نص خطبة: الحوار بين الأديان في عهد الإمام الرضا عليه السلام
عصر الإمام الرضا (ع):
حياة الإمام الرضا (ع) مدرسة متعددة الجوانب، فحيث أردت أن تلج إليها من جانب أخذتك إلى جانب آخر، لازدحام العناوين فيها، لكن ما يعنيني في هذه الوقفة هو (الحوار)، وهو من المفاهيم والعناوين التي ينبغي أن نوليها الكثير من الاهتمام، لأننا في ظروف زمانية يكتنفها ما يكتنفها، وفيها الكثير من الإشارات والدلائل التي تحتِّم علينا أن نقترب من هذا المفهوم أكثر مما كنا عليه في الزمن السابق.
لقد عاش الإمام الرضا (ع) في زمنٍ قُدِّر للأمة أن يكون فيه على رأس الخلافة الظاهرية المأمون العباسي، وهو على ما هو عليه، كان يحمل واحدة من الصفات التي تفرّد بها عن أقرانه ممن تقدمه أو أعقبه، ألا وهي صفة المحب للثقافة، التواق للمعرفة، بغضّ النظر عن كونها وسيلة أو غاية، فهذا لا يعنينا كثيراً، لكن هذا الحيز هو ما يهمنا، ومنه نلج إلى ما نود أن نتحدث عنه.
فكون الخليفة يحمل هذه الصفة، فذلك يعني أن هامشاً من الحرية قد بُسط أمام الراغبين في التزود علماً ومعرفةً. وليس بالضرورة أن يكون ذلك أمراً محبوباً ومرغوباً للخليفة نفسه، لكن النتيجة أن ثمة شيئاً يمكن المناورة على أساسه.
فثقافة المأمون حتَّمت عليه أن ينقل مجموعة من الأفكار لدى الأمم الأخرى، ويزجّ بها في طاحونة الصراع بين المذاهب، الذي بلغ أشده في عهده.
وليس الحوار بين أصحاب الأديان وليد العصور المتأخرة، أو الفترات التي نعيشها اليوم، فقد كان المأمون أول من وضع حجر الأساس لهذا النوع من الحوار، وما على المتتبع إلا أن يرجع إلى كتاب الاحتجاج، للعلامة الطبرسي، ليضع يده على الشواهد والأدلة القطعية، على أن حوار الأديان أمر قد حصل آنذاك، فالقسيسون والرهبان والأحبار، ومن كان يمثل الأديان آنذاك، كان لهم حضورهم في إيوان السلطان العباسي المأمون.
دوره في حوار الأديان والمذاهب:
ومن البديهي إذا حضر أصحاب تلك الديانات للتحاور، فإنه يعني ـ فيما يعنيه ـ أن يكون للإسلام حضور، وحضوره مبنيٌّ على حضور رموز المذاهب الإسلامية آنذاك. فكانت تلك الرموز تحضر إلى تلك المساحة التي نستطيع أن ننعتها بالحرة، وإن كانت مقيدة برقابة السلطة، لكنها الرقابة المقننة، غير المكشوفة المفضوحة.
وكان للإمام الرضا (ع) قدم راسخة، ويدٌ عليا رفيعة، وكان نظره في القضايا يمثل الكلمة الفصل في الكثير من الأحيان. فكانوا يجتمعون عليه، فيكسر شوكتهم، ويفرق جمعهم، ويبطل أدلتهم، ثم يثبت المنتقى من خلال كتاب الله، وسنة الحبيب المصطفى محمد (ص). وقد أنتج هذا الحوار نتائج طيبة.
ففي فترة المأمون العباسي استقرت الأوضاع، فالعالِم في مسيره، والمثقَّف في اتجاهه، والسياسي حيث أراد، وبُسطت سلطة الدولة العباسية، وكانت فترته أفضل الفترات. نعم، كان هنالك حراك في هذه البقعة أو تلك، لكنه لم يكن مزعجاً لرأس الهرم في السلطة.
وكان الإمام الرضا (ع) فقيه أهل البيت (ع) وعالمهم، كما في رواياتهم (ع)، وكان يمثل قطب الرحى، والبدر في الليالي الداجية، بين ذلك الظلام المعتم، ولا غرابة في ذلك، بل ما نستغربه أن لا يكون كذلك، أما أن يكون كذلك فهو مقتضى الأصل؛ لأننا لا نعتقد فيهم إلا كونهم لا يصدرون في شيء إلا عن الله تعالى، لأن الطريق واحد، فالنبي (ص) واسطة فيض يوحى إليه، أما الواسطة بين المعصوم والمعصوم، فهو المعصوم نفسه، وبالنتيجة يكون حديثهم: قال أبي عن جدي عن رسول الله عن الله تعالى، بواسطة الأمين جبريل.
فلا غرابة أن يخضع أصحاب الأديان والمذاهب أمام ما ينتهي إليه الإمام الرضا (ع) في تلك الحوارات.
أسس الحوار ومقوماته:
إن للحوار آدابه وأصوله وقواعده وألوانه، فمنه الحوار المذهبي بين أبناء المذاهب الإسلامية المتفرقة، وهذا أيضاً لم يكن وليد العصور المتأخرة، إنما كانت له سوابق وسوابق، إلا أن المحاولات كانت تجهض، والنتائج تنتهي إلى طريق مسدود، لأن العابثين كثيرون، ومن لهم المصالح المهددة بالضياع أكثر، لذلك ما إن ترتفع قامة من القامات، وتدعو إلى الحوار بين المذاهب أو الأديان، إلا وتفغر فاغرة النفاق، وتبدو حسيكته، ليسقط المشروع من أصله، والتجارب أمامنا كثيرة.
وتطورت الأمور، وتحول الحوار من دائرته الوسيعة إلى دائرة تضيق على نفسها شيئاً فشيئاً، حتى وصل الأمر إلى الحوارات الوطنية، ومنها الدعوة إلى الحوار الوطني في هذا البلد الطيب الحبيب بأهله. فكانت الدعوة للحوار الوطني، وقبلها كانت الدعوة للحوار بين المذاهب، ثم تلتهما الدعوة للحوار بين الأديان، من خلال خادم الحرمين الشريفين، ولا إشكال أن النوايا صادقة، وليس من حق أحد أن يحاكم أحداً على نواياه، ولكن من المؤكد أيضاً أن من لا يرغبون في ذلك كُثر، ومن لا يصبُّ الحوار في صالحهم الشخصي والنوعي من مقامات الحوار الثلاثة كُثر أيضاً.
لذا كانت المحاولات، إما لإفشال المشاريع الثلاثة أو إبقاء العنوان على ما هو عليه وتفريغه من المضمون، بل أصبحنا لا نعيش حضوراً واضحاً للعنوان، ناهيك عن المعنون، فما كان يشغل الساحة طولاً وعرضاً، أصبح أشبه ما يكون بالنسي المنسي، إلا عند الاستذكار في الضرورة، وفي ذلك خسارة كبيرة، على الفرد والمجتمع والوطن والمذاهب، والأديان، فالدعوات الحميدة ينبغي أن تُحتضن، وأن تجمع لها الأسباب في سبيل نجاحها، والارتقاء بها، والمحافظة عليها.
صحيح أن العقبات كثيرة، ومن لا يروق لهم ذلك كثيرون، ولكن لا ينبغي أن نجعل من تلك الأمور عوامل مطلقة اليد في أن تضع وترفع، وتقبل وتمنع.
ولكي يصل الحوار إلى نتيجة، لا بد له من مقومات تجتمع فيما بينها لننتهي إلى النتيجة المطلوبة، فبعض المشاريع أحياناً تحمل بذرة الوأد في داخلها منذ الولادة، فهي كالجنين الذي يولد مصاباً، وذلك عندما لا يكون المشروع صدر عن دراسة تامة قبل تنفيذه، وأثناء قيامه، وبعده انتهائه في تقويم النتائج. فقد تُنتج المشاريع نتائج طيبة، لكنها تذهب أدراج الرياح، لأنه لم يحافَظ على نتائجها.
فالعجلة التي كانت تدور دوراناً سريعاً في طيِّ المقدمات الأولى سرعان ما تأخذ بالبطء أو التوقف، وهذه واحدة من المشاكل والمعضلات.
فمن مقومات الحوار الأساسية:
1 ـ تحديد الهدف من الحوار:
وهي الثمرة المنشودة التي نرجو بلوغها، فما هو الهدف من الحوار؟ هل هو أن نجتمع في فندق معين، أو قصر مشيد، أو بلد هنا أو بلد هناك، ثم نأكل ونشرب ما لذّ وطاب، ونتبادل القبلات فيما بيننا؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ ليس إلا الإنفاق من بيت مال المسلمين، على عباد الله تعالى. لذا تجد أن النتائج في نهاية المطاف سلبية.
2 ـ التمهيد وإعداد الأرضية الصالحة للحوار:
فلا يمكن أن نخلص إلى نتيجة مرضية، ما لم تكن هنالك أرضية مشتركة نجتمع عليها. وهذا أمر مطَّرد في الحياة، فلو أنني أردت لولدي أن يحقق نتائج طيبة، فلا بد أن أضع له خطة عمل وفق أرضية معينة، ولا بد أن أمتلك الأجندة المناسبة التي تهيئ له الأرضية المناسبة، فلو لم تكن الأرضية صالحة لا يمكن أن يصل الولد إلى ما هو المبتغى في نفس أبيه، ولا إلى الرغبة في داخله.
فلا معنى لحوار في أرضية رخوة زلجة موحلة، فلم نجد أحداً شيّد عمارةً على أرض موحلة، ولا بد من استصلاح الأرض أولاً، ثم البناء بعد ذلك، لذا تجد أن المشاريع تسقط وتتهاوى الواحد تلو الآخر.
3 ـ وجود حالة من المعرفة بين أطراف الحوار قبل الحوار:
لا أن تُرسل الرسائل للطرف المطلوب مشاركته، دون أن يعلم ما هو المطلوب، وما هو برنامج الحوار، فهذا لا يصل بنا إلى نتيجة. فلا بد إذن من المعرفة المسبقة، للتوجهات والرغبات والقدرات العلمية والفكرية والثقافية، والمساحات المطروقة، والتجربة العملية، لا نمط المحسوبيات بين الأفراد الذي نراه اليوم في حياتنا على الأصعدة كافة، فنحن نرى المحسوبيات اليوم في جميع مجالات الحياة، وهذا هو بلاء الأمة العربية والإسلامية، التي لا تحمل من دينها إلا الاسم، أما معطيات القرآن الكريم وثوابته، وإرشادات السنة المطهرة وتفريعاتها، فبينها وبينه حُجُب كثيرة.
لذا نرى أن هذه الأمة في تراجع مستمر، وفي كل يوم تُغرق الساحة بالدماء الجارية، كل ذلك لأنها أدارت ظهرها للكتاب المنزل، وللنبي المرسل.
فلا بد أن يكون هنالك تنسيق بين الأطراف، ليعرف كل طرف ما لدى الطرف الآخر، لتحصل حالة من التوازن، نخلص بعدها إلى نتيجة مرضية. أما إذا كان الأمر كما هو عليه اليوم في الكثير من المؤتمرات من حولنا، بأن نرى ذات الوجوه تتكرر، وتتصدى لمنصة الرئاسة في المؤتمرات، فهذا أمر لا جدوى منه ولا فائدة.
4 ـ حسن الظن بالآخر:
أما أن يكون لدى بعض الأطراف لون من سوء الظن عالي الوتيرة، فكيف يصلح أن يكون بينهم حوار؟!. فهناك من يحمِّل كلام الآخر خلاف المنطوق، أو يحمِّله ما لا يحتمل، فإن أراد الآخر بيان ما يعنيه بدقيقة واحدة، اتهمه بسوء الأدب والمقاطعة!.
إن ما نراه من حوارات على الشاشات بين الفينة والأخرى، ما هو إلا صراع ديكة، أو صراح في حظيرة حيوانات، حتى صار المرء يخجل من مشاهدة هذه البرامج، لأنها تفتقر للحياء والأدب والذوق، ونحن نخشى على أطفالنا أن يتربوا على هذه الطريقة، ومن الواضح هذه الأيام أنه بدأ يترشح وينعكس على بعض الممارسات في بعض المجالس الخاصة، إذ ترى البعض يتقمص شخصية فيصل القاسم، ومن المعلوم أن من يتقمص شخصية الآخر فإنه يعاني من النقص الداخلي، ويُفترض أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرّمه وفضله على سائر المخلوقات، وينبغي عليه أن يعتز بشخصيته ويحافظ عليها، ويقوّي من قدراتها الذاتية، ويحرك المواهب الكامنة فيها.
إن الله خلقك كبيراً، فكن كبيراً، وخلقك كريماً فكن كريماً، ولا تستصغر نفسك، فكل من يحاول أن يكمل نفسه بشخص آخر، فاعرف أنه ناقص، كائناً من كان. يقول الشاعر:
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرتُ وذو طويتُ
فقد ذكر أباه وجده ابتداءً، لأنه لا يشعر بالكمال إلا بذكرهم.
فلا بد في الحوار إذن من حسن الظن، ويفترض حمل كلام الآخر على الظاهر، لا أن أحمّله ما لا يحتمل. وأن أحسن الظن في نواياه أيضاً، وأفترض أنه قال كلامه من أجل مدّ الجسور، وسدّ الفجوات، وإصلاح العطب، وإبراز المحبة، وإظهار الودّ، لا أنه يريد الالتفاف عليّ، فإن افترض أحد أن خصمه يريد الاتفاف عليه فذلك لأنه يشعر بالنقص، فلا يثق بالآخر، ولو كان يرى نفسه أنه كامل، وبيده الدليل والحجة والبرهان، فيفترض أن لا يخشى أحداً، لأن من يخشى هو الضعيف الذي لا يمتلك دليلاً ولا برهاناً ولا حجة، أما من يمتلكها فلا خوف عليه.
5 ـ وضع اليد على نقاط الاتفاق على حساب نقاط الافتراق:
فعندما نريد أن نتحاور، فلا بد أن نلاحظ أن هنالك ملفاً، إذا ما فُتح فإنه يفتح أبواب جهنم، فينبغي أن نتركه مغلقاً على حاله، وعلينا أن نفتح الملفات الأخرى التي يمكن على ضوئها أن نقرأ ونتمعن ونتفق ونفتح صفحة بيضاء أمام الأمة والشعب الواحد الذين تهفو قلوبهم لقلوب بعضهم، فلسنا مضطرين لفتح صفحة السواد، وأبواب جهنم، وأن نفتش بالمجهر عن زاوية افتراق وابتعاد. فليس هنالك اتفاق مطلق، كما أنه ليس هناك افتراق مطلق. فقواسم الاجتماع كثيرة، كالاجتماع على إله واحد، ونبي واحد، وكتاب واحد، وقبلة واحدة، ووطن واحد.
فإغلاق جميع ملفات الخلاف فيما بيننا أمر مهم في هذا الصدد.
6 ـ نبذ التعصب الأعمى:
إن التعصب الأعمى سببه الجهل، والجهل مفتاح كل سوء، فلو أردت إصلاح المتعصب فعليك أن تنقله من حالة الجهل إلى حالة العلم، ومن الظلمة إلى النور، إذ لا تستطيع أن تكسر تعصبه دون ذلك، لأنك لم تضع يدك على الخلل الذي أدى به إلى التعصب، ولم تعالج المرض.
فإلى متى تدوم الكراهية ويستمر الحقد إلى الدرجة التي لا يستطيع المسلم فيها أن يرى أخاه حتى في المحافل العامة؟ وهل هذا إلا نتيجة لحالة مرضية باتت تكتسح المجالس عامة؟.
7 ـ التناسب بين الأطراف:
وذلك لإحداث حالة من التوازن، لنخلص إلى نتيجة مرضية.
8 ـ غرس روح الاحترام المتبادل:
فمن الضروري جداً في الحوار أن تكون بيننا درجة عليا من الاحترام المتبادل، سواء على المستوى الشخصي أم المستوى الفكري العقدي.
9 ـ الابتعاد عن الألفاظ النابية:
فهنالك ألفاظ يمجها السمع، كنا ولا زلنا نسمعها في الحوارات التي تبث على شاشات الفضائيات.
10 ـ احترام مصدر المعلومة عند الآخر:
فإذا كانت كتب الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والاستبصار، والتهذيب، من الكتب المقدسة عندي في الموروث الديني، فإن الآخر لديه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرها من الكتب، مقدسة أيضاً، فإن أردت من الآخر أن يحترم هذه المنظومة عندي، فلا بد من احترام منظومته، والعكس صحيح، وإلا فلا جدوى من الحوار، وسينال كلٌّ من الطرف الآخر، ويسيء إليه.
11 ـ أن تكون هنالك رغبة جادة في الوصول إلى نتيجة:
وإلا فإن الاجتماعات والدعوات والوجبات والابتسامات، لا تقدم ولا تؤخر، فالابتسامة أمام الملأ العام مع قلب أسود لا خير فيها ولا فائدة.
الوطن يجمعنا:
إننا في نهاية الأمر أبناء وطن واحد، لنا ما له، وعلينا ما عليه، وهو ـ بحمد الله ـ واسع، ومن أكبر البلدان مساحة، ويمكنه أن يستوعبنا جميعاً، ومن أغنى البلدان أيضاً، ومن أقدس البلدان، لتشرفه بالحرمين الشريفين، وهو بذلك للجميع، وليس من حق أحد أن يصادر حق أحد.
فما حصل قبل أيام قلائل من قضية، لا ندري إن كانت مفتعلة أم واقعة، كنا نتمنى أن الأمور تكون فيها أفضل مما آلت إليه.
أقول لصاحب السمو الملكي خالد الفيصل، وزير التربية والتعليم: أيها الأمير، أنت من استطعت أن تذلل عقبات السَّروات في جبال عسير، وفتَّتَّ الصخر في ثلاثة عقود من الزمن من أجل أن تكون المسافة بين الطائف وأبها تقضى في ساعات، بعد أن كانت تستغرق شهراً كاملاً.
فهل يُعجزك أن تفتِّتِّ بعض العقليات المتحجرة، والأفكار البائدة، وأنت الأمير الشاعر، والأديب الكبير، وصاحب الرؤية الثاقبة، ومن اسبشرنا فيك خيراً، وقلنا: إن حقباً من الظلمات قد ولت، ونستشرف مستقبلاً أبيض، وجاء التعميم على عدم السماح بالتدخل في الشؤون الطائفية في المدارس، واسبشرنا وتبادلنا التهاني، وفرحنا كثيراً، وقلنا: إن هنالك قامات يمكن أن يعتمد عليها؟ فماذا حصل؟ ولماذا حصل؟.
إذا كان الشيعي في صورة يُحدث تلك الحالة من الخوف والرعب في قلوب البعض من الناس، فما عسى أن يكون الوجود البشري على الأرض؟.
فلتكن الصورة لرجل شيعي ـ وإن لم تكن هناك دلالة على أنه شيعي، فلا عمامة ولا علامة دالة على ذلك ـ إلا أنه ليس من رجال الدين من الطراز الأول، مع خالص احترامي له. فهو رجل متقاعد من (أرامكو) شأنه شأن الكثيرين ممن تقاعدوا من التعليم وأرامكو، وزجوا بأنفسهم في هذه الطاحونة، وأصبحوا (علماء الأمة) فهل يستحق كل هذا؟ والله إن التفكير بهذا المستوى مشكل جداً.
والأمر الآخر الذي أود الإشارة إليه في هذه القضية هو أننا يجب أن نحذِّر من المزايدات، فوسائل التواصل الاجتماعي بلاء مبرم في الكثير من جوانبها.
لقد ذكرت تلك الوسائل أن الكتاب وُزِّع على المدارس، ولم يكن قد وزِّع بالفعل، فمن هو المسؤول عن هذه الفتنة؟ ومن الذي زايد عليها؟ وهل أن من يفعل ذلك لديه حرص على نسيج المجتمع قبل أن يحمّل الآخر المسؤولية؟.
إن الكتاب المذكور طبع لخارج المملكة، وللملحقيات الثقافية والمدارس المرتبطة بها، ولم يوزع في المدارس.
ثم ظهرت فتنة أخرى، إذ ادُّعي أنه طُلب من الوزارة سحب الكتاب، وهو غير صحيح أيضاً، ولم يحدث شيء من هذا القبيل.
وفتنة ثالثة هي أنهم ألزموا وكلاء المدارس تمزيق غلاف الكتاب الخارجي، وهو ما لا أساس له أيضاً.
فمن هو المسؤول عن ذلك؟ وهل أن هؤلاء الذين يعبثون، أقل سوءاً في موقفهم ممن حاول أن يحرك الأمور من وراء الطاولة؟ لا والله، فلا أولئك يريدون الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي لأبناء هذا الوطن، ولا أولئك.
لذلك نحن نلتمس معالي سمو الأمير أن يبقى ذلك الرجل الذي يحمل صدراً واسعاً، وأن يستوعب المشهد بجميع حيثياته، لأننا في مسيس الحاجة أن نحافظ على هذه الحالة من الأمن الذي نُحسد عليه، فهو أمنٌ لا نظير له على وجه الأرض مطلقاً، ومن ينكر ذلك فليأت بدليل. فلا مجال للتضحية بشيء من هذا القبيل، ولا مجال لأحدٍ أن يزايد على انتماءاتنا وولائنا لهذا الوطن، وليس من حق أحد أن يصادر حق واحد منا، على أنه وحده ابن هذا الوطن.
أيها الأحبة: من المهم جداً أن أنبه إلى أننا إذا أردنا أن ننظر إلى شيء فلننظر إلى الجانب الجميل فيه، فليست هنالك عصمة لأحد هذه الأيام.
وأود أن أذكّر الأخوة الأعزاء بقصة قصيرة فيها الكثير من العبرة، وهي أن أحد الملوك في فترة من الفترات كان أعور العين وأعرج، وكان فناناً مولعاً بالرسم وتأمُّل الطبيعة، فجمع الفنانين ذات يوم، وهذا ديدن الملوك فيما يميلون إليه، فقال لهم: أريد أن ترسموا صورة لي ليس فيها عيب، فاعتذر الجميع عن ذلك. فالله تعالى خلقه بهذا الشكل، أعور أعرج، ولا يمكن أن يصوروه إلا على هذه الصورة.
لكن أحد الفنانين الصغار بادره أمام الحضور قائلاً: أنا يا صاحب السلطنة، ولكن أمهلني سواد هذه الليلة.
فجلس تلك الليلة، وجمع أفكاره، فاهتدى إلى طريق، بأن يذهب صباحاً إلى الملك ليخبره أن الرسم حاضر في مخيلته، وهو بحاجة إلى تأمل الملك فقط. فكان ذلك في الصباح، حيث منحه الملك ما أراد، فجلس أمامه وراح يرسمه وهو يتأمل الطبيعة، حتى أكمل الرسم، ثم قام بين يدي الملك، فقبل الأرض بين يديه، وأدى له التحية، ثم قدم الصورة.
راح السلطان يتأملها بإمعان، والابتسامة تتسع على محياه، فيما كان الجميع في حالة من الذهول والوجوم.
ثم التفت السلطان إلى الرسام وقال له: كيف اهتديت إلى هذا؟ قال: استوحيتها منك، فاستحسن كلامه أكثر من استحسانه الصورة، وازداد سروراً على سرور. فما كان منه إلا أن قال له: جعلتك رئيساً عليهم، لأنك جمعت بين الفنِّ والعقل.
ثم أدار الصورة أمام الفنانين، فإذا هي عبارة عن صورة السلطان يمسك بالبندقية، وقد أغمض إحدى عينيه ليحدد الهدف، وثنى ركبته ليسند البندقية، وقد ستر الفنان بذلك عيب العين والرجل!.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.