نص خطبة: الزهراء المؤسِسة الأولى لحركة الإصلاح بعد الانحراف

نص خطبة: الزهراء المؤسِسة الأولى لحركة الإصلاح بعد الانحراف

عدد الزوار: 732

2012-04-10

 

تقول الزهراء (ع) : «والأمر بالمعروف مصلحة للعامة» ([3]).

تمر بنا هذه الأيام ذكرى شهادة الصديقة الطاهرة المظلومة المقهورة، والمطلوب أن لا تمر بنا مروراً سهلاً، دون التوقف عند مجموعة من النقاط الهامة، وهي إما أن تكون الزهراء (ع) قد أسست لها، أو أخذت بها إلى مواقع أخرى.

فالزهراء (ع) هي المؤسس الأول لحركة الإصلاح في الأمة بعد الانحراف، فكلنا يعلم أن النبي (ص) جاء بالرسالة الخاتمة، خاتمةً لكل التشريعات، غير أن الأمة أبت إلا أن تتنكّب الطريق، وتأخذ لنفسها طرقاً متعددة لم يقم عليها دليل من كتاب ولا من سنة. إلا أن الزهراء (ع) شخصت مبكراً حالة الانحراف؛ لأنها استنطقت المدلول القرآني في نصه الصريح: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ([4]). فالانقلاب في وسط الأمة هو نبوءة السماء، والزهراء (ع) وضعت يدها على هذه المفردة، لذا اندفعت منذ اليوم الأول لتضع حداً أمام تلك الاندفاعة نحو المجهول.

وهذا المسار الذي اختطته الزهراء (ع) تدرّج من مرحلة إلى أخرى، وشكّل مظاهر واضحة وبينة تثبّت الحجة على كل من كان في عصرها، من مهاجرين وأنصار ووافدين.

كانت المرحلة الأولى تتمثل بإرسال الوسيط بينها وبين الخلافة المستحدثة بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) فيما يتعلق بمسألة الإرث، وقد أسهب علماؤنا وخطباؤنا وكتابنا والمحققون في هذه المسألة بما لا يستوجب مني ولا من غيري أن يخوض في غمارها، لأن ما جيء به فيه الخير الكثير.

أما المرحلة الثانية فتمثلت بالمواجهة المباشرة من خلال اجتماع خاص بينها وبين الرجلين، وقد أقامت ـ خارج حدود الفضاء المفتوح ـ الحجة عليهما، لا سيما الرجل الأول، من خلال ما ثبتت به الحق بآيات قرآنية صريحة ونصوص مباشرة، وفعل مباشر، وتقرير واضح بيّن لا لبس فيه من نبي الأمة محمد (ص) قبل وفاته.

وانتظرت الزهراء (ع) الأيام العشرة بعد وفاة النبي (ص) لتدلي بأول خطاب، وتخرج من الدائرة الضيقة إلى الدائرة الأوسع، عندما باشرت الخطاب مع آحاد الأمة رجالاً ونساءً، وهو الخطاب المباشر الذي تكفلت كتب التاريخ بنقله وإيصاله للأمة، وإن اعتراه بعض الغموض والتقطيع في بعض مفاصلة، وربما كان ذلك جرّاء اجتهاد في تشخيص المصلحة ممن حاول أن يدون أو يقرأ أو يخرّج. "وهي المرحلة الثالثة"

ثم جاءت المرحلة التي تليها، وهي المرحلة الرابعة، فتمثلت بإعلان حالة الغضب على ما انتهت إليه الأمور بالنسبة إلى الرجلين، وهو ما تناقلته كتب العامة أيضاً، واستغرقت في نقلها بشواهد كثيرة، لو أردت أن أستعرض مصادرها لطال بكم المقام، فهي تنوف على المئة مصدر، تنصّ كلها على أن حالة الغضب، وإبراز حالة عدم الرضا، كانت واضحة وبينة في هذه المرحلة.

وفي المرحلة الخامسة حاولت أن تنقل تلك الحالة من الرفض الخاص إلى الرفض العام، أمام الجمهور من المهاجرين والأنصار، لذا جاء خطابها العام التام، المشخِّص، الواضع للنقاط على الحروف.

ولما لم تجد صدىً، ولا أذناً سامعةً من مهاجرين وأنصار، عمدت إلى الوصية التي أبرزت من خلالها عدم الرغبة في حضور الرجلين في مراسم تشييعها.

فالزهراء (ع) واحدة من الأولياء على مسيرة الأمة، ولكن لا بمعنى الإمامة، وقد واجهت الكثير من المصاعب، بل شاطرت النبي (ص) تلك المصاعب والعقبات التي اعترضت مسيرة الرسالة الحقة، ولا بدع في ذلك، فما من عظيم إلا وتعترض طريقه الكثير من العقبات، وما من مصلحٍ إلا وتقف أمامه الكثير من العوائق، لكن العظيم هو من يستطيع أن يتجاوز ويلقي بتلك العقبات وراء ظهره، لذلك لم يثبت من العظماء إلا القلة، لأنهم الذين شخصوا ثم استعرضوا ثم أحدثوا حالة التجاوز والتغيير، والزهراء (ع) من أولئك الذين هم على رأس القائمة.

لقد تعرض الأنبياء للكثير من الأذى، ويكفينا النبي محمد (ص) شاهداً على ذلك، حيث يقول: «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» ([5]). ولم يقل ذلك وهو في صحراء أفريقيا، ولا في تخوم آسيا، إنما قالها بين ظهراني المسلمين، والمقصود بالدرجة الأولى هم الذين سمعوا منه، أو عاشوا معه، أو رأوه، على مختار بعض رجال العلم من الفرق والنحل الأخرى.

كما كان الإمام علي (ع) على رأس الأولياء الذين تعرضوا للأذى، وبأصناف متعددة، خذها من الغدير وما جاء بعده، حتى آخر يوم من حياته، وهو الإمام الذي يقول: لقد ملأتم قلبي قيحاً. فلم يتسنَّ له من خلال الخلافة الفعلية الظاهرية أن يغير أبسط الأمور، أو أن يتدخل في واحدة من الجزئيات التي سنها من تقدمه، وتلقتها الأمة بالقبول والتفاعل.

ثم نخطو خطوة أخرى باتجاه الأولياء الذين حملوا راية التغيير والتصحيح في مسار الأمة الفكري أو العقدي أو الاجتماعي أو السياسي، وعلى رأس أولئك إمام الأمة (رضوان الله تعالى عليه)، الذي صبّ عليه الكثير من الأذى والابتلاء، إلا أنه استطاع أن يصمد ويتخطى، وهو القائل مقولته المشهورة: إن العظيم من يصنع الظرف، لا من يصنعه الظرف. ولذلك عندما تقرأ المشهد من حولك تجد أن بعض العظماء اليوم الذين نعيشهم ونعيش شطراً من حياتهم، إنما يتمثل جانب العظمة فيهم بالنزو على حركة الأمة هنا أو هناك، أما هم فلم يرسموا نهجاً، ولم يحدثوا تغييراً عندما ندقق في حقائق الأمور.

ثم هنالك من المصلحين الفكريين في وسط الأمة كالإمام جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، ذلك الرجل العظيم الذي أحدث تغييراً في الفكر في المدرسة الإسلامية عامة، فالذين اقتربوا من حياض مدرسته وتأسيساته، استطاعوا أن ينطلقوا بالنص العقدي والفقهي والفكري إلى ما يقترب من مساحات الناس وما هم فيه من حاجة، لذا أحدث تغييراً في واحدة من أهم القلاع الإسلامية فكراً وعلماً وأدباً، ألا وهي الجامعة الأزهرية، فقد أحدث تغييراً في تركيبه المعنوي، وما من عظيم تخرج من هذه الجامعة إلا بسبب ما أحدثه من تغيير. نعم، هنالك من يتمسك بما لا يمكن أن نخوض في حدوده، ولكن ينبغي ونحن في هذه المرحلة أن لا نقف عنده كثيراً.

وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هي أسباب الصراع القائم بين أصحاب الفكر المحافظ والفكر الإصلاحي؟ وهو سؤال مشروع.

أيها الأحبة: إن ما يحصل في الساحة اليوم يتصور بعضنا أنه وليد الساعة، وهذا ليس بصحيح، فالصراع بين التيارين الإصلاحي والمحافظ فكراً، هو وليد قرن متصرّم، أو ما ينوف على قرن من الزمان، وقد عاش مخاضه أرباب الفكر السني على إطلاقه، وكذلك لم يكن بمنأىً عنه أرباب الفكر الشيعي. فهناك في معاقلهم العلمية، وهنالك في حوزاتهم العلمية، ومن أراد دليلاً، فما عليه إلا أن يدخل في بعض المواقع، أو يرجع إلى بعض المصادر، ليضع يده على دليل قاطع لا لبس فيه ولا غبار عليه، على أن الصراع لم يكن وليد الساعة. نعم، إنه يشتد ويضعف بين الفينة والأخرى، بسبب عوامل تتقدم هنا وتتخلف هناك في أماكن أخرى، لكن الصراع على أشده، له منطلقه، لكن النهاية تبقى بيد من يحمل فكراً ووعياً والتفاتاً ويقظة لما يجري من حوله كي يتخطى الأسباب المعترضة.

والجواب: أن هنالك أسباباً عديدة هي التي تُفعّل الحالة بين أصحاب هذين الخطين، ومن ذلك:

1 ـ حالة الشك المسيطرة على أصحاب الفكر المحافظ في أسس ثقافة الفكر الآخر، فهم يشككون في ثقافة المتنورين والإصلاحيين الذين يرغبون في إحداث تغيير في مسار الأمة، بل الكثير من مساراتها، وهذه الحالة من الاستسلام للشك، المسيطرة على جميع أجوائهم، هي التي أدخلتهم في هذا الصراع الذي دُفعت ضريبته قاسية، منذ بدايات القرن المنصرم وحتى نهايته، بل حتى هذه السنوات الأولى التي نقطعها من بدايات القرن الجديد. فالضرائب كثيرة، وربما امتدت في بعض الأحيان إلى الدماء.

2 ـ قداسة الموروث عند المحافظين، مما يولد النظرة إلى القادم على أنه عدو كاسر، فالذين يحملون موروثاً ويتحصنون وراءه، يشعرون ـ وهو مما لا دليل عليه ـ أن هذه الجماعة، حيث إن ثقافتها غير معلومة المصدر، فإن ذلك يسبب حالة يترتب عليها هذا الجو من التحفز للقادم، فيتساءلون عما يجول في أدمغة تلك الجماعة، وما هو الجو الذي يرسمه الخيال المشفَّر بلغة الأدب؟ وإلى أين سيذهب هؤلاء؟ فيدخلونهم في دائرة العدو، ونحن نعلم أن الإنسان عندما يستعدي إنساناً آخر، فإن الحال من العداوة ستكون أسوأ مما لو كانت بين ذئبين. ورحم الله من قال:

وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ      ويأكل بعضنا بعضنا بعضاً عياناً

فالذئب يترفع أن يلغ في دم أخيه الذئب، إلا أن الإنسان، إذا ما استعدى طرفاً مقابلاً، فإن المستهدَف سيكون ضحية مضرجة بدمائها، وربما يساق إلى محافل لا يعلم متى ينتهي منها.

3 ـ الخوف عند الجماعة المحافظة من فقدان المكتسبات المادية والرسمية والاجتماعية، فالإنسان المتمظهر بالدين والهدوء والسكينة والوقار تهشّ له النفوس وتطرب، مما يولد له مكاسب، فيتحول إلى الثقة حتى في دين الناس، فتكون أموالهم ومقدراتهم بين يديه، حتى تصل الحال في بعض الأحيان أن يزوج فلاناً أو لا يزوجه، وتبقى الأمور رهينة هذا الجانب.

فهؤلاء يشعرون أن الفكر الإصلاحي أو المنفتح أو المتنور سوف يخلخل هذا البناء من خلال الولوج في أساساته، لذا يندفعون من أجل المحافظة على هذا المكتسب الذي قد يكون وصل إليه الكثير منهم لا عن وجه شرعي مفترض.

4 ـ رفض الآخر لأنه يتسبب في تعرية الذوات الرمزية المقدسة في الخط المحافظ، فنحن نعلم أن الإنسان عندما يتقلب مع مرور الأيام، وتكثر الأجيال، ويكون التسليم للواقع على ما هو عليه، فإن ذلك يوجد هذه الحالة، فالمكتسبات تصبح متراكمة، والأشخاص يتحولون إلى ذوات مقدسة، يصعب أن يتخطاها الإنسان، فإذا ما قال قُبل قوله، وترتبت عليه الآثار وإن كان القول شططاً، حتى تصل الحال أن يقال: قال فلان، ولا يقال: ما الذي قال؟ وهذا ما قصم ظهر علي (ع) حيث كانت النظرة للقائل وليس للمقول. وهي واحدة من أصعب الأمور.

5 ـ الشك في أن التيار الإصلاحي لا يمتلك التجربة على مستوى قيادة الأمة ولا الكوادر، والسبب في ذلك شبابية أنصار هذا الخط. ونحن نعلم ـ أيها الأحبة ـ بما لا يدع مجالاً للشك، أنه ما من تغيير عرفته البشرية في مسيرتها إلا والرموز فيه هم من هذه الطبقة، وحتى الذين يسعون من أجل التضحية في سبيل ذلك هم من الطليعة الشبابية، والسر في ذلك أن الشاب في حداثة سنه لا تتعلق برقبته الكثير من المسؤوليات، على العكس مما لو تقدم في العمر، حيث يكون أبا الأسرة، والمسؤول عن ذوات من حوله، مما يتسبب في تثبيت حركته وإثقالها.

اقرأوا تاريخ حياة النبي (ص) ... ستجدون أن الذين وقفوا حوله هم من الطليعة الشبابية، وقلة من الذين ناصروه ممن عاشوا حدَّ الكهولة أو تجاوزوها بقليل، وعلى العكس من ذلك من ناصبوا النبي العداء، ومن كسروا رباعيته، وألقوا الحجر والشوك في طريقه وعلى جبهته، فقد كانوا ممن تقدم بهم العمر، وممن يرتجى أن يكون في رؤوسهم الحكمة.

فهذه لا تشكل مبرراً للمحافظين أن يجهزوا على المسار الإصلاحي، لا لشيء سوى أنه يعيش حالة من الشبابية، ولم تخطُ به بعد خطوات التجربة الحياتية.

بل إن هنالك دليلاً على هذه القضية، وهي أنه عندما ارتحل النبي الأعظم (ص) واقتُرح من اقتُرح للخلافة بعده، خارج حدود النص الشرعي في غدير خم، افتُرض الإمام علي (ع) في من افتُرض، ففتشوا عن عيب يقعد به عن الإمامة، فما وجدوا فيه إلا حداثة السن، وهو شيء من الموروث المستصحب من السابق.

6 ـ غياب لغة الحوار بين الأطراف، وليد التعصب الأعمى وإلغاء الآخر، فالمحافظون يطاردون الإصلاحيين في كل زاوية تسنى لهم فيها الوصول إليها، والقسوة منهم أكبر من قسوة الإصلاحيين تجاههم، فالإصلاحيون إلى اليوم، ربما يتحركون في مساحة النقد الأدبي، غير أن المحافظين يستفيدون من القدرات والإمكانيات التي سلطوا عليها بحق أو بغير حق، في سبيل استئصال شأفة الإصلاحيين في كل مكان وبقعة فتشت عنهم فيها، فهم في أكثر من قضية وقضية يتأرجحون بناءً على هذا الميزان.

7 ـ ما يلعبه الاستعمار من دور واضح وفاضح في زرع الصراع بين الجماعة الواحدة وأتباع المذهب الواحد، مما لا غبار عليه، اللهم إلا أن يكون المستقرئ أعمى العين، أصم الأذن، وإلا فمن يمتلك بصراً وبصيرة وسمعاً وقراءة ممكنة فإنه يستطيع أن يهتدي لذلك ويستدل عليه.

8 ـ نشر الشائعات بكل أشكالها ضمن خطة ممنهجة، لا كما يتصور البعض أن هناك عشوائية وعبثية تسوس المشهد، وتصل به إلى ما وصل إليه، فهنالك منهجة واضحة وبينة هي التي تقف وراء إشاعة الشائعات، لذا نجد أنها تكثر أمام الرموز، أما من لم يصلوا إلى مقام الرمزية فربما يكونون بمنأىً عن حالة التشكيك والتشهير والشبهات المثارة، فبقدر ما يصل الإنسان إلى مرحلة ما من مراحل الرمزية، ويرتقي في سلمها، بقدر ما يُرمى من الإشاعات، حتى لتجد أن أصحاب الفكر التضليلي يصلون إلى حد التخلي عن الثوابت ليصلوا فقط إلى هدف وغاية مرسومة مسبقاً.

9 ـ العداوات الشخصية المستصحبة، وليد الموروث المستصحب من الآباء، أو التكتلات والتنظيمات والتحزبات. وهو أمر موجود وله أسسه، وقد يكون مصنعاً في بعض الأحيان، وتم تفريخه ليبثّ بين أبناء الأمة.

10 ـ التشكلات القادمة ذات البعد النفعي والمصلحي، مما يؤدي إلى غياب المبادئ والقيم. فقد يندفع الإنسان أحياناً في اتجاه ما، لا لقناعةٍ فيه، لكن لأنه يعلم أن المنفعة الظاهرية المادية سهلة المنال من هذا الطريق، بيد أنها تعترضها الكثير من العقبات في الاتجاه الثاني، لذا يسلك هذا المسلك، لا على أساس قناعة مطلقة، لا في الرمز ولا في الفكر ولا في الجماعة، إنما يتحرك ليصل إلى هدف، وهذا الهدف في الكثير من الحالات هو أن يرتقي من حالة الكادرية إلى الرمزية، كما لو كان في تنظيم معين، أو أن يرتقي من حال الخفاء إلى حال الظهور والبروز، وهو ما يشغل ذهنية الكثير من الناس.

ومع شديد الأسف، تجد حتى أولئك الذين لا يَعدُون مساحة (الطَحْلبة) يحاولون أن يشكلوا لأنفسهم رمزية، رغم أن الآليات لصنع الرمز لا تتوفر في أدنى مقاييسها في ذات الواحد منهم. وكما قلنا فإن التشكلات القادمة قاتلة ومؤذية.

11 ـ والأهم في كل هذه الأمور هو الابتعاد عن الوازع الديني في الأقوال والأفعال. فإذا ما تجرد الإنسان عن هذا البعد فدونك ما يحدث ويترتب عليه.

لقد قلنا: إن الزهراء (ع) حاولت أن ترسم معالم هذا الطريق الطويل بعد أن وضعت حجر أساس متين له، ولكن من حقنا أن نسأل: من الذي دفع ضريبة هذا المنهج الذي وضعته الزهراء (ع)؟ الجواب: أن الزهراء (ع) كانت أول من دفع ضريبة ذلك المنهج التغييري في وسط الأمة.

ولو قمت برصد لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة اليوم، لتبحث عن اسم فاطمة (ع) ـ وهي أكمل إنسانة عرفها الوجود ـ ثم حاولت أن تضع مقارنة بينها وبين نساء لا يعدلن شسع نعل لها، لوجدت أن المفارقة كبيرة، لا لشيء إلا لأن هؤلاء يتمسكون بموروثٍ موصل لمصلحة مادية صرفة، بيد أن الزهراء (ع) تمثل ـ في ما تمثل ـ الكمال المعنوي، الذي يبدأ بالسماء ويختتم بالسماء.

لقد استشهدت الزهراء (ع) من أجل هدف، وهو أن ترفع من قيمة الأمة في أسسها، وما يترتب على تلك الأسس من أبعاد.

وهي في مشهدها المأساوي صورة مستقلة، لم يستطع حتى مشهد كربلاء أن يلغي ما فيه من مأساوية، لأن بعض مفرداته لم تتجسد في كربلاء، على عظم الحدث في كربلاء. فالجماعة تخلوا عن عروبتهم، فضلاً عن إسلامهم.

ها هو النبي (ص) لما يُقبر بعد، والجلبة في مسجده، وهو مسجىً في حجرته، والفاصل بينهما جدار، وأهل بيت النبوة يستغرقون في مشهدهم الجنائزي، والآخرون يتداولون فيما بينهم ما عسى أن يكون... علي (ع) يُجري المراسم الأولى على النبي (ص) والجماعة يترقبون.

وهكذا ألحد النبي (ص) في ملحودته، وراحت الأمور تأخذ مساراً آخر ومنعطفاً جديداً. ورحنا نسمع أن أربعين حزمة من الحطب ألقيت على باب فاطمة وعلي (ع) ليحرق، وهذا يعني ـ بلغة اليوم ـ أن أربعين حزباً وتشكيلاً ساهم فيما جرى، ولم تكن العملية مستندة إلى فرد، فالنص التاريخي الصريح أن تلك الجماعة التي جاءت لم تستثنِ أسماءً لها شيء من الرمزية، بل إنهم شاركوا جميعاً، لكن واحداً منهم كان يحمل بيده سوطاً وآخر كان يحمل السيف مقلوباً، مما يعني أن الأمر لم يكن وليد ساعته، وأن الظروف تدافعت بينها وأحدثت ما أحدثت خارج إرادة الإنسان، إنما كان أمراً مدبراً مبيتاً قبل ذلك بكثير.

وقف الرجل عند باب علي وفاطمة (ع) منادياً: افتحوا الباب وليخرج علي، وإلا أضرمت النار، فقيل له: إن في الدار فاطمة  ([6]) ! قال: وإنْ. وبالنتيجة كان المشهد مأساوياً.

وقامت الزهراء (ع) تحمل آلامها. ولكم أن تتصوروا امرأة في الربيع الثامن عشر من عمرها، قد أخذ الحزن منها على أبيها مأخذه، وبدأت الحمّى تنشب أظفارها جراء جهد بذلته في الأيام الأخيرة من حياتها.

إن تصوير حالة الهجوم كان على أكثر من نحو ونحو، وقد استغرق الخطباء والكتاب في ذلك. فهناك نص يقول: إن الرجل الثاني هو الذي باشر عملية العصر، وفي رواية أنه ضربها بالسوط قبل ذلك، ورواية أخرى أنه دفع السوط لغلامه فراح يضربها. وفي أخرى أن ابن الوليد هو الذي تولى رسم معالم المشهد عندما لكزها بنعل السيف في خاصرتها، لذا يقول البعض: إن الضلع المكسور كان بسبب ذلك، لكن الرواية المشهورة أن الرجل قال: عندما اقتربت من الباب حاولت أن أدفعه فكانت تُدافعه ([7]) . وقد استغل الجماعة غياب علي (ع) عن الدار.

فالأمور إذن كانت محسومة، حتى لو جر الأمر إلى قتل الزهراء (ع) مباشرةً لارتكبت الجريمة.

كانت تدافع الرجل من وراء الباب، فرأى يدها من تحت الحجاب الذي كان على رأسها، فأخذ السوط وراح يضربها على يدها، ثم يقول: فأغشاني نور وجهها، فأخذتني الرأفة ثم تذكرت محمداً، فوضعت رجلي في الجدار، وظهري إلى الباب، وعصرتها حتى سمعت خشخشة أضلاعها. عندئذٍ هوت إلى الأرض، وسقط الجنين من بطنها، وصارت في حالتها الخاصة التي تطرأ على المرأة. وبلغ الخبر علياً (ع)، وسمع الجلبة، فجاء ليستدرك ما يمكن أن يستدرك، فأمر الرجل أن يلقى على علي (ع) عمامته، فاقتيد ملبباً.

ولكن الزهراء (ع) لم تقعد عن مواصلة المسيرة، لأن الهدف كان أسمى وأكبر بكثير. فقد قالت لجاريتها فضة: سنديني، وإلى صدرك فخذيني، فقامت والجنين على الأرض، فسارت وهي تحمل آلام الوضع، وآلام المسمار النابت في صدرها، والأضلاع المكسورة، والعين التي لطمت بيد أشقى الأشقياء على وجه الأرض. فلم تتخلّ عن علي (ع). كان المشهد أكبر من هذا وأكبر، ولا يمسح الآلام إلا الخلف الباقي من آل محمد.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.