نص خطبة:الخطباء بين الواقع والمأمول داخل دائرة النقد المباشر
منابع العلم هم أهل بيت النبوة (ع)، والطرق الموصلة إلى العلم هي الحوزات العلمية، ومن الحوزات العلمية الراعية لموروث أهل البيت (ع) حوزة قم المقدسة، التي أشارت إليها الروايات الكثيرة: «لو كان العلم منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس»([3]).
تحدثنا عن طرف هام من أطراف قم، وهي المدرسة الفيضية، وقلنا: إنها كانت مصنعاً لرجال العلم المتنورين، الذين ينظرون إلى الدنيا من حولهم بعين واسعة، على أنهم استطاعوا أن يصلوا إلى الدرجات العالية من العلم، فقهاً وأصولاً وفلسفة وتفسيراً وحديثاً وكلاماً وما إلى ذلك.
من الخصائص التي امتازت بها مدرسة قم أن الذين تقلبوا وتخرجوا من خلال أروقتها نأوا بأنفسهم منذ اليوم الأول أن يضعوا قدماً في ركب السلطان، أو يرتموا في أحضان الدنيا، لذا كان المشوار طويلاً جداً، لكن المشوار الطويل يتقضى عندما يبدأ الإنسان بقطع مراحل، ولم يكن هذا وليد ابتكار بقدر ما هو رجوع إلى أساسٍ وضع قواعده الثابتة محمد وآل محمد (ص).
في الحديث الشريف عن النبي محمد (ص) كما يروي صاحب كنز العمال: «العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا، فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا خانوا الرسل، فاحذروهم»([4]).
إن الحرص على جمع الدنيا من هنا وهناك، بطريق شرعي أو ملتوٍ، أو ملتوٍ فقط، ربما يكون هو المطية التي يمتطيها البعض، ممن يشذ عن أصول ومبادئ هذه المدرسة الطيبة الطاهرة، بطيب وطهر مؤسسيها.
ورجل الدين بما يمتلكه من ميراث ليس بالهين، وتقدير من عامة الناس ليس بالقليل، ربما يقدم له مجموعة من الأمور التي تسهل عليه الوصول إلى بعض المقامات، لكن السؤال يبقى: ماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد أن يجمع رجل الدين الدنيا من حوله؟ أو بعد أن يضع الواحد منا قدمه في بساط السلطان وطئاً، أو في ركابه وضعاً؟
أيها الأحبة: لن يقترب الإنسان من مساحة جهة ما إلا على حساب جهة أخرى، والمعادلة والموازنة تحتاج إلى الكثير من الحيطة والحذر التي ربما لا تكون في رصيد البعض منا.
لقد شخصت حوزة قم فيما شخصت أن الخطاب الذي يباشر أسماع الأمة ينبغي أن يرتقي إلى مدارج المسؤولية، لا لشيء سوى أن المرحلة بكل تعقيداتها تستدعي ذلك، وها نحن اليوم نتلمس تلك الحالة التي قرأها أولئك قبل عقود.
وهنا يأتي السؤال أيضاً: ثم ماذا؟ ما الذي أعددناه نحنُ من خطاب؟ هل أعددنا الخطاب المهلهل الذي لا يرتقي بذهنية الأمة إلى مراحل يفترض أن تكون الأمة قد قطعتها؟ أو أننا نبقى رهن دائرة ضيقة لا تقدم لنا إلا ما يتصف بصفة الضعف والهلهلة؟
إننا في مرحلة حساسة وخطيرة جداً، ويفترض أن نلتفت لها. فالبعض يرى أن ذكر مقامات أهل البيت (ع) وما يشفع بعد ذلك من الصلوات، هو المبلغ من العلم، ولا أقلل من أهمية ذلك، إنما أؤكده، ولكن ذلك ليس نهاية المطاف.
وهناك آخرون رأوا أن الحل في نسف ما كان متوارثاً، بطريق شرعي صحيح، أو يعتريه شيء من الضعف والغموض في بعض حالاته، لكنهم أرادوا أن ينفضوا أيديهم منه جملة وتفصيلاً.
وهناك جماعة أخرى حاولت أن تزاوج بين المسارين، لتخلص إلى نتاجٍ، من معطياته النهوض بعقلية المجتمع إلى مصاف عقليات المجتمعات من حولها، وهذا يستلزم تحريك الراكد ـ ولا أقول: الثابت ـ وكلنا يعلم أن الاقتراب من مساحته يستدعي دفع الكثير من الضرائب.
لذا توجهت حوزة قم الكبرى في أيامها الأولى نحو التأسيس لهذا المسار في وسط الأمة، وكان نتاجه كبيراً، وربما شكل حالة من الوضوح في بعض المواقع والميادين، غير أنه تعثر في مواطن أخرى.
ثم لنسأل، ومن حقنا أن نسأل: ما هو السبب؟ وما الذي يقف وراء ذلك؟
وبالعودة إلى المسارات الثلاثة، فإن المسار الأول حذرت منه روايات أهل البيت (ع) أشد التحذير. يقول الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه: «يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلم، يُصعد منها مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحدة: لست على شيء([5])، حتى ينتهي إلى العاشرة([6])، فلا تُسقطْ من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة، فارفعه إليك برفق([7])، ولا تَحمِلَنَّ عليه ما لا يُطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره([8])»([9]).
ويخاطب الإمام علي (ع) حذيفة بن اليمان قائلاً([10]): «يا حذيفة([11]) لا تحدث الناس بما لا يعلمون([12]) فيطغوا ويكفروا([13])، إن من العلم صعباً شديداً مَحمَلُه، لو حَمَّلتَه الجبالَ عجزت عن حمله([14]). إن علمنا أهل البيت سيُنكر([15]) ويبطل([16]) ويقتل رواته([17]) ويساء إلى من يتلوه([18]) بغياً وحسداً لما فضل الله به عترة الوصي، وصي النبي (ص)»([19]).
إن هذا الحال يأخذنا إلى مسار معين، فلا بد أن يكون لدينا نخبة من الخطباء، كما هو الحال في الشيخ محمد تقي الفلسفي، الذي أنتجته حوزة قم، وهو أحد الخطباء المجتهدين، وأصحاب الفكر الحضاري الذين قدموا مدرسة أهل البيت (ع) للشارع الشيعي العام، واستطاعوا أن يبنوا جيلاً، وأن يتخرج على عطائهم أجيال، وكثير من رموز القيادة اليوم على الساحة الشيعية اقتربوا من مأدبته ونالوا منها قسطاً، ويعد نتاجه اليوم مصدراً وموضوعاً للكثير من الدراسات العليا من الماجستير والدكتوراه.
فنحن نريد خطباء بهذا المستوى، كي يقدموا لنا هذه المدرسة المشفرة المحاربة المطاردة المستأصلة لأربعة عشر قرناً من الزمن، وبين أيدينا اليوم نعمة كبيرة من وسائل الاتصال وغيرها، فلا بد أن نقدم الوجه المشرق.
لقد أراد القميون أن يُرمموا الخلل في هذه الزاوية، ليبنوا جيلاً من الخطباء القادرين على العطاء، ومن قواعد مدرستهم في هذا المسار:
1 ـ الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العمل: فنحن نرى أن الخطيب في أول أمره، يتمنى أن يحظى بمن يسمح له بالمشاركة في إحياء المناسبة في حسينية صغيرة، لكنه بعد أن يوفقه الله تعالى لمقام معين، يتغير الحال، وقد يكون هذا التوفيق للامتحان، لأن الإنسان كثيراً ما يُستدرج، فعندما يرى إمام الجماعة أن عدد المصلين في ازدياد، قد يتصور أن رصيده ارتفع، في حال أن هذا بلاء وامتحان، وكذلك الخطيب الذي يشعر بالإقبال عليه، فيدور مدار المال وأخذ الأجرة. كل ذلك بسبب غياب عنصر الإخلاص لله تعالى.
رحم الله السيد محمد الهاشم الشخص، والد سماحة السيد هاشم، الذي كان يقرأ في الليالي العشر، فحصل ذات مرة أنه كان يقرأ في (الحليلة) وهو من (القارة) وفي الليلة العاشرة كان صاحب المجلس قد خصص 500 ريال كان ينوي إعطاءها للسيد، و50 ريالاً خصصها للصدقة، ووضعها في جيبه الآخر. وفي زحمة المجلس والعمل، وبينا هو يريد إعطاء المبلغ للسيد، وضع يده على المبلغ المخصص للصدقة وأعطاه للسيد، فأخذه ومضى وهو لا يدري كم المبلغ. فما وصل (القارة) إلا وشعر أن صاحب المجلس يطرق الباب، فلقيه السيد، وقد بانت عليه علائم التعب والإرباك، وكان يقبّل يديه ويعتذر، فسأله عن حاله، فقال: كنت أنوي إعطاءك 500 فأعطيتك 50 كنت قد خصصتها للصدقة. فقال السيد: هذا رزقي، وذلك رزق الآخرين، فإن كنت تنوي الصدقة فخذ ما خصصته لي واترك لي ما بيدي.
هذا نموذج أحسائي مؤمن خالص، فكم نجد من أمثاله اليوم؟
إننا لا نريد أن نجرح أحداً، ونشعر أن هناك الكثير ممن يستحق الاحترام، ولكن بإمكانكم أن تسألوا أولياء الحسينيات عما يصدر من البعض، ممن كان لأهل الحسينيات دور في إبرازهم وتضخيم شأنهم.
2 ـ الدراسة الحوزوية: فلا يتصور أن يصعد المنبر من لم يكن درس في الحوزة، ولا يعقل أن يخطب أمام الآلاف في بعض الأحيان، وهو لم يدرس في الحوزة. فلو أنه كان يقرأ في مجتمع صغير أو حسينية صغيرة، لهان الأمر، أما أن يقرأ أمام هذا المجتمع الكبير فلا بد أن تكون لديه حصيلة علمية حوزوية، لكي يفهم ماذا يقول، وكيف يقترب من الآية القرآنية أو الرواية الشريفة، وكذلك عندما يطرح المسألة الشرعية، ينبغي أن يكون في مستوى الطرح.
كما أن الدراسة الحوزوية وحدها اليوم لا توصلنا إلى نتيجة، فلا بد أن تشفع بالدراسة العصرية، فإن كان مجتمعنا اليوم يقبلنا، فلا نتوقع من الجيل الآتي أن يقبل القادمين منا، وهم ليسوا مسلحين بهذا السلاح.
3 ـ توسيع دائرة الثقافة: فحين يسافر البعض، ويدخل في بعض المكتبات، أو يختلط ببعض المجتمعات، فسوف تصقل مواهبه وتثرى حافظته، ويستطيع أن يتقلب بعد ذلك في الموروث فينتج.
4 ـ الرغبة الجادة في تطوير الذات، وتحمّل المسؤولية الكاملة أمام المجتمع وأمام الله سبحانه وتعالى.
5 ـ اعتماد المنهج في الطرح والاستدلال: فقد تجلس في بعض الأحيان تحت منبر خطيب، فلا تدري إلى أين يريد أن يصل. ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد، فقد يأخذك أحياناً من طريق ذات اليمين إلى طريق ذات الشمال، من حيث يشعر أو لا يشعر.
6 ـ تحديد الهدف: فنحن نلاحظ مثلاً أن الشيخ محمد تقي فلسفي، وهو رجل مجتهد، بشهادة السيد الكلبايكاني رحمه الله تعالى، وذلك عندما كان يناقش السيد في مسألة ما، فقال السيد: لك رأيك، وكان ذلك في أيام السيد البروجردي، أي أنه نظير له.
وأختم حديثي برواية عن الإمام الصادق (ع) وهي قوله: «يا عبد الأعلى إن احتمال أمرنا ليس معرفتَه وقبولَه، إن احتمال أمرنا هو صَونه وسَتْره عمّن ليس من أهله([20])، فأقرئهم السلام ورحمة الله([21])، وقل: قال لكم: رحم الله عبداً حدث استجرّ مودة الناس إليه وإلينا، بأن يظهر لهم ما يعرفون، ويكفّ عمّا ينكرون»([22]).
نسأل الله تعالى لخطبائنا أن يقرأوا المجتمع من حولهم قراءة صحيحة، وأن المجتمع اليوم ليس مجتمع الأمس، فعليهم أن لا ينزعجوا من النقد والانتقاد. ومن حقنا أن ننتقد ما في الخارج كي يصلح من ورائه ما يمكن أن يصلح.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.