نص خطبة: الحلول المثلى لمواجهة الانحراف

نص خطبة: الحلول المثلى لمواجهة الانحراف

عدد الزوار: 2144

2015-09-20

4/ 12 / 1436 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

قال الإمام الباقر (ع): «إن الأوصياء محدثون يحدثهم روح القدس ولا يرونه»([2]).

أساليب معالجة الانحراف:

كان الكلام في الأسبوع الماضي وما قبله في مسار واحد، وهو عرض المشكلة وما يترتب عليها في دائرة الانحراف. وقد بسطتُ الكلام فيه بما لا يحتاج إلى مزيد عرض.

أما السؤال الذي يتردد دائماً فهو: كثيراً ما تُعرض المشاكل ولا توضع لها الحلول، فأين يكمن الخلل؟ هل في عدم الوقوف على جميع مكونات المشكلة، بحيث يمتنع على المعالج وضع الوصفة المناسبة لذلك المرض؟ أو أن المرض مشخص بجميع مكوناته، لكن من يعتني بوضع العلاج له يخشى الكثير من المحاذير؟.

نحن نعلم أن جميع الأطباء على وجه الأرض على نحوين: أطباء أبدان، وأطباء أديان. فالبشرية في القسم الأول تقدمت كثيراً، أما في القسم الثاني فلم تكن متأخرة عندما التزمت بمعطيات التشريع المعتني بالجانب الديني، ولكننا نعلم أن المتنكبين للطريق كثر، والذين يديرون ظهورهم لأصل الأمر ليسوا أقل من ذلك.

1 ـ العودة إلى القرآن الكريم:

فمن مسارات الحل لما تقدم عرضه سابقاً العودة الحميدة إلى معطيات القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى على قلب الحبيب المصطفى محمد (ص) وكان فيه الشفاء، غاية ما في الأمر كيف نتعامل ونتعاطى هذه الوصفة التي يقدمها لنا التشريع في جانبه الديني كي يسعد الإنسان.

فكلنا يعلم أن الشريعة لم تأتِ من أجل تقييد الإنسان في أقوال وأفعال هي في مسارها الأول مباحة ومطلقة، إنما لتدفع غائلة ما يمكن أن يتسلل من الدخيل إلى الأصيل بحيث ينتهي المطاف بالمسيرة إلى الانحراف، سواء تمثل ذلك في الأفراد أم تجاوزهم إلى الجماعات، كما هو حاصل في هذا الزمن الذي نعيشه، والذي بات الانحراف فيه يتوسع أكثر مما كان عليه في العقود، بل القرون المتقدمة.

إن المادية لها قيمتها، وليس منا من لا يريد أن يمسك بأسبابها والغاية من ورائها، غاية ما في الأمر أن التعاطي معها بعيداً عن الثابت الديني هو الذي يدخلها في دائرة الإشكالية العظمى.

فالقرآن الكريم فيه محكمٌ واضح جليّ، وفيه متشابه، وقد تكفلت بالمتشابه السنةُ الصحيحة الصادرة عنهم (ع) لرفع حالة اللبس أمام المفسر والمتدبر والمستنطق ومن يريد لنفسه أن يسير وفق معطيات هذا النص المقدس، ولكن مع شديد الأسف، أننا لا نطلب الأسباب من مواطنها، إنما نبتعد كثيراً، وأحياناً نخدّش خدش عمياء لا يوصلنا إلى ساحل النجاة المفترض أن نكون جعلناه هدفاً يفترض أن نصل إليه.

فالقرآن الكريم إذا ما رجعنا إليه رجوعاً صحيحاً، وعدنا عودة حميدة، استطعنا أن نتجاوز الكثير.

2 ـ التمسك بالسنة الصحيحة:

ونعني بها السنة المطهرة من كل دخيل عليها. فالدخيل فيها كثير، لأن السماء لم تتكفل بحفظها، بل حتى من صدرت عنهم، وهم الرسول والأئمة من آله (ع) لم يتكفلوا بحفظها، إنما وضعوا قواعد وأصولاً، فإذا ما أراد أحد أن يتعاطى النص كما ينبغي وفق ما هو المراد له تمسك بتلك القواعد والأصول، أما إذا أراد أن يرسم لنفسه نهجاً، أو يختطّ خطاً يصل من خلاله إلى مبتغى لا يتجاوز أحادية الأنا التي تتحرك في داخله فالنتيجة معلومة ومحسومة. وليس هذا وليد الساعة، إنما كان في القرون المتقدمة، وكان له في صدر الإسلام مساحة كبرى، ثم أخذت تتسع شيئاً فشيئاً باتساع رقعة الدولة الإسلامية التي لم تكن مقنَّنة حين اتساعها، لذلك سرعان ما نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً، والتاريخ أمامكم، اقرأوا فيه وتدبروا، ستجدون الكثير مما يوجب علينا أن نكبر خمساً على الكثير من مشاهده.

فالسنة المطهرة دخل فيها الكثير، وعبثت بها الأيدي، وتقاطعت المصالح:

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى    وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

فالنص إن لم يوجَد فإنه يمكن أن يُصنع ليُستدل به على قضية من القضايا التي يراد من ورائها إرضاء النفس تارة، أو الحاكم تارة أخرى، أو جهة الانتماء في حالة ثالثة.

3 ـ القيام بالمسؤوليات الدينية:

والأمر الثالث الذي ينبغي أن نلوذ ونتمسك به، ونرجع إليه لنصل إلى الهدف والغاية من تصحيح حالة الانحراف وسط الأمة، هو القيام بالمسؤوليات الدينية التي افترضها الشارع المقدس علينا، والمحافظة على العقود المدنية بيننا وبين الحكام الذين يتناوبون الحكم على البشرية، فالله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. فدول تقوم وتزول، ثم تأتي بعدها دول وتزول، فلا بد أن يكون العمل على حساب الأوطان وليس الحكومات.

هنالك عقد التزام مع الشريعة قوامه أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فإن قلنا ذلك دخلنا في حظيرة الإسلام، وأصبحت تربطنا به مجموعة من القوانين والنظم التي أجهد النبي (ص) وآله (ع) والأصحاب المنتجبون أنفسهم لتثبيتها، وسقوها بدماء نحورهم لتصل إلينا قوية متماسكة، وها هي اليوم تسوس الكثير من المشاهد بناء على ما هو مؤصَّل.

أما العقود المدنية بين الناس والنُّظم فلا بد من احترامها أيضاً، وخير دليل عليها العقل، ونعني به العقل النوعي لا العقل الشخصي، فنحن نعلم أن العقل الشخصي متى ما أعطيناه الحكم فإنه يبقى في حدود دائرة تضيق على نفسها وفق المصالح التي يرتئيها من يدعي العقل أو أنه لا يحاكم إلا على أساس المنتج العقلي، ونحن عندما نقرأ في مدارس الفكر والتنظير، أو عندما نقترب إلى مساحات المقننين والمشرعين في مصالح الدول والحكومات، نجد في الأعم الأغلب أن القوانين مسيَّسة ومجيَّرة، ولكن على الإنسان الذي أقرّ بعقد أن يلتزم بلوازمه.

وكمثال بسيط على ذلك أن دائرة المرور لها قوانينها الخاصة، وهذه القوانين وإن كانت منتجاً بشرياً، حيث اجتمع مجموعة من المشرعين والخبراء المختصين ووضعوا تلك القوانين، إلا أننا يجب أن نلتزم بها، وإن كنا لا نعطيها عصمة، ولا ندعي أنها وحي منزل لا يرد ولا يناقش، ولكن حيث إنها أُقرت بالتوقيع الرسمي، فالمواطن ملزم بتنفيذها لأنه يعيش عقد المواطنة، وهذا العقد له ضريبته، ومنها إجراء القوانين والالتزام بمعطياتها.

ومن باب التذكير أن سماحة السيد المرجع (حفظه الله تعالى من كل سوء) يشدد على قضية الالتزام بالقوانين والضوابط التي تضعها الأنظمة لما فيها من الصالح العام.

فمثلاً عندما تضع إدارة المرور حداً للسرعة، فإن لديها مقدمات دفعتها لتقنين السرعة، أما أنا وأنت فليس لدينا إحصائيات واضحة بالخسائر والضحايا في الأنفس والأموال، فهم على علم دقيق بجزئيات الأمور، ويدركون خطورة الموقف وصعوبته، وليس لنا منها نحن سوى الظاهر.

فمن يعيش في دائرة قرية أو منطقة صغيرة لا يمكن أن يدرك ما تؤدي إليه السرعة من المخاطر، اللهم إلا إذا أصيب بمصيبة ـ دفع الله عنا وعنكم ذلك ـ عندها يردد القول: لو أن فلاناً لم يسرع، ولو أن السرعة كانت أقل، وما إلى ذلك. وما عسى أن يجدي ذلك؟ إلا أنه لو كان هناك التزام بالقانون المروري لكان الحال مختلفاً. وعلى هذه فقس ما سواها.

4 ـ نبذ الصفحات السود من خريطة التفكير المعاصر:

فكلنا يعلم أن التاريخ مثقل بنتاج النزوات، فالأمم من حولنا لها تاريخها، كما أن لأمتنا تاريخها، وليست هي في تاريخها أنقى مما نحن عليه في تاريخنا، فكل أمة مبتلاة بالدس والتزوير، لأن أقلام التاريخ في الأعم الأغلب إنما تتحرك بناءً على المكسب المادي، وإن شئت فاستعرض قائمة بأسماء الذين سطرت أسماؤهم على أنهم أعلام التاريخ، وأنهم حملته، ومن سعى لربط الماضي بالحاضر، لتقرأ في حياتهم ما يندى له الجبين، وإن اتصفوا في ظاهر الحال بالعلم، وإن تمظهر بعضهم بمظهر القداسة، إلا أن هذا هو الواقع.

فلو أننا نبذنا تلك الصفحات من أوساطنا السوداء، لما آل الأمر بنا إلى هذا الحال، فقد مرت أربعة عشر قرناً من الزمن لم تتوقف فيها نحور المسلمين من نزف الدماء، وكأنما هو قدرنا، في حين أن الإسلام جاء من أجل السلام والمحبة والتعاون والتعارف: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا﴾([3]). أما ما نراه اليوم فهو مصداق (لتهالكوا) وليس (لتعارفوا) ونحن في دائرة الإسلام والمسلمين، فكيف الحال لو كان الأمر بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الملل والنحل والطرق؟ فإذا كان الإسلام يؤمِّن في هامشه النسبي شيئاً من المحافظة فما عسى أن يكون لو أسقط هذا اللون من ألوان المراعاة؟

5 ـ فتح الآفاق للإصلاح:

وذلك أمام كل من يريد الإصلاح في هذه الأمة، فكفانا فيما مضى تقييداً وتكبيلاً ومصادرةً ومحاربةً وتسقيطاً لرموز الأمة، منذ بداية القرن العشرين الميلادي وإلى يومنا هذا. فلا يستطيع الشاعر أن يحلق، ولا الفنان التشكيلي أن يبدع، ولا المؤرخ أن يحرر، ولا المنظِّر أن يتفوه، وكلهم يسعون من أجل مصلحة واحدة تعني الإنسان بما هو إنسان، ومن باب أولى أن يكون في حدود الإنسان المسلم، فعلام تحصل هذه الحالة من الإخراج والطرد من الدين لرموز كبار؟

فمن منا لا يعرف السيد جمال الدين الأفغاني (رحمه الله) ؟ فهو علمٌ بارز، إلا أن البعض وسمه بالإلحاد! وهو من أهم قامات الإصلاح في وسط الأمة الإسلامية. وعلى هذا فقس ما سواه.

صناعة الرمز القيادي:

من هنا نسأل: ألا نحتاج إلى رمز يقود المسيرة؟ الجواب: نعم، ولكن من هو الرمز؟ ومن أي مصنع يتولد الرمز الذي يعنى بشأن الأمة وإقامة الأود فيها؟  

ينبغي أن يتولد من واحدة من ستة مصانع:

أ ـ القبيلة أو الطائفة: فإن القبيلة يمكنها أن تصنع رمزاً تؤمّره عليها وتنصبه لا سيما في المجتمعات التي لا تعيش علماً ووعياً ومعرفةً، فالرمز القبلي هو من يطعمها ويكسوها ويذبّ عنها.

وأما الطائفة فهي أوسع دائرة من القبيلة وإن اشتركا فيما بينهما في الكثير من الموارد، فالطائفة ليست مرادفة للقبيلة، إلا أنهما تلتقيان في نهاية المطاف.

فالقبيلة والطائفة تتفقان على الرمز القيادي. وربما يتعثر حال الطائفة في استكشاف الرمز، فتدفع الكثير من الضرائب، وهذا التاريخ أمامنا، ولولا الخشية من حساسية البعض من الأسماء لاستعرضت قائمة تطول وتعرض.

ب ـ الحزب والجماعة: فبعد الثورة الفرنسية أخذت الأحزاب لوناً من التشكل، فتأثرت بها المجتمعات الشرقية من أتباع الإسلام وغيرهم، وهذه الأحزاب لا بد أن تقدم رمزاً تتمحور حوله في جميع أمورها وشؤونها. وكذلك الجماعات، وهي أصغر من الأحزاب، فربما كان الحزب عبارة عن تكتل بين جماعات هنا وهناك، فهؤلاء يقدمون رمزاً لهم، وهذا الرمز إما أن يأخذ بالأمة إلى حيث تريد من السعادة والصلاح، ورموز الإصلاح كُثر، أو أن تبتلى الأمة بطاغية كما ابتليت أمة الألمان بهتلر مثلاً، أو العراق بطاغوت العراق، اللذين أخذا بأممهم إلى الهاوية، وسحقوا المجتمعات.

ج ـ السلطات الحاكمة: فعلى مر التاريخ لا بد من الحكومات لانتظام الأمر، وهذه الحكومات لا بد لها من رمز، سواء سمي ملكاً أم رئيساً أم أميراً أم سلطاناً أم غيرها من العناوين، فالعبارات متعددة إلا أن النتيجة هي الرمزية القيادية في وسط الأمة أو  المجتمع أو الدولة. وهذه الرمزية التي تصنعها السلطات الحاكمة ليس بالضرورة أن تكون الأفضل بين أبناء الشعب، لكنها وصلت إلى هذا الموقع، ولا بد أن تتسيد الموقف.

وهنا تكتمل الصورة، فعندما تكون السلطات الحاكمة للشعوب تعي مسؤولياتها فإن الشعوب ترشد، فتكون الحكومة رشيدة والشعب كذلك. وهناك الكثير من الشواهد والنماذج في التاريخ، وتاريخنا المعاصر لن يبخل علينا بمثل تلك الشواهد.

د ـ المصالح المشتركة ودوائر القرار العالمي: ومسار هؤلاء مسار براغماتي، فهم دائماً وأبداً يصوغون الأمور وفق المصالح والمنافع، فاليوم ليس بالضرورة أن تنشب حرب بين دولة وأخرى بقرار خاضع لإحدى الدولتين أو كلتيهما، فربما يكون بقرار ممن هم وراء الكواليس. ومن يقرأ نشوء الحضارات من جهة، ويتقدم في قراءته فيما يقدمه كثير من العهود الحديثة التي كتبت بأقلام المنظِّرين في مدرستي الشرق والغرب (الاشتراكية والرأسمالية) يخلص إلى هذا المدّعى الذي لا أدعيه جزافاً، إنما هو الواقع الذي لا بد أن يضاف إلى مصدره، وإلا فسوف نذهب بعيداً عما نحن في صدده.

فأصحاب دوائر القرار العالمي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيم الدول إلى دويلات، وتقسيم العالم إلى شمال وجنوب، والعالم ينزف دماً، فما قُتل بعد الحرب العالمية أضعاف ما قتل فيها، وما قتله (ستالين) وحده من أبناء شعبه ضعف ما قتله هتلر! ولكن التاريخ يصب اهتمامه على هتلر باعتباره مجرماً، وينعت ستالين بأنه القائد الذي أطاح بالقيصرية، ومصحح المسار، ورائد النهضة الصناعية. في حين أن ستالين صنيعة الدوائر العالمية التي جعلت منه رمزاً.

هـ ـ اللطف الإلهي: وهو المصنع الأهم، فمن الشرف أن يضاف الإنسان إلى هذا اللطف. يقول تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾([4])، وهذه المسيرة اختص الله بها الأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء، وما عداهم يكون الناس في سباق وسجال، فكل منهم يبحث عن الأكمل، لا سيما في وضع حجر الأساس. فهنالك دول قامت على شعار ظاهره الكمال، كما في نشوء الدولة العباسية التي رفعت شعار: الرضا من آل محمد (ع)، بعد الظلم والجور الذي انصبّ عليهم من الأمويين، ولولا هذا الشعار لما استطاعوا أن يصلوا إلى السلطة، ولكن بعد ذلك نجد أن سادة هذا الشعار تم تصفيتهم بأيدي من رفع الشعار، كما حدث مع الإمام الكاظم والإمام الرضا والإمام الجواد (ع) وغيرهم من الأئمة.

مقام الأئمة (ع):

ولأئمتنا (ع) خصوصياتهم، ومن غير الصحيح ـ أيها الأحبة ـ أن لا نقبل في هذه الفترة من الزمن الكثير من القضايا والمقامات والرتب التي تنسب إليهم وتدل عليها النصوص، لا لشيء إلا لأننا لا ننسجم مع هذا الوضع.

فمثلاً، أن الإمام الجواد (ع) الذي عشنا ذكرى شهادته أصبح إماماً للأمة، بل للبشرية جمعاء، وهو في السابعة من عمره، فقد يقول البعض: وهل هذا مقنع؟ كيف يكون ابن السبع إماماً وهو في هذا العمر؟ نقول لمثل هذا: هل لك روافد تستقي منها، أو أصول تأخذ منها؟ أو أنت بين بين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟

فإن كنت ممن يؤمن بمحمد وآل محمد (ع) فدونك المنابع الأصيلة التي وردت عنهم، فأنت بهذا اللحاظ صاحب التزام ديني، وحيث إنك كذلك فعليك أن تأخذ من هذا المنبع الثر الأصيل.

وإن كنت تريد الدخول من باب الإقناع وعدم الاقتناع، فهذا الباب لا يقف دونه أمر، وبإمكان المرء أن يرفض الاقتناع حتى بأشد الحقائق وضوحاً، فالحقيقة في أعلى درجاتها نسبية وليست مطلقة، فالحقيقة المطلقة صنيعة المطلق، وهي لم توهب إلا لمن اختصهم الله تعالى من أنبياء ورسل ومنهم محمد وآل محمد (ع). بل حتى في المسائل الرياضية يمكن الادعاء بعدم الاقتناع.

فمما تذكره كتب التاريخ من العامة والخاصة بعض القضايا التي حصلت مع الإمام الجواد (ع) وهو في السابعة من عمره، أو ما بعدها بقليل، وهو ما كان مع يحيى بن أكثم، قاضي قضاة الدولة العباسية، ومعه الأعلام من العلماء وأرباب القلم، حيث طرحت مسألة أريد منها اختبار ذكائه وفطنته وعلمه، إلا أن المسألة رجعت عليهم، فصاروا يتحيرون ويحجمون عن الجواب وهم في إحراج شديد. وإذا بالإمام الجواد (ع) يفتح لهم من أبواب العلوم والمعارف ما جعل أحدهم يعض على أنملته في محضر الإمام والخليفة.

لذا فإننا إذا أردنا أن نقدم أئمتنا للبشرية والناس من حولنا فلا بد أن نقدمهم على أساس متين، لا على أساس قضايا نخترعها نحن ظناً منا أننا نضيف إليهم شيئاً، في حين أنهم هم الذين يضيفون لنا كل شيء.

يقول الإمام الجواد (ع) متحدثاً عن نفسه وهو في مسجد جده رسول الله محمد (ص): «أنا علي بن محمد الرضا، أنا الجواد، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب. أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه. علمٌ مَنحنا به من قَبل خلق الخلق أجمعين، وبعد فناء السماوات والأرضين». وكان هذا بحضور علماء المدينة وأرباب المذاهب.

ثم يضيف: «ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل الضلال ووثوب أهل الشكّ، لقلت قولاً يتعجب منه الأولون والآخرون». وهو أشبه بقول جده أمير المؤمنين (ع): «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذًى وفي الحلق شجًا. أرى تراثي نهباً»([5]).

ثم وضع يده على فيه وقال: «يا محمد اصمت كما صمت آباؤك من قبل»([6]).

مثل هذا الإمام العظيم، لو تصورنا أنه عاش سبعين سنة أو أقل بقليل فما عسى أن يكون حال الدنيا؟ إلا أنه لم يعش سوى سبع وعشرين سنة، عومل فيها كما عومل أجداده من المراقبة الشديدة اللصيقة والمتابعة والسجن.

نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.