نص خطبة: السيدة المعصومة إشراقة الأمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
وقفة مع كريمة أهل البيت (ع):
قال الإمام الرضا (ع) في فضل زيارة كريمة أهل البيت (ع): «من زارها فله الجنة»([2]).
وفي حديث آخر يقول الإمام الجواد (ع): «من زار قبر عمتي بقم فله الجنة»([3]). اللهم أوصلنا إلى عتبتها الطاهرة، وبلغنا الشفاعة على يديها في الآخرة.
أما عن مدينة قم المقدسة، المكان الذي تشرف باحتضان هذه النسمة المباركة من أهل البيت (ع) فقد جاء في الحديث الشريف عنهم (ع): «قم عش آل محمد ومأوى شيعتهم»([4]).
وفي حديث آخر عنهم (ع): «إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميين، ومستراح المؤمنين»([5]).
تمر بنا ذكرى ميلاد كريمة أهل البيت (ع) السيدة الجليلة المعصومة، بنت الإمام الكاظم (عليهما السلام) وهي نسمة طاهرة ونفس زكية من تلكم الدوحة المباركة. أبوها الإمام الكاظم موسى بن جعفر (ع) سابع أئمة أهل البيت (ع) إمام أعطى الكثير، ولم يسلَّط الضوء على عطائه إلا بما يشبه غرفة من ماء البحر. أما أمها فتدعى نجمة، وهنالك أسماء أخرى لها.
أخذت معارفها الأولى على يدي أمها، حيث تربت في بيت العصمة والطهارة، ثم أكملت دورتها المعرفية على يدي أبيها وأخيها الإمام الرضا (عليهما السلام). وقد شاطرت أباها صعوبة المرحلة وقساوة المحنة التي واجهها (سلام الله عليه) من قبل بني العباس، خصوصاً هارون العباسي.
رهين السجون:
ورب سائل يسأل: لماذا طالت الفترة التي عاشها الإمام الكاظم (ع) في غياهب السجون؟ حيث قيل: إنها أربعة عشر عاماً، وقيل سبعة عشر، كان ينقل فيها من سجن إلى سجن، ويودع في طامورة، ومنها إلى طامورة أخرى، بحيث لا يميز بين الليل والنهار في الحدود الطبيعية. فكان سجنة تحت الأرض، له ممرٌّ يفضي إلى قعره، يربو على أربعين درجة! وكان (ع) مكبلاً بالحديد في يديه ورجليه.
فمن المفترض أن يترك هذا الحال وراءه تساؤلاً طويلاً يفرض نفسه على أقلام الكاتبين والباحثين، وعلى ألسنة الخطباء والمتحدثين. لكننا ـ مع شديد الأسف ـ نتعامل مع هذه المفردة كغيرها من المفردات، فلا نقف إلا عند الجانب العاطفي منها، وكأن الأئمة (ع) إنما قاموا بما قاموا به من التضحية الكبرى من أجل هذه القطرات اليسيرة من الدمع، حال أن الدنيا بأسرها وما فيها، لو بكت منذ يومها الأول حتى يرث الله الأرض ومن عليها لم توفِّ قطرة دم من نحر الإمام الحسين (ع) أو من صدر فاطمة (ع) أو من ناصية علي (ع) أو مما قذفه الإمام الحسن (ع) من كبده بسبب السم، وهكذا الحال في سائر الأئمة (ع).
بالنتيجة أن وراء هذه التضحية الكبيرة جداً دروساً، وتُكتنز فيها عبر، ولكن حيث إن الأمة أبت إلا أن تتعامل في حدود هذه الدائرة الضيقة، ما زالت تراوح مكانها، فلم تخطُ الخطوات الجبارة التي يجد العالم نفسه مذهولاً أمامها إلا نزراً يسيراً على يد فتية صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بين الفترة والفترة، والمكان والمكان. وربما كانت هنالك شذرات تعلو همتها، وتشتد سواعدها، فتذهب مسافة معينة، أما ما يوازي ويتناسب وحقيقة ما قدمه الأئمة (ع) فربما يحتاج إلى الكثير من التأمل إذا ما كنا نرغب أن نتقدم ونقدم موروثاً للعالم من حولنا أوله ووسطه وآخره محمد.
ضريبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وللجواب على السؤال المذكور، وهو: لماذا يُسجن الإمام الكاظم (ع) تارة في المدينة، وأخرى في البصرة، وثالثة في الكوفة، ورابعة في بغداد، ثم تعود الدورة من جديد؟ وماذا وراء ذلك؟ نقول: إن الإمام الكاظم (ع) فعّل دور فرعٍ معطلٍ في الأمة، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأنتم تعلمون أن الحركة أخذت اتجاهاً علمياً صرفاً إبان إمامة الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) بما يتماشى وحيثيات المرحلة. وقد صاحب هذه الفترة أجواءً سادها الكثير من الهدوء، مع ترف مفتوح من قبل الدولة العباسية بحيث سادت المنكرات في الكثير من مفاصل الدولة الإسلامية آنذاك.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الأئمة (ع) عندما يتحركون لا يحتاجون إلى من يعلمهم تكليفهم، لأن الإمام المعصوم (ع) هو الأقدر على تشخيص ميزان الأهم والمهم أو ما دونهما في الأهمية بحسب الظرف.
لذلك أود هنا أن أقدم همسة في آذان الأحبة فأقول: نحن أحياناً ننتقد مقولة أو فكرة أو نظرية هنا أو هناك، دون أن نُخضع هذا النتاج لظرفه الذي تَشكّل في حدوده. لذلك تكون الأحكام قاسية، لأننا فصلنا النتاج عن مقدماته أو عن أسباب تكونه أو تشكُّله، وهذه مشكلة تصاحب المسار والملف الفكري في وسط الأمة، ليس وليد الساعة ولا التقنية الحديثة، إنما هي منذ القدم. فالسهروردي قتل بسبب نظرية بسيطة، إذ أرادوا أن يعزلوا بين النظرية وصاحب النظرية، فكانت الذات هي المستهدفة وليست الفكرة، وهو الأسلوب عينه الذي يمارس اليوم في العلن والفضاء المفتوح، ومثل ذلك كثير.
فالإمام الكاظم (ع) تحرك في هذا الجانب، وقضية بشر الحافي واحدة من اللبنات في البناء الكبير، إذ قلبت كيان رجل، لكنه لم يكن رجلاً في دائرة مقفلة، إنما ترتبط به الكثير من الجهات. لذلك استطاع الإمام الكاظم (ع) أن ينفذ من خلال بشر إلى الكثير من المربعات التي يشغلها الكثير من الأفراد الذين لهم قيمة كبيرة في المحيط من حولهم، لذلك خشيت الدولة العباسية هذا الحراك، وإن كان في حدود الأمر بالمعروف، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث السعة لا حدود له، غاية ما في الأمر أن الأمور تأخذ مسافة من حيث الطول والقصر، والسعة والضيق، بحكم الملاكات المكتنفة لما يحصل خارجاً، من قول أو فعل.
لقد كانت قراءة الخليفة العباسي أن الأمر إذا استمر على هذا المنوال فهو يعني تمرد الأمة، لأن النوبة ستؤول إلى رفض الظلم بعنوانه الأبرز، وهو ما لا يرتضيه؛ لأنه يتنافى والطموحات الخاصة لخليفة المسلمين، فلا بد أن تُقلّم أظافر الحركة، فعمدوا إلى رأس الهرم. وسياسات الدول تختلف في هذا المجال من حيث المعالجة، فأحياناً يأتون إلى القاعدة من التلامذة والموالين، كما هو الحال في العراق مثلاً أيام الطاغية، إذ كان سلوك النظام مع الإمام الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) بأسلوب يختلف عن غيره، لأن فاعلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام الصدر كانت عالية الوتيرة، قوية النبرة، فلا مناص من أن يعمد إليه بذاته، ولذلك قُتل. على العكس من ذلك في التعاطي مع المرجع الأعلى في وقته الإمام الخوئي (رضوان الله تعالى عليه) حيث عمدوا إلى تلامذته فضيقوا الدائرة عليه، فمجتهدٌ هنا يقتل، وآخر هناك يعتقل، وبطبيعة الحال أن الرمز يضعف في مثل هذه الحال، كما أن قدرته على التأثير تضعف. والقضية مدروسة ولا تحتاج إلى توضيح لمن يعي.
السيدة المعصومة (ع) في خضم المحنة:
من هنا وجدت السلطة العباسية أن الأسلوب الأنجع مع الإمام الكاظم (ع) هو القمع المباشر، والتعامل مع رأس الهرم مباشرة، فعمدوا إلى سجنه. وقد عاشت السيدة المعصومة (ع) تلك المحنة، وهي ترى أباها الإمام المفترض الطاعة بهذه الحالة.
إن الهجوم على بيت الإمام علي (ع) وأخذه ملبباً حدث مرة واحدة، لكن الإمام الكاظم (ع) اعتقل أكثر من مرة، وهو مقيد القدمين، مغلول اليدين، وللحديد خشخشة، وكانت السيدة المعصومة (ع) ترى ذلك بأم عينيها.
هذه هي السيدة المعصومة (ع) وهذه الحياة التي عاشتها. ومن الغريب أن تجد البعض يشغل نفسه بتسليط الأضواء على عدم زواجها مثلاً، والأجدر بأمثال هؤلاء أن يشغلوا أنفسهم ببناتهم ومجتمعهم الذي يعجّ بالعوانس، وأن يبحثوا عن الأسباب التي تقف وراء عنوستهن.
لقد عاشت السيدة المعصومة (ع) أكثر من خمسة عشر عاماً مع أبيها وهي تراه ينقل من سجن إلى سجن، فكيف يمكن لها أن تُزف وتتزوج وسط هذه المأساة؟ إنها لم تعش سوى ثلاث سنوات من عمر طفولتها في حجر أبيها، ثم فقدته بتلك الطريقة المأساوية، فكان يعتقل اليوم ويعاد غداً، ثم يعتقل ويمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم ينقل من هذا السجن إلى ذلك، ومن تلك المدينة إلى تلك، وهكذا.
ثم إنها كانت ربة الكمال في علمها وعبادتها وأخلاقها ومبدئيتها. فبدل أن يقرأ هؤلاء الباحثون حدثاً مضى لا يقدم كثيراً ولا يؤخر، عليهم أن يقرأوا ما نحن فيه اليوم، فأي بيت لا يشتكي من هذه الحالة، بل المصيبة والطامة؟ ومن يستطيع أن ينكر مشكلة العنوسة في مجتمعاتنا إلا الأصم أو الأبكم أو الأعمى أو الميت الذي لا حراك فيه؟ فماذا يثمر البحث اليوم في زواج المعصومة (ع) أو عدم زواجها وقد ذهبت الدنيا بأهلها؟ أليس الأجدى والأجدر بنا أن نهتم بالأحياء؟
إننا لا نعدم الجواب عن هذا الأمر، ولدينا أكثر من جواب، لكن هذا ما يتناسب مع حالنا نحن، فلنسأل أنفسنا عما فعلناه، وما قدمناه، وما هي حلولنا التي وضعناها كمؤسسة دينية على أقل التقادير؟ وأين هي الإسهامات والدراسات والمساعدات التي قدمناها؟ وأين هي ورش الأعمال التي تُصلح من أوضاعنا؟
أقول: إن السيدة المعصومة (ع) شاطرت أباها ذلك الوضع وتلك المحنة.
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع مهم، فإذا نشط في خلايا الأمة نشط الوضع العام، وإذا خمل بلغ بنا الحال إلى أسوأ ما يمكن، فلا يستطيع أحدنا أن يأمر زوجته بالمعروف أو ينهاها عن المنكر، ولا يستطيع أن ينهى ولده عن شيء.
قد يقول البعض: ومن الذي سلطكم على عباد الله لتأمروهم وتنهوهم؟ نقول: ومن قال إننا نتحرك في هذا الميدان بناء على التسلط؟ إنها ليست سوى موعظة، يرضاها من يرضاها ويرفضها من يرفضها. وعندئذٍ لا يسوغ لأحد أن يتهم رجال الدين أنهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فالبعض يروقه من خلال الوتسب وغيره أن يهاجم المؤسسة الدينية حال أنه لا يدرك ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضاً من واجب الجميع، وليس رجال الدين أو المؤسسة الدينية فحسب.
ولاية العهد للإمام الرضا:
ثم جاءت مرحلة ولاية العهد للإمام الرضا (ع) وتحركت الأمور بشكل آخر، فكانت نقلة نوعية في مسار مدرسة أهل البيت (ع) أحدثها الإمام الرضا (ع) بقبوله ولاية العهد. ومن أهم ثمارها تنفس أتباع مدرسة أهل البيت (ع) الصعداء بعد الظروف التي اكتنفتهم أيام الإمام الكاظم (ع) إذ بلغت بهم الحال في تلك الفترة أن الإمام (ع) كان ينهاهم أن يسلموا عليه إذا ما رأوه في الطريق كي لا يؤخذوا به.
من هنا أيضاً نقول: إننا إذا أردنا أن نقرأ حياة أحد الأئمة (ع) فلا بد أن نقرأ المنظومة كاملة، لأن أهل البيت (ع) كالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، فحياة الإمام المتأخر تفسر حقيقة مواقف الإمام المتقدم، والعكس صحيح. هذا إذا ما أردنا أن نتحرك بوعي.
فمن الأمور التي قام بها الإمام الرضا (ع) في هذه المرحلة وضع القواعد العامة لمدرسة أهل البيت (ع) في المحطات التي مرّ بها عبر مسيرته من المدينة حتى خراسان، فهذا الطريق الذي يحمل الهوى والحب والرغبة والولاء لأهل البيت (ع) كان ثمرة لمسيرة الإمام الرضا (ع). ومن ضمن المناطق التي مر بها مرو، والحديث فيها يطول.
شرف مدينة قم:
أما مدينة قم فقد انتهت إليها مسيرة السيدة المعصومة (ع) فوضعت رحلها هناك، ومكثت سبعة عشر يوماً بعدد سني عمرها، قضتها في العبادة، وكانت نحيلة الجسم منهدّة الركن كأمها الزهراء (ع).
كانت السيدة المعصومة (ع) قد وردت ساوة، وكان أهلها من النواصب، والنواصب غير أهل السنة، ونحن نفرق بين النواصب وبين أهل السنة، فالنواصب ملعونون بلا إشكال لأنهم أعداء أهل البيت (ع) أما أهل السنة فطائفة كريمة لا تتصف بهذا الوصف من بغض أهل البيت (ع)، بل إنهم يحبون أهل البيت (ع) أشد الحب.
فأهل ساوة كانوا من النواصب الذين عرفوا ببغض أهل البيت (ع) وقتلهم وتشريدهم والتنكيل بهم. وقد قام أهل تلك المنطقة بمهاجمة ركب السيدة المعصومة بغتةً، فقتل فيه من قتل ممن كانوا معها.
بعد تلك الحادثة الأليمة، ومجيء السيدة المعصومة إلى قم ووفاتها هناك أصبح لمدينة قم من الشأن ما نراه اليوم، فهي حوزة كبرى لا يشق لها غبار. ومع شديد الأسف أن هذه الحوزة تحارب اليوم من الخواص، بل من خواص الخواص قبل البعيد. فلماذا؟ ولصالح من؟ ولكن لا ترمى إلا الشجرة المثمرة.
إشراقة الأمل:
أشرقت بالنور في مولدها فاطم بنت التقى والسؤددِ
فتغنى الطير في جوّ الفضا وتهادى الحبَّ أهل المسجدِ
وبدت شمسُ الضحى باسمةً من سنا بنت الهدى في المشهدِ
فإذا رمتم علاً في عيشةٍ فلنصلِّ فرحةً للمولدِ
مولدٌ من قبسه لاحت لنا فاطمٌ كالبدر بين الأسعدِ
فارفعوا أصواتكم من أجلها بصلاةٍ أصلها من أحمدِ
نسأله الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.