نص خطبة:الخطاب الفاطمي رسالة هادفة و مصداقية عالية

نص خطبة:الخطاب الفاطمي رسالة هادفة و مصداقية عالية

عدد الزوار: 3790

2019-02-23

الجمعة 18 / 5 / 1440 هـ 25 / 1 / 2019 م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِيْنَ رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ﴾([2]).

من كلام للزهراء المرضية سلام الله عليها: «أيها الناس، اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً شططاً»([3]). 

مقومات وخصائص الخطاب الفاطمي:

الخطاب الفاطمي يستمد قوته من خلال مجموعة من الأمور التي استندت إليها، وحريّ بالمتحدث أو المحاور أن يكون متسلحاً عند حديثه وحواره بمثل تلك الأمور والعناصر:

1 ـ أهمية القضية التي يرغب الإنسان في تناولها وطرحها على الملأ العام: فالزهراء (ع) حملت في خطابها قضية الإمامة، وهي أم القضايا وأشرف المفاهيم التي نادى بها النبي الأعظم محمد (ص)، لذلك يصادفنا في القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾([4]).  

تقول (ع) في الإمامة الشرعية على الأمة: «وإمامتنا أماناً للفرقة»([5]). فما وقع بعد النبي (ص) غاب منه الكثير، والسبب في ذلك أن القرار الصادر من الخليفة الثاني بعد أن آلت الخلافة الظاهرية له، كان المنع من كتابة السنّة. فمن المعلوم أنه أصدر قراراً بعدم تدوين السنة، ومن الطبيعي وقتها أن يمتدّ هذا القرار لمثل تلك الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) والتي تمثل انعطافةً خطيرة جداً في واقع المسلمين. وقد حاول أتباع المدرسة العامة تجميل الصورة قدر المستطاع، فحركوا مجموعة من الآليات لتأمين ذلك، فالتاريخ فيه الشيء الكثير، وبمقدور كل منّا أن يرجع إلى ما دُوِّن في صفحاته ليقرأ كم هي النسبة الواصلة إلينا من الصورة، وكم هو الجانب المغيب منها عن واقع الأمة ومشهدها.

أما الخاصة، فقد استنفدوا الكثير من جهودهم في البعد العاطفي، واستغرقوا فيه، حتى ترتب عليه إخفاء الكثير من جوانب الصورة، ناهيك عما يقف دون أن يدوَّن، ما وقع من قوة السلطان والجبروت في توالي الدول، الواحدة تلو الأخرى، من أموية إلى عباسية إلى غيرها.

والزهراء (ع) عندما وقفت أمام الخليفة في مسجد رسول الله (ص)، لم تكن القضية هي فدك فحسب، وإن كان لها حق في ذلك، بل ليس من السائغ للإنسان أن يتنازل عن حقه، فما دام الحق لي فلي مطلق الشرعية أن أتوسل بجميع السبل المشروعة للوصول إليه. بل يفتي بعض علمائنا ـ رحم الله من مضى منهم، وحفظ الباقين، ورعى من يأتي منهم ـ بإمكان الرجوع حتى إلى الحاكم الظالم، كما هو الحال في أيام صدام مثلاً، فإن توقف استنقاذ الحق على الرجوع إليه، جاز أن يرجع.

لقد أخذ الجانب العاطفي منا الكثير، ولا زال يستقطع الكثير، حتى صرنا نفرّع من عند أنفسنا، ليتحول ما نفرعه إلى عادة مع مرور الأيام وتقبُّل المجتمع، ثم ما يلبث أن يلبس لباس التشريع الديني، ثم يكون جزءاً من الدين. ومصاديق ذلك كثيرة.

أما الأسس التي تحرك على أساسها خطاب السيدة الزهراء (ع) ففي الصبغة العامة التي نتعاطاها نجد البكاء، وأن تختار البكاء ليلاً أو نهاراً. ولو كان البكاء سلبياً لما احتاج الحاكم آنذاك، أو جيران الزهراء (ع) في المدينة، أن يلتمسوا من الإمام علي (ع) أن يلجئ الزهراء لواحدة من حصتي الزمن في البكاء، لكن بكاءها كان بكاءً إيجابياً، يستحضر المشهد لحظة بعد أخرى، ويستثير ما في النفوس. لذلك كان مزعجاً لهم، وفي اصطلاح اليوم أنه كان نواة ثورة، فلا بد أن تُستأصل من جذورها. فلا يستغرب أحدنا ما جرى عليها بعد ذلك، مع التحفظ في الكثير من القضايا. ولكن تم التخلص منها بالطريقة التي عرفتموها.

ولا يكفي في القضية أن تكون ذات طابع يلبس لباس الحق ويرفع شعاره، بل لا بد من تكامل العناصر، لذلك فليس هنالك حق أوضح من القرآن، بل ليس بعده حق، إلا أن الخوارج رفعوه في وجه علي (ع) في صفين، فقال (ع) كلمته الشهيرة: «كلمة حق يراد بها باطل»([6]). فكان (ع) يقرأ ما وراء ذلك، وهذا ما نستحث به الشباب، بأن لا يكون الشاب مشلولاً في قراءته، إنما عليه أن يسبر غور كل مفردة تمر عليه، سماعاً أو قراءةً إذا أراد أن يلبس ثوباً جديداً، ويترك وراءه بصمةً في هذا العالم إذا ما غادر، وكلنا يغادر، طال الزمان أو قصر. 

2 ـ الصدق في حمل القضية: فلا يكفي حمل القضية فقط، بل لا بد من الصدق في التعاطي معها، حتى لو كلفتك روحك التي بين جنبيك، فمن يحمل القضية التي يعتقد أنها صادقة، لا بد أن يكون لديه الاستعداد للتضحية بهذا المستوى، وإلا تسقط القضية وتضيع.

ومن هنا نجد أن كلمة الزهراء (ع) في بداية مسيرتها ونهايتها هي الكلمة، لم ترفع قدماً لتؤخرها، إنما رفعتها لتقدمها، وبتقدمها تتقدم الأمة، على الأقل في قراءاتها.

3 ـ الأسلوب الواضح في الطرح: فالبعض لديه حق، لكنه لا يمتلك آلية إيصال ما هو المراد من القضية إلى الطرف الآخر، لعدم وضوح البيان، فينتهي لنتيجة سلبية، وهي عدم إيصال ما يراد إيصاله للطرف الآخر. والزهراء (ع) على العكس من ذلك تماماً، وابنتها الحوراء كذلك، حيث جسدت هذا المشهد في الكوفة وفي الشام، وحتى عندما عادت للمدينة، ولكن مع شديد الأسف أُخفي دورها عندما وضعت رحلها في المدينة، وقد أشرت إلى هذا قبل أسبوعين.

4 ـ المرونة والحيوية في عرض الخطاب: بأن لا تضع الحواجز بينك وبين المستمع، وأن تقبل عليه، وأن تترك له مساحة أن يندكّ فيك وتندكّ فيه، ثم بعد ذلك تتلاقح الأفكار وتسمو المعاني، فتصل القضايا حينها إلى الضفة المراد الوصول إليها. بهذا النسق كانت الزهراء (ع) تسير بالقوم مهاجرين وأنصار، سيراً سُجحاً، حتى مضى الثالث إلى سبيله، فانثالوا على أمير المؤمنين (ع) كعرف الضبع ـ كما يذكره أمير المؤمنين (ع) ـ من شدة تزاحم المهاجرين والأنصار عليه. وقد كانت هذه نتيجة الخطاب، وإن تأخرت الأمة في قراءته عندما نطقت به الزهراء (ع) فكانت القراءة بطيئة، أو الظروف قاسية.

5 ـ التنوع في طرح المادة: كي لا يمل المخاطب، وبقدر ما يكون للقضية من أهمية، بقدر ما يكون الإنسان بمسيس الحاجة لجمع الذهنيات المنصرفة، فالخطاب أحياناً إن لم يكن ممتعاً، أو يحمل عناصر القوة في مكونه، تشرد أذهان المستمعين، فيعمد المتكلم إلى إيقاظها، إما من خلال بيت من الشعر، فما من نفس إلى وتميل للشعر وتخضع لسلطانه، إلا النفسيات المريضة. أو من خلال القصص، لذا نجد الكثير من الخطباء ـ ولا أعني خطباء المنبر فقط إنما أعني الاستغراق ـ ينحلون القصص أحياناً، ويختلقونها اختلاقاً، لبث النشاط في أذهان المخاطبين.

ففي خطاب الزهراء (ع) تجد قوة العبارة، ومتانة المعنى، وصدق اللهجة، والتنوع في الطرح، لذا تجد أنك لو أتيت بأفضل المتحدثين أو الكتّاب، قديماً وحديثاً، لما استطاعوا أن ينسجوا على منوالها، حال أن خطابها كان مرتجلاً لا مكتوباً، لأنها جاءت لتطالب بحقها، ولم يكن الخطاب هدفاً بحد ذاته. فلما امتنع المخاطب عن الحق خطبت خطبتها فوصلت إلى ما وصلت إليه.

6 ـ الإيجاز والاختصار: ولكن من الضوابط التي تُدرس في البلاغة، أن لا يكون الإيجاز مخلاً بالغرض، فإن كانت هنالك قضية يراد إيصالها، فيفترض أن لا يكون الاختصار مسقطاً لها أو لبعضها، لأنه سيكون معيباً، وينبغي أن يكون الإطناب هو المنهج. فالأصل هو أداء المعنى والغرض بأقل ما يمكن من الألفاظ، فإن لم يؤدَّ فلا بد من الإطناب.

7 ـ الإعلام: وهو اليوم سلطة عالمية، تغير الأنظمة، وتُحدث الخلل الاقتصادي والإرباك الاجتماعي وخلط الأوراق والمفاهيم ومصادرة الحقوق، كل ذلك يدار بكابينة الإعلام اليوم. والحكومات التي لا تمتلك إعلاماً قوياً تخسر الكثير.

الإعلام وواقعنا المعاصر: 

ومن هنا تجد أنه ما من دولة عظمى إلا ولديها هذه السلطة التي على أساسها تأخذ بالجمهور العام يميناً أو شمالاً، فسقطت نُظم كثيرة  بسبب ما أحدثه الإعلام من إرباك، وبطبيعة الحال أن الإعلام مجرد غطاء، وليس هو السبب الرئيس في ذلك، إنما هنالك مشاكل. فما يستوجب التغيير كان موجوداً قبل الإعلام، لكن الإعلام أسرع في الإجهاز على من أريد أن يجهز عليه. وهذا المشهد في نتيجته هو مشهد مختصر يحكي ما كانت عليه الأحوال في النُّظم السابقة.

والإعلام في الأصل: هو نقل الخبر من طرف إلى طرف آخر. والزهراء (ع) كان بمقدورها أن تجلس في بيتها، فتغيب الحقيقة بالمطلق، إلا من شذرات هنا أو هناك، ولكن بوقفتها، وقولها: اعلموا أني فاطمة، وأن أبي محمد، قذفت بالقضية إلى مسافات، واختصرت قروناً، وكأنها إلى اليوم تقف أمامنا وتقول: اعلموا أني فاطمة. وهذه البراعة في الاستهلال التي لا يستطيع صناعتها أرباب الفصاحة والبلاغة، هي بحد ذاتها قنبلة غير محددة الزمان والمكان، لذلك تتجدد مع الأيام.

فأثر الإعلام كبير، لذلك تجد أن الزهراء (ع) لم تفوّت الفرصة، وما عسى أن يكون مكان أقدر على نقل الحدث من مسجد رسول الله، وأن يكون أقوى من محضر الخلافة، فمن الطبيعي أن تُسلط الأضواء حول خليفة المسلمين، ويُلتقط كل حرف ونفثة، فما بالك بالزهراء (ع) بنت النبي (ص) وخليفته جسداً وروحاً، وتأتي بهذا الخطاب العالي الوتيرة، الحادّ النبرة، القوي المفردة، المتشابك المعنى.

والإعلام يمارس دوراً مباشراً في توجيه الشعوب والمجتمعات من الأمس لليوم وحتى الغد، بل أتصور أن الإعلام في الآتي سيكون له نصيب أكبر مما كان عليه في الماضي. وهو يتعدى حدود الوسائل المعهودة التي ألفناها، من التلفزة والصحافة والإذاعة، وأصبح اليوم مفتوحاً، وبإمكانك أن تمتلك من خلال جهازك الإلكتروني الذكي، الإذاعة والتلفزة والصحافة، وتجعل كل من كتب وتعاون موظفاً دون أجر، إذا كنت تمتلك الآلية والحس في الوقت نفسه.

والإعلام يوجد العلاقة التفاعلية بين المجتمعات، ووسائل الإعلام اليوم باتت تؤثر وتتأثر، على أساس مما بني عليه المجتمع، في ثقافته ومادته وفكره وأدبه وفنه.

كما أنه يربط بين أبناء المجتمع من خلال المادة المقدمة له، فمما لا شك فيه أن إعلام الأمس كان أكثر رصانة من إعلام اليوم، فإعلام اليوم يصدق عليه قول الشاعر:

هزي بنصف واتركي لي نصفاً

بل إن اللغة العربية اليوم غير مستقيمة في محطات الإعلام عند العرب من المحيط إلى الخليج.

وينشئ الإعلام لأبناء المجتمعات وشعوب الأمة المحطات الكفيلة بفتح أبواب الحوار بين أبناء المجتمعات. ففي دائرة العرب من المحيط للخليج يوفر لك الإعلام محطة تتواصل من خلالها مع أخيك العربي في المغرب العربي وأنت بالمشرق، والعكس صحيح، والكلام عين الكلام في الدائرة الإسلامية.

ولكن بنظرة سريعة إلى إعلامنا الإسلامي أو العربي، نجده بين أمرين ـ بحسب اعتقادي ـ إما أنه لا يملك المصداقية ـ وليس الآلية، لأن الآليات متوفرة، لا سيما في جانبها المادي ـ أو أنه لا يملك المناخ الكافي، ويكفي أن يكون هذا يعضّد ذاك، لتسقط هذه الآلية عن الاعتبار، وقابلية ما يرجى أن يحصل من ورائها.

وكذلك في جانب ترسيخ القيم، ففي الإعلام سابقاً نجد التركيز على الجوانب التاريخية، في المسلسلات والندوات، وكذلك التركيز على بناء المجتمع، وعلاقة الزوج والزوجة والأبناء، أما اليوم فلم تعد هذه الوسائل تعرض لنا سوى الصور الرخيصة والمشاهد الفاقدة للقيمة، واستبدلت الكلمة المحكمة، وبيت الشعر الهادف، والنص المؤثر، حتى أنهم لم يجدوا لهم مساحة فضلى من حيث الحضور الجماهيري إلا شهر الله سبحانه وتعالى فجعلوا منه مسرحاً ومرتعاً يرتع فيه اللاعبون.

واستبدلت قراءة القرآن في أول الليل من شهر رمضان بما تعلمون، ودعاء الافتتاح بما أنتم أعلم به، ومجالس الإمام الحسين (ع) بما قد وقفتم على بعض أطرافه.

والأمر الأخير في هذا الجانب: تثبيت قواعد السلم الأهلي، وهو مطلب أساس ومهم،  تنفق الدول الحكيمة الكثير في سبيله، لأن درهم وقاية خير من قنطار علاج. فضرورة تثبيت الأمن لا تخفى على أحد. والأمن لا يكون في بُعد واحد، فلا بد أن يكون هناك أمن اقتصادي ومعرفي وسياسي واجتماعي وسلوكي، وما إلى ذلك. وهذه لا يصنعها الناس، إنما يصنعها ولاة الناس، ومن يسوسون أمرهم.

فعندما كان الإعلام بالأمس يرفع راية الهدفية، كانت الأسر مستقرة، والاضطرابات فيها محدودة جداً. فغياب هذا اللون من الهدفية بشكل واضح، أدى إلى الخلل الواضح البين في الأسر.

وأشير هنا إلى أثر واحد، ألا وهو الطلاق الصامت. فهنالك طلاق فوضوي، وعبثي إعلامي، وهنالك طلاق صامت، وهو عبارة عن الانفصال بين الزوجين دون ورقة طلاق رسمية. فهما زوجان رسمياً وشرعياً، إلا أنهما يعيشان في بيت الزوجية كالغرباء، فلا أحد يُكلّم الآخر، ولا أحد يهتم بالآخر. وتحصل المشاكل وتعصف بالبيت، إلا أن كلاً منهما صمٌّ بكم. فالزوج لم يطلّقها لا رسمياً ولا شرعياً، إلا أنهما من حيث الواقع لا يختلفان عن المطلقين، بل أسوأ حالاً من المطلقين. فقد تقترن المطلقة بزوج جديد يكون أكثر شفقة ورحمة ومحبة وشعوراً بالمسؤولية من زوجها الأول.   

 نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.