نص خطبة: الثقافة والمثقفون بين الواقع والجموح (2)
روى المبرد وابن عائشة أن شامياً رآه ([2]) راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن (ع) فسلم عليه وضحك، فقال: أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبّهت ([3])، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفاً إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً.
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ ([4]) وكنتَ أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحب خلق الله إليّ. وحوّل رحلَه إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم ([5]).
هذا ملخصٌ موقفٍ للسبط الأول (ع) مع شامي أرعن، وحيث إن أهل البيت (ع) هم القدوة، فإننا نقتدي بهم، فنقول لشامي من هذا القبيل: حسبُك ما قال جدُّنا السبط الأول، فإن كنتَ واحداً من هذه الأصناف فهيا بك إلى بيتنا، وقبل ذلك فإن الصدر أرحب.
التحدي الثقافي ووعي الأمة:
أسوق الحديث هنا استتماماً لم تقدم في الأسبوع الماضي عن واقع المثقف والثقافة، وما لهما من أثر وسط الأمة، فهنالك تحدٍّ كبير تقوده الأمة، واحدة من شرائحه هي شريحة المثقفين.
فالثقافة عصب الحياة لمن أراد أن يحيا حياةً يكتنفها التقدم والمدنية والحضارة من جميع حوانبها. وبالمقابل ربما تتحول الثقافة إلى خنجرٍ يطعنُ في الخاصرة، وعندما نقول: إن فلاناً مثقف، فأرجو أن لا يتحسسَ أحدٌ من ذلك، لأن هذا العنوان ينطبق على كل من يحظى بنصيب من معرفة، أو ينطبق عليه ما تقدم في الأسبوع الماضي من تعريف، ومن شاء فليراجع الموقع.
ورجل الدين شأنه شأن غيره، فقد يكون واعياً متنوراً حضارياً مدنياً، متعدد القراءات، وربما يتذيَّل القائمة في ذلك، فيصعد إلى درجة الممتاز، ثم ما يلبث أن ينزل للدرجة التالية، ثم يكون نسياً منسياً.
هذا هو واقع الحال، ويمكن للإنسان أن يُعدّ بيده ما يمكن أن يتقدم به من خلاله، فليس في الثقافة صكٌّ خاصّ بها، أو تكون بيد جماعة، أو تمنحَ لفريقٍ وتمنع عن آخر، إنما يكون الجميع على قدم المساواة، فمن حق هذا أن يشتري ويبيع، ومن حق ذاك أن يفعل مثله.
وإذا ما أردنا أن نتبع رموزاً نقتدي بها في سيرنا الثقافي والتثقيفي، فلا أظن أن رموزاً عرفها التاريخ، حملت مشاعل الثقافة والتنوير، أكمل وأكثر مما قام به محمد وآل محمد (ص).
وللتقليد الأعمى ضريبة باهضة في جميع مجالات الحياة، فهو من المرديات التي تُسقط في الحضيض، سواء كان في الجانب المادي، ـ ومن جرب المجرَّب فقد هلك ـ أم في الجانب المعنوي، الذي يندرج في طيه الثقافة.
فللثقافة مصادرها الكثيرة كما سوف نقف على بعض من ذلك، ولو باستعراض سريع. فالثقافة لها مصادر ومنابع، وللمنابع روافد، وللروافد فروع. والمهم في الموضوع هو المنبع، ومن أين يستقي المثقف معلومته؟
واليوم، هنالك استدارة إلى الوراء عند بعض من يدّعون الثقافة، وبظني أن من يستجدي مشروع الثقافة من وراء الحدود على حساب الأصل والتأصيل، مخطئ في قراءته. بل إنه لم يعِ هذه المفردة في تركيبها من المادة والهيئة المنتج مفهوماً.
وأؤكد باستمرار، أن فكّ المفهوم يحمل المفتاح للولوج إلى مساحات أكبر، فما لم يفتح المفهوم، ويفكّ كما ينبغي، فإن شفراته المنفكّة في الخارج، قد لا تكون منتظمة في سلك واحد، وهو ما يترتب عليه الخطر الكبير.
خطر التقليد الأعمى:
إن التقليد الأعمى قد نتلقاه كدروس في بيوتنا، حيث يغرس الأب في ذهنية الطفل حالة من ذلك النوع من التقليد، فيطلب من الطفل الصغير مثلاً، أن يحذو حذو أخيه الأكبر، ولو كان الفرق بينهما سنين قليلة، وهذا خطأ كبير، لأنه تقليد أعمى، حتى لو كان الأخ الأكبر حسن السير السلوك، متفوقاً في دراسته، ناجحاً في حياته، لكن القابليات تختلف من شخص لآخر، كما أن الزمن يتصرّف، والمكان كذلك، والأستاذ يختلف من شخص لآخر، وكذلك الفضاء الواسع ـ وهو المجتمع ـ يتغير من منطقة إلى أخرى، فعناصر هذه المنطقة تختلف تماماً عما هي عليه في منطقة أخرى ينتقل المرء إليها.
إن التقليد الأعمى يجعلنا ندفع ضرائب باهضة، منها:
1 ـ استنزاف مكامن القدرة: التي منَّ الله تعالى بها علينا، فقد منّ الله تعالى علينا بقدر هائل ورصيد كبير من الذكاء والحافظة والقوة الجسدية، فهناك تكافؤ وتفاعل كبير بين قوة الجسد والروح، ولو أننا سرنا على خلاف هذا المنهج والتكوين الرباني فلا شك أن النتائج سوف تكون مُردية.
وكمثال على ذلك أن شبابنا يبدأون بسلّم تصاعدي من حيث ميزان التفوق في التحصيل العلمي، فيبدأ الشاب بدرجة جيد جداً، ثم يرتقي ويرتقي، نتيجة الرقابة والجدية في المدرسة، والشعور بالمسؤولية من الطالب، ثم يرتقي أكثر وأكثر، والأمر إلى هنا مطلوب، لكننا نرى فجأة أن ذلك الطالب الذي يمتلك الكم الهائل من القدرات المحشَّدة تكويناً، بدأ يُبرز نتاجاً لا يتوافق وتلك القدرات والمنن الإلهية عليه، والتي حاول أن يصقلها ويحافظ عليها لفترة معينة، فما هو السر في ذلك؟
السر هو المحيط، فهو عامل مؤثر، سواء كان المحيط الأكاديمي أم الحوزوي أم الاجتماعي العام. وقد يتصور البعض أنه عندما يذهب في اتجاه معين فإنه يضمن نفسه ويستطيع تحصينها، والحال أنه لا ضمان مطلقاً، فالحصانة التي نراها عندي وعندك، إنما كانت كذلك لأنها لم تصطدم بواقع، ولو أنها اصطدمت فربما لن تكون هناك حالة من التكافؤ، فيحصل الضياع والشتات.
وكمثال على ذلك، أنك ربما تجد بعض الشباب قد ارتقى في سلّم التفوق والتقدم الدراسي، إلا أننا لا نجد له بعد التخرج والاندكاك في المجتمع نتاجاً ملحوظاً قد أفرزه للأمة، لا لأنه لا يمتلك القدرات، فهي موجودة، لكنها بدأت تضمر، والسر في ذلك هو المحيط الذين يدجِّننا ويذهب بقدراتنا ويهمشنا ويلغينا.
وبإمكانك أن تجري استقراءً في ظاهرة الجلسات، وتخلص إلى نتيجة، فالجلسات والاستراحات والمجالس كثيرة، لكنها لا تتجاوز حدود رفقة المكاشرة وتبادل الطرائف وتقطيع الليل بمثل هذا وذاك.
إن أياً منا إذا نوى أن ينخرط في مجموعة أو منظومة فعليه أن يقرأ أن ثمة زيادة يرتقبها، فإن حصل على عناصر قوة تضيف إلى قدراته قدرة أخرى، فسوف يندكّ فيها، وهذا طريق سليم، ولا يمكن لأحد أن يقول له في مثل هذه الحال: لا تحضر الاستراحات أو الجلسات، فالمجالس مدارس، لكن الأهم أن نقرأ المشهد قبل أن نندكّ في محيط ما، وأن نعرف من هم الحضور؟ وماذا سوف يقدمون؟ وماذا يمكن أن نفيد منهم؟ والفائدة قد لا تكون بالضرورة علمية، إنما قد تكون تربوية، أو فائدة في أمر من أمور الدنيا، فكل ذلك لا يمنع، وإن كان المجال العلمي هو الأهم.
إن الكثير من قدراتنا تُستنزَف بسبب التقليد الأعمى، فنحن نقلد الكثير من أعمال وسلوكيات وحركات أقراننا، في لباسهم وحركاتهم وكل شيء، لا أكثر من هذا ولا أقل. لذا نجد أنه حتى الكبير في تلك الجلسات يصغر مع مرور الأيام ويذهب بريقه، ويكون حاله حال أصغر فرد في الجلسة، فالمثل المشهور يقول: بين الأحباب تسقط الآداب، وإذا سقطت الآداب كان ما لا يحمد عقباه.
2 ـ فقدان الثقة بالذات: وهو مرض يطارد الكثير من الناس، لا سيما من يصطدمون بالواقع، وأكثر أولئك المصطدمين بالواقع هم من رجال الدين، على الأقل في مجتمعاتنا نحن، وإلا فإن المجتمعات الأخرى قد تكون طبقة السياسيين أكثر اصطداماً، وفي مجتمع آخر تكون طبقة المثقفين هي الأكثر اصطداماً، ومجتمع رابع أهل الفن، وهكذا.
ففي مجتمعاتنا يكون رجال الدين هم الأكثر اصطداماً، لأن الموروث يعين على ذلك، ونحن نصطحب التاريخ معنا غالباً، وكثيراً ما نكون مصداقاً لقول الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
فليس لأحدنا سوى أن يستعرض تاريخ أبيه، والحال أن أباه كان على درجة من العلم، وكان يبذل جهده من أجل الأمة، والابن لا يمتلك الرصيد العلمي الذي يملكه أبوه، وليس على درجة من الاستعداد للعطاء كما هو الحال عند أبيه، فالميزان مختلف، وليس هناك تكافؤ في المعادلة بين ميزانين، فإن أردت ذلك أيها الولد، فعليك أن تعدّ العدة، وتتفوق على أبيك في العلم، وتهيئ نفسك أن تبذل أكثر مما بذل أبوك، ثم استصحب ما شئت، بل إنك سوف تستغني عن الاستصحاب، وسوف تصبح مؤسساً ومنشِئاً.
من هنا فإننا قد نفقد الكثير من الثقة عندما نفقد الرصيد، وهكذا تجد أن رجل الدين قد يلجأ إلى الصراخ عند الحوار والمناقشة، لأنه لا يملك الرصيد الكافي للإقناع، وهو ما نراه على شاشات التلفاز بوضوح، سواء من رجال الدين السنة أم الشيعة.
لذا فإنك إن رأيت رجل الدين وهو يصرخ في حوار محتدم، فاقرأ عليه وعلى حصيلته العلمية السلام، وإن شئت فجرده من هذا العنوان الكبير.
ثم إن فقدان الثقة بالذات يحتاج إلى عملية استرجاع، ولا بد أن يكون ذلك مبنياً على أسس وقواعد، ويحتاج إلى جهد جهيد، ودخول معركة هي الأكبر على وجه الأرض، وقد رحّب النبي (ص) بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وأخبرهم ببقاء الجهاد الأكبر، وهو جهاد المرء نفسه.
3 ـ هدر الطاقات الخلاقة بغير الحساب:
إن هذه الأمور تجعلنا نقبل بالأمر الواقع الذي اختططنا قدره بأيدينا، فليس هذا قدراً من الله تعالى، فالله تعالى يقدّر، لكنه يأبى إلا أن يجري ذلك القدر وفق الأسباب، وهي الخيط المتصل بين الأرض والسماء، فقد أفرغ الله تعالى علينا القدرة، وعلينا أن نتصرف وفق ما بأيدينا منها، فإن استجبنا وفق الخط المستقيم فهو نور على نور، وإلا فلا. وهذا لا يعدّ تمرداً على الاختيار الإلهي، اللهم إلا عند ذوي النظر القاصر من أصحاب علم الكلام، أو أولئك الذين لم يطرقوا باب الفلسفة ويمسكوا بأبسط مصطلحاتها ويرتبوا آثاراً على ذلك.
إننا إذا وصلنا إلى هذه النتيجة من التسليم للأمر الواقع فسوف تكون هناك نتائج مريرة سوف ندفعها، ومنها التبعية الفكرية بكل أبعادها، فنحن نرى البعض فنظن أنه ممتلئ علماً، إلا أنه لا يملك سوى مجموعة من المصطلحات التي حفظها وراح يجترّها، أو بعض الأقوال التي قرأها أو سمعها لفلان أو فلان، بلا توثيق ولا سند.
وأعني بقولي: التبعية الفكرية بكل أبعادها جميع المجالات ذات العلاقة بحياة الإنسان، فلا تجد عند الفرد في مجال السياسة قراءة سياسية، ولا استنطاقاً للمشهد السياسي من حوله، فهو إمّعة، أو كالببغاء التي تردد صدى ما يقال.
وهكذا التبعية الاقتصادية التي أرهقت كاهل المسلمين منذ قرون وإلى يومنا هذا، فرغم القدرة والاقتدار عند المسلمين، إلا أن التبعية العمياء أوصلتهم إلى ما هم عليه اليوم.
وكذلك التبعية الاجتماعية، التي تجعل الأمة تعيش حالة من التخبط الواضح والمكشوف. فنحن نرى أن المجتمع الفلاني يسير على نسق معيّن، فيكون في حسابنا أن نحذو حذوه ونجاريه، في حين أن ذلك المجتمع له خصائصه التي تميزه عن غيره، فربما تكون مساحة الحرية لديه أكبر من تلك المساحة التي عندنا، فلا ينبغي المكافأة والمساواة بين المشهدين، ولا فرض الواقع الثاني على الأول وجعله سيداً عليه، لأن العناصر غير مكتملة، ولكل مجتمع عناصره الخاصة.
وبناءً على هذه التبعية تَنتج محصلة مرهقة مؤلمة، ألا وهي التخلف الأممي، حيث إن المجتمع الذي يعيش التبعية سيؤول أمره في المحصلة النهائية إلى التخلف الأممي، كما هو حال المسلمين اليوم، خلا بعض المواقع الخجولة، وإلا فإن السواد الأعظم في خانة التخلف مع شديد الأسف.
لكن هذا التخلف لن يدوم ولن يستمر أبداً، فبقاء الحال من المحال، ولا بد أن يحدث الغيير والتغيّر، ومعادلة التغيير والتغيّر من المفاهيم القرآنية المعروفة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوْا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ([6]). لكن هذا التغيير تارة يكون دفعياً، وأخرى تدريجياً، والحركة التدريجية للتغيير لها كذلك مناهج وسلوكيات، منها المرحلية، وهي نهج فكري تسير وفقاً له مجموعة من الأحزاب الإسلامية التي وصل قسم منها إلى رئاسات بعض الدول والتحكم بمقدرات الشعوب. ولكن يبقى السؤال قائماً: هل أن حال هذه الأحزاب والتوجهات والشخصيات فيما وصلت إليه اليوم هو أفضل من واقع الديكتاتوريات التي كانت تحكم هنا وهناك، أو أن المشهد ازداد سوءاً؟ هذا ما يحتاج إلى قراءة جريئة، وأظن أن المسلمين إلى يومنا هذا ليس لديهم الاستعداد أن ينفتحوا على قراءة صريحة منفتحة، بدليل أنك عندما تقترب من حقلٍ ما، كالحوزة العلمية مثلاً، وتريد أن تتناول ساحته بشيء من النقد، فهل أنك سوف تخرج سالماً؟
كان الشيخ عبد الكريم الزنجاني قطباً من أقطاب الطائفة، ووتداً من أوتاد الفلسفة في النجف الأشرف، وقد حصل على شهرة عظيمة عندما غادر النجف إلى بعض الأقطار الإسلامية، وأُعجب به الكثير من العلماء والمفكرين من الطوائف الأخرى. فلما عاد إلى النجف الأشرف أحدث انقلاباً في الوسط العام من شباب الأمة، فصارت الوفود تأتي من بغداد والبصرة ومناطق العراق الأخرى إلى النجف، وأمسى بيته مقصداً لهؤلاء. إلا النتيجة التي آل إليها أنه أصبح عرضة للتهم التي راحت تُكال إليه، لا من خارج النجف، إنما من قلبها.
وقد كان السيد الخوئي رحمه الله تعالى أحد تلامذة الشيخ الجليل، وبدأ دراسة الفلسفة على يديه، فحُجر على السيد الخوئي رحمه الله، وجُعل بينه وبين الشيخ الزنجاني حاجزاً.
لقد كان الشيخ الزنجاني قمة في الفلسفة، وما عداه كان دونه في ذلك، إلا أن أمره آل بعد ذلك إلى أن يكون جليس داره مدة عشرين عاماً وهي آخر سنيّ عمره!. فكان إذا سلّم لا يُردُّ سلامه، وإذا مروا به لا يسلمون عليه! كل ذلك لسطوع نجمه وإحساس البعض بقرب أُفولهم، وسحب البساط من تحتهم.
ونحن اليوم ندور في الفلك نفسه، فإذا برزت قمة من القمم، أو شمخت قامة من القامات تصدينا لها، والسبب واحد، وهو الخوف على البساط أن يسحب من تحت الأقدام، ولكنني أطمئن الجميع، أن هذا المشروع هو مشروع فكري تغييري سوف نسير به مرحلة بعد مرحلة حتى نصل إلى الهدف، وسوف لن أتراجع عن أسلوب وطريقة الطرح، ولكن بشكل مرحلي يتوافق مع متطلبات الساحة.
وقفة مع حوزة قم:
لقد بدأت إرهاصات الصحوة على يدي إمام الأمة رحمه الله تعالى قبل حوالي نصف قرن من الزمن في أحداث الفيضية المشهورة، وقد قلت في بعض المناسبات: إن من لا يعتقد بشرف قم فلا شرف له، ولا زلت مصراً على ذلك، لأنني أستقي المنهج من أصل المنهج، حيث ورد في الأخبار: «إن لله حرماً هو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم» ([7]). فهي عش آل محمد (ص).
إن إرهاصات التغيير يصحبها صراع ثقافي بين عقلية متخلفة متحجرة معتّقة أكل الدهر عليها وشرب، وتأبى إلا أن تسيّس المشهد وتسيره كما تحب وترضى، بما يحقق لها المصالح. وهناك جماعة أخرى ترى أن الماضي قد مضى، ونحن أبناء اليوم، والأئمة عليهم السلام يؤكدون أن الناس خلقوا لزمان غير زمان من كان قبلهم، وأستغرب ممن لا يقرأ رواياتهم ولا يتأمل فيها، ولا يذهب معها إلى ماهو الأبعد.
وهناك إشكاليةو مفهومية واضحة في الوسط العام تبدأ من الصراع في حدود الثابت والمتحرك في وسط الأمة، وهذا المطلب دفع ضريبته أعلامٌ من الطائفة ولكن بقي الأعلام وذهب غيرهم.
ومن هذه القامات التي دفعت الثمن السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله تعالى، وهو قامة أرادت أن تحدث تغييراً في وسط الأمة، لكنه جوبه وألصقت به أشد التهم، حتى طُعن في شرف العلوية أمه من قبل بعض العمائم واللحى! ثم انتقل إلى جوار ربه ليخاصم من يأتيه، واحداً تلو الآخر. وقد ذهب مناوئوه ليبقى هو في فكره ومبراته وصوته الذي يخترق الجدران هنا وهناك.
إن مسألة الثابت والمتحرك شغلت بال المتنورين في إيران قبل أكثر من ستين سنة، وقد أحدثت نتاجاً كبيراً لأنهم حطموا (المقدس المشوَّه) بدواخل ذواتهم، فنحن لدينا مقدَّس بما تحمل الكلمة من معنى، وعلينا أن نحني رؤوسنا لقداسته، ولكن هنالك مقدس مشوَّه، وهذا لا نحني رؤوسنا له، إنما نرفع الهامات عالية ونقول: كفى عوَرا وعمىً.
لقد أحدث السيد الإمام هذه الحالة في وجدان الأمة، ولا شك أن الحوزة كانت تلتهب، لأنها المناخ الطبيعي لتلقّي ذلك الفيض. والإمام بقداسته ونورانيته وعلمه وشجاعته وصبره الذي تحمل فيه شذاذ الأمة والمندسين والمنبطحين بين أروقتها، أوقع الآخرين في حيص بيص، حتى بات واحدهم لا يعرف ليله من نهاره.
وهكذا الحال مع السيد المرجع حفظه الله تعالى، فعندما تطاول على شخصه الكريم أحد أدعياء الدعوة السلفية، وكنت في محضره آنذاك، سألته: ما هو التكليف الشرعي مع مثل هؤلاء الذين ينالون من قداسة المرجعية؟ فأجابني: إن المقدس في الدين خمسة، التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد. هذه هي المقدسة في الشريعة. أي بمعنى أنها ثوابت، وما عداها متحرك.
ألسنا ندّعي أننا نقلد السيد المرجع؟ هذه هي رؤية المرجع، فلم السب والشتم والتطاول على الآخرين؟ هل يقدم ذلك أو يؤخر؟
إن كان البعض يتصور أنه سوف يلغي مشروعاً ما بهذه الطريقة فهو واهم.
في الختام أذكّر بوفاة الإمام الرضا (ع) التي تصادف الاثنين القادم، وهو غريب الغرباء، ولا زال غريباً، مع أن عدد الزائرين له في كل عام يبلغ ثمانين مليوناً. فلنجدد معه العهد والميثاق. وقد مر الشيعة في إمامته بمخاض عسير.
كما أذكّر بأربعين الإمام الحسين (ع) وهي عاشوراء الثانية، التي تعد مدرسة فكرية، حيث تتفجر كربلاء فكراً في الأربعين، فلننهل من فكرها ومعطياتها الكثير.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.