صاحب المواهب المتعددة، في الجانب العقلي والنقلي.
أيها الأحبة: إن طلاب العلم في بلادنا ممن ارتبطوا بقم تأثروا كثيراً، سواء بالحضور المباشر عند أساتذتها أم بالواسطة، من خلال قراءة البحوث التي كانت تصدر في قم، فهنالك مثلاً أكثر من مجلة متخصصة بالعلوم الحوزوية، ومنها: فقه أهل البيت، والمنهاج، وغيرهما، وهي تعنى بأدق العلوم والمسائل. فهؤلاء الطلبة تأثروا بما وجدوه هناك في قم المقدسة.
وسوف أكمل ما تبقى في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى. ولكنني أنبه لأمر مهم، وهو أن لا تمر بنا مناسبات أهل البيت (ع) في أفراحهم وأحزانهم إلا ونوظفها في سبيل الهدف، وهو أن نعيش سعداء، على بصيرة من أمرنا في ديننا ودنيانا، وهو مطلب الرسالة السماوية الذي ينبغي أن ينهض به أبناء الأمة جيلاً بعد جيل.
رزقنا الله وإياكم زيارة السيدة المعصومة وشفاعتها، وجعلنا ممن يتدبر في حياتها وينهل من فيوضاتها، إنه ولي ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.