نص خطبة:الدين بين التدين والعلمنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
في الحديث الشريف عن النبي الأعظم (ص): «إن أبواب السماء تفتح في أول ليلة من شهر رمضان، ولا تغلق إلى آخر ليلة منه»([2]).
ما هو الدين؟
في القرآن الكريم: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُوْنَ﴾([3]). فقد قيل: إن المراد بالصبغة هي صبغة الإسلام. وقيل: دين الله. وقيل: فطرة الله التي فطر الناس عليها.
والدين لغة: مصدر الفعل «دانَ» أي اعتقد، أو اعتنق فكراً ما، أو مذهباً بعينه، وسار وفق ركابه.
أما في الاصطلاح وما عليه الناس في الأعم الأغلب، فهو عبارة عن جملة المبادئ التي تدين بها الأمة، أو الجماعة من الأمم، اعتقاداً وعملاً. والعمل أيضاً على قسمين: العبادة الخاصة، والأفعال العامة.
وفي مدرسة الشريعة الإسلامية هنالك نظر خاص للدين وهو: الإقرار لله بالعبودية والتسليم بالوحدانية. ولهذا الأمر قواعد منظمة يبنى على أساسها ويُنتزع المصطلح، وفق ما جاء به الأنبياء والرسل في باب الأحكام والعقائد والآداب، وهذا ما يمثل المواد الأولية لتشكل جماعة متبنّية ممارِسة متعاطية متفاعلة، ينتزع منها مفهوم الدين ويضاف إليها، فهنالك دين إسلامي، وآخر مسيحي، وهكذا.
أما العلمانيون فلهم رأي آخر في الدين، لأنهم يديرون ظهرهم للدين، على تفصيل مرّ الكلام فيه طويلاً قبل فترات من الزمن من خلال هذا المنبر الشريف. فهؤلاء يرون أن الدِّين عبارة عن موروث قديم، شغل مرحلة من الزمن ثم تجاوزه العلم، وطوت صفحته معطيات العقل البشري، فأُجهز عليه وانتهى دوره. فبعد أن حصل التطور في العقل البشري، تم تنحية الدين عن المشهد الإنساني، فبات الإنسان بلا دين، فلم يعد للدين موطئ قدم في ساحة السياسة التي تقوم بإدارة شؤون الناس، ولا علاقة له بالمجتمع في نظم أمره. فالناس فيما بينهم يتبانَون على ما يريدون ويسيرون وفق ما وصلوا إليه من نتائج بشرية.
الفرق بين الدين والمتدين:
إن الدين واحد بلا شك، وهو الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾([4])، ولكن عبث العابثين أوصل الأمور إلى وضع آخر، ففي نظرهم هنالك دين (قديم) وآخر (جديد). وعندما تسألهم عن الدين الجديد، ما هو؟ ما هو مصدره؟ وما هي مقدماته وغاياته؟ لن تجد لديهم إجابات مقنعة. غاية ما تجد عندهم أنهم يريدون ديناً مخففاً متحرراً من بعض القيود المرتبطة بالأصول والعقيدة، ومن بعض القيود الأخرى المرتبطة بالممارسة، كالعبادة والعمل.
والتدين أمر فطري، حتى العلماني يقول بهذه الحقيقة، بل قد يدّعي التدين أيضاً، ولكن ليس وفق ضوابط الدين الذي تراه أنت. إنما يلتزم ببعض النُّظم. فهو بالعنوان العام متدين، ولكن لو تأملت ما وراء كلامه ورؤيته لوجدت أن المقصود غير ذلك، والواقع المراد هو تنحية الدين بكل صوره من جميع زوايا المشهد.
أما القرآن الكريم فيقول: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله﴾([5])، فالله تعالى خلق الإنسان بهذه الصورة، أي أنه خلق لديه الدافع في البحث عن ملاذ آمن، ولا يجد سوى الدين. فأنت تجد حتى العلماني، الذي أعلن الثورة عن الدين، وحاول الإجهاز عليه، لا يستطيع أن يتخلى عن بعض مظاهره. وهذا يدل على أن نواة التدين موجودة في قرارة النفس الإنسانية، لكن الأهواء لها الأثر الكبير في حرف العناوين عن حقائقها، وهو ما سنأتي على بيانه لاحقاً.
ومن هذا المنطلق أقول: ليس من الصحيح أن نضع خطين متقاطعين على الإنسان الذي يدّعي العلمانية في مقابل الدين، بل علينا أن نترك المساحة أمامه وندخل معه من خلال المنافذ التي تقرّب ولا تبعّد، وتجمع ولا تفرّق، إذا أردنا الرشد للآخر، وهي مسؤولية المصلح.
قد يقول قائل: إنّ القاعدة في الإصلاح أن يقوم الآخر بسؤال أهل الذكر، من أنبياء ورسل وأئمة وعلماء، فما شأني أنا بذلك؟ أقول: لا ليس كذلك، فأنت سفير الدين في أي مكان كنت، وسفير العائلة والوطن حيثما حططت رحالك، فينبغي أن تقدم الوجه الأجمل في هذه العناوين، أما أن توجد حالة من التأرجح هنا أو هناك، وتقلب المواجع هنا أو هناك، فهذا لا يؤدي إلى أي نتائج طيبة.
في الحديث الشريف: «كل مولود يود على الفطرة»([6])، أي أن أصل الإيمان ثابت مستقر، ولكن هنالك ما يولّد الانحراف والخروج عن المسار الصحيح، وأسبابه كثيرة، وقد تعرضت للكثير من تلك الأسباب في الكلمات التي ألقيتها في خدمة المؤمنين في هذا الجامع الشريف، وبينت الكثير من العوامل التي تأخذ المؤمنين من مساحة الإيمان والتمسك بالدين والالتزام والتردد على مواقع التدين، إلى المساحات الأخرى. ومسؤولية الإنسان الملتزم أن يبحث عن السبب، وهل يمكن تجاوزه وطرح البديل أو لا؟ وما ضاقت على الإنسان في هذه الحياة مسالك، وهي بعدد أنفاس الخلائق، فإن أُغلق بابٌ هنا، أمكن فتحُ أكثرَ من بابٍ في جهات أخرى، وإيصال الرسالة كما ينبغي.
فالدين يشكل وحدة واحدة لا تعدد فيها، لأن واضعه إلهٌ واحد، وهذا الإله عندما يشرع حكماً ويضع قانوناً، يرى الحكمة فيه من حين الإرادة إلى مرحلة تنجيز الحكم في عهدة المكلف. فحكمة الله سبحانه مستبطنة في ذلك الحكم الذي ألقي في عهدة المكلف.
هذا ما يتعلق بالدين، فهو مستقِرٌّ كما هو في الفطرة، وكما أنزله الله تعالى. أما التديّن فأمرٌ اكتسابي، إذ بإمكاني أن أكون متديناً أو لا، كما هو الحال في الجهل والعلم، أو الفقر والغنى، وهكذا دواليك. فالتدين أمر اكتسابي ينعكس على هوية وشخصية الإنسان، فإما أن يكون متديناً أو متحللاً، وإما أن يكون متديناً بالشكل الصحيح أو بالشكل الخاطئ المنقوص. فليس هنالك خيار ثالث، أي أن الفرد إما أن يكون متديناً وفق الدين الذي أراده الله تعالى، أو لا.
دوافع التدين:
المشكلة في التدين أنّ له وجهين: الأول أنه مكتسب بشري، والثاني أنه ديني إلهي. ومن هنا قد يلتقي الفرد المتدين مع الأصول الدينية بشكل كامل، أو لا. فهنالك متدين بالمعنى الدقيق الحقيقي للكلمة، وهنالك آخر ﴿يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾([7])، ويأخذ جانباً من الدين دون الآخر.
فأنت ترى بعض المتدينين ينحصر تدينه في جانب من العبادات فقط، كالصلاة والصوم والحج وأمثالها، أما في جانب المعاملات فتجده سيئ الخلق مع أهله، شرس الطبائع مع الناس، لا يحفظ الأمانة، يكذب في الحديث، يتآمر على الناس، ويعتقد أن الصلاة والصوم والحج تغطي على ذلك، وتسدّ مسدّه.
وترى في مسار آخر أن هناك من يبحث عن مطامع ومكاسب يفتش عنها في كل مكان، فتكون هذه العوامل الخارجية سبباً ودافعاً له في سلوك مسلك التدين. وهنالك مسار ثالث قد يكون مدفوعاً بدافع نفسي. ففي الحديث: «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»([8]). فهو يصلي لا لرفع عهدة التكليف، أو لتنهاه عبادته عن الفحشاء والمنكر المغيَّب لدى الكثيرين، إنما اعتاد أداءها، فلو تركها استوحش، كمن اعتاد التدخين أو غيره من العادات.
وهناك من هو معقد نفسياً، فالدِّين لديه تعبير عن عُقد معينة، وكل من تراه يضلل الناس فهو معقد نفسياً ولكن بصبغة دينية، لأنه لا يستطيع أن يضلل الناس دينياً ما لم يحمل صبغة دينية.
فعبد الرحمن بن ملجم الذي ضرب علياً (ع) وقتله، كان يقرئ الناس القرآن، وكان في المسجد قبل صلاة الفجر، أي قبل دخول علي (ع) أي أنه إما كان يصلي صلاة الليل أو كان يقرأ القرآن. لكنه كان يخفي سيفاً اشتراه بألف، وسمّمه بألف.
وقد يكن الدافع للتدين هو النزعة الاجتماعية، فالتدين وعدم التدين خاضع للمعطيات الاجتماعية، فتجد أن التدين عند الفرد يرتفع تارةً وينخفض أخرى، بحسب معطيات الوضع الاجتماعي. فإذا أخذ المجتمع اتجاه التدين ذهب الفرد بهذا الاتجاه، والعكس بالعكس. سواء كان هذا التدين من أصل الدين أم مختلطاً بالأعراف والتقاليد والعادات أو غيرها. فعلى سبيل المثال أن التعزية الحسينية من المستحبات الدينية، وليست من الواجبات، ولكن إذا لم يقم بها أحد الأفراد في وسط مجتمع يراها حتمية، فربما يُتهم بأنه عدوّ الشعائر الحسينية، بل عدو الحسين (ع).
وحاصل الأمر أن التدين في هذا المسار تابع للبيئة الاجتماعية، فلأنه في بيئة متدينة أصبح متديناً. ومن هنا نقول: من غير الصحيح أن تزدري أصحاب المذاهب والطوائف الأخرى، فلهؤلاء قراءاتهم وكتبهم وعلماؤهم وأدلتهم، ومقولة أن فلاناً في الجنة وفلاناً في النار، راجعة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي من شأنه، لا من شأن هؤلاء الذين ينسبون عباد الله، هذا إلى الجنة وذاك إلى النار. فهناك من كاتبَ الإمام الحسين (ع) وكانوا بالآلاف، لكنهم في النهاية لم يكونوا سوى عشرات حضروا مع الحسين (ع) في كربلاء، فهل من المعقول أن هؤلاء جميعاً سوف يدخلون جهنم؟ أم أن هناك ما حرف البوصلة وغيّر اتجاهها؟
فعلينا أن لا نتسرع في إطلاق الأحكام، فقد عانى المسلمون من التقلص الكبير بسبب التصنيف الفكري، فمن دين يشمل الجميع إلى مذاهب وفرق، ثم تفرقت المذاهب وانقسمت على نفسها حتى أصبحنا نتمحور حول جزئيات صغيرة وسط المذهب الواحد والجماعة الواحدة.
إن الله تعالى لم يعطِ وكالة لأحد ليصنف الناس على أساس دخولهم للجنة أو النار، فذلك من شأنه تعالى. فلا بد من الاحترام المتبادل لجميع أبناء الطوائف والمذاهب والنحل تحت ظل الإسلام وعنوان الإنسانية الأعم، وهذا ما يكفل للإنسان الحياة السعيدة في الدنيا والفوز في الآخرة.
وفي مسار آخر قد تكون الأوضاع الاقتصادية هي السبب في جعل الإنسان يميل للتدين، وقد تكون التقلبات الثقافية هي السبب، وربما تكون الصراعات العسكرية هي السبب، وكذلك التبدلات السياسية، وغيرها. ولذلك ترى أن بعض المناطق تابعة لمذهب معين في فترة من الزمن، لكنها في فترة أخرى تتبع مذهباً آخر. والعكس بالعكس.
والسبب في تأثير كل هذه العوامل:
1 ـ غياب العلوم واستحواذ الجهل على الناس.
2 ـ الاستبداد العام، الذي قد يكون من نظام أو من غيره.
والخلاصة: أن الدين مدرسة عظيمة، وهو عصمة وتوفيق، فينبغي أن نسير على أساس ذلك. وهنالك تدين إيجابي، وتدين سلبي. وسوف نتعرض لذلك بعد شهر رمضان إن شاء الله تعالى.
رحيل الشيخ جعفر الهلالي:
انتقل في هذه الأيام الشيخ جعفر الهلالي إلى جوار ربه، وهو من أبناء هذه المنطقة في الأصل، وهو مؤرخ وناقد للتاريخ، بل من القلة الذين لديهم القدرة على نقد التاريخ وحلحلته، وله كتاب في خمس مجلدات يعنى بهذا الشأن. كما أنه خطيب مبرز من جيل الشيخ الوائلي والطبقة الراقية المتقدمة في كلية أصول الدين وجمعية منتدى النشر.
وقد أجريت معه لقاءً في هذا الجامع الشريف في عام 1431 هـ وقد نشرناه على الملأ العام، وقد مر على اللقاء تسع سنوات، ولم نكن مهملين لشأنه، فلروحه ولأرواح علمائنا الماضين نقرأ الفاتحة.
ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال في هذا الشهر الشريف، وأن يشركنا في صالح أعمال الصائمين والذاكرين والمترددين على دور العبادة، وأن يعيد هذا الشهر على الأمة الإسلامية وهي في حال أحسن مما هي عليه اليوم.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.