نص خطبة:الثقافة والمثقفون بين الواقع والجموح (1)

نص خطبة:الثقافة والمثقفون بين الواقع والجموح (1)

عدد الزوار: 853

2012-12-25

في الحديث الشريف عن الإمام الحسن (ع) المسموم المظلوم، صاحب القبر المهدوم قال: « سمعتُ جدي رسول الله (ص) يقول: خُلقت من نور الله عز وجل، وخُلق أهل بيتي من نوري، وخُلق مُحبوهم من نورهم، وسائر الخلق في النار » ([2]).  

في ذكرى شهادة المجتبى:

إن شهادة الإمام المجتبى (ع) بقدر ما فيها من الأسى واللوعة في قلوب المؤمنين، بقدر ما تعطي من مؤشرات تؤكد في مجموعها المستوى الّذي تدنّى إليه واقع ذلك المجتمع، فأن يُقتل الإنسان ويُقبر مما اعتاده الإنسان، ولكن أن يَنتَقِمَ الإنسانُ من جُثة هامدة فهو ما لم يألفه البشر، ناهيك عمن يدّعي الاعتقاد برسالة سيد البشر محمد (ص).

لقد وجد صاحب المناسبة في المجتمع من حوله تردياً واضحاً، ربما يترتب عليه ما هو الأسوأ، لذلك حاول أن ينهض بمشروع ثقافي عام، يأخذ بيد المجتمع إلى واقع أفضل، ولكن كلنا يعلم أن مسار التصحيح في عالم الانحراف ضرائبه كثيرة، قد تبدأ بالنبز بالألقاب، ولا تنتهي إلا بتصفية الذوات.

فالإمام الحسن (ع) كأبيه وجده، طبيبٌ دوّارٌ بطبّه، فهو لا يحتاج بذل مزيد جهد ليصل إلى تشخيص حالة المرض في ذلك المجتمع، لأن المرض وصل إلى حالة من التفشي بحيث لا يحتاج إلى مزيد عناء من أبسط الناس، ناهيك عن سيدهم في عصره.

الثقافة لغةً واستخداماً:

والثقافة والمثقف، من الأمور التي باتت تشغل مساحة كبيرة اليوم. والناس مع المثقف على طرفي نقيض، فربما أسهم المثقف نفسُه في رسم معالم هذه الحالة من التناقض، أما الثقافة بما هي ثقافة، فلا أظن أنها تُنتج إلا ما هو السليم، كالإسلام والمسلم، فالإسلام يحرّم القتل، لكن المسلم يقتل، والإسلام ينهى عن الفحشاء والمنكر، والمسلم يمارسهما، والإسلام يوصي ببرّ الوالدين، والمسلم يقطع الرحم، إلى غير ذلك من القوائم التي يمكن للإنسان أن يسطرها ويدبّج لها.

ولفظة (الثقافة) و (المثقف) وردت في اللغة، وأريد منها معانٍ كثيرة، كما أنها في الاصطلاح تطورت من جيل إلى جيل. فهي في اللغة تعني سرعة الفهم والتعلم. وتعني الفطنة والذكاء. وتعني التقويم والتهذيب. وتعني الظهور على الشيء والتغلب عليه. فيقال: رجلٌ ثَقِف، وامرأة ثَقِف.

بعد هذا التعريف اللغوي السريع لا بد أن نسأل من يدّعي أنه من أهل الثقافة، ومن يتحرك في ركابها: في أيٍّ من هذه المربعات رسمتَ المعالم التي على أساسها ادَّرعتَ عباءةَ الثقافة؟ هل هو سرعة الفهم والتعلم؟ أو الفطنة والذكاء؟ أو التقويم والتهذيب؟ أو الظهور على الشيء والتغلب عليه؟

يبدو أن العنوان الرابع هو الذي يكسحُ ما تقدم من العناوين ويتربع في ذهنية الكثير من مدّعي الثقافة كذباً وزوراً، ونحن لسنا في تقاطع مع إنسانٍ مثقف سبر أغوار الأمور، ووقف على حقائقها، ونأى بها عن مجموعة من الستور، لكن المثقف الذي لا يستطيع أن يتخلص من هذه الغوائل، ويُسقط هذه الستور، فنحن على تقاطع معه وتجانب له، وهو ما نقوله بصراحة ولا نخشى شيئاً.

إن المثقف اليوم يُفترض أن يشغل المساحة التي شغلها الصحابة الطيبون الذين سمعوا ووعوا ورتبوا الآثار على سمعهم ووعيهم. وتعاطي أصحاب الفكر ودعاة الثقافة هذه المفردة اليوم بما لا يناسب، سببه أنهم لم يضعوا في المعظم حجر أساس محكم، فسقطوا في غائلة الخلط بين المفاهيم، بحيث لو جئت للبعض منهم وسألته عن تعريف الثقافة والمثقف، ثم تركته يسترسل، وطلبت منه التعريف ثانية فإنه لا يستطيع أن يأتي بالضابطة الأولى، إنما يختلق تعريفاً جديداً. وربما كان ذلك وليد العشوائية أو عدم الضبط أو دفع دَخلٍ (كما يقول الأصوليون) ولا يخلو من واحدة من ثلاث. وفي هذه الحالات يفترض أن يَنصف المثقف نفسه من نفسه كي يستطيع أن ينصف الآخرين من نفسه، وإلا فإن المثقف إذا كان يبني لا على أساس محكم، فإن نتيجة هذا السير أنه سيكون أولاً بلا نهاية وهدف،  وثانياً أنه يعطل المشروع النهضوي الذي ينهض به أهل المسؤوليات، وعلى رأس هؤلاء مراجع الطائفة من أتباع مدرسة الحق، مدرسة جعفر بن محمد الصادق (ع).

ربما يتصور بعض الناس أن الثقافة والمثقف وليدة ساعتها, ونتيجة للطفرة النوعية إعلامياً وتقنياً وانفتاحاً، وأؤكد على المفردة الأخيرة. والانفتاح مفهوم له ضوابطه وروابطه، وعلى الإنسان إذا ما أراد أن يجعل من نفسه منفتحاً على الآخر بكل تشعباته، سواء في المذهب، أم الفكر، أم السياسة، أم غير ذلك، أن يقف على حدود الانفتاح وضوابطه وشرائطه، ليستطيع أن يتعاطى المشهد كما ينبغي.

وللثقافة والمثقف ضرب في الزمن، يعد بعشرات من القرون، بل ربما أكثر من ذلك. فالثقافة عند الرومان بَنَتْ حضارة، والرومان تعاطوا الثقافة من خلال معطياتها. وكانوا يستفيدون من مفردة الثقافة عند استخدامها للتدليل على القانون والآداب والعلوم. فهي تعني عندهم ـ فيما تعنيه ـ القانون والضابطية والأدب والعلوم. فالأمة أو الجماعة أو الدولة أو الفرد الذي يتحرك على أساس هذا المعطى من مفردة الثقافة لا إشكال أنه ينهض ويتقدم، وخير دليل على ذلك، أن مجموعة من الأسفار المتضمنة مجموعة من النظريات المؤصِّلة لبناء الفكر الإنساني من زمن الرومان، إلى يومنا هذا، لم تختلّ قيد أنملة، كما أن حالة التمظهر الحضاري خارجاً لا زالت تحمل إلى يومنا هذا الكثير من الشواهد على أن لهم قدماً راسخة فيها، ذلك لأنهم عاشوا المفهوم في حدود دائرته، فلما رفعوا السواتر، وكشفوا النقاب عن معطيات المفهوم نهضوا بذواتهم وبالأمة من حولهم.

ثم جاءت أوربا بعد ردح من الزمن، وبعد غيبوبة طويلة عاشتها البشرية، ما كان فيها من محطات سوى الإسلام الذي حاول أن يدفع البشرية إلى مسافات أبعد مما تتصور في قراءتها الضيقة، لكن البشرية، التي تتمثل فيمن اعتنق الإسلام يومئذٍ، وحتى عصر النهضة، لم تتعاطَ ذلك الكمّ الهائل من القواعد والأصول كما ينبغي، لذا انقلبت المفاهيم، وهو ما يفسر لنا معنى (انقلبتم) أي قُلبت مفاهيم الفكر وأصول الفكر رأساً على عقب، بحيث إن الضابطة التي يطرحها الإسلام كملاك على أساس منه تنحلّ مجموعة من القضايا، تم رفع اليد عنها، واستعيظت بصنيعة عقل بشري ليجعل منها الميزان.

فالإسلام يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ([3]). فجعل التقوى ميزاناً، فلا قومية المرء ولا جهويته ولا علمه ولا حال الإنسان من العلم والجهل والثراء والفقر، يقدِّم أو يؤخر في الحسابات الأولية، نعم، له مدخلية في الأمور الثانوية، أما في أصول القضايا وثوابتها فلا يقدم ولا يؤخر.

لما سار النبي (ص) على هذا المنهج استطاع المسلمون أن يصلوا بالرسالة إلى ما وصلوا إليه، لكن عندما بات الدين يُلبس كما يُلبس الفرو مقلوباً، تغير الأمر، ولك أن تقرأ حال المسلمين في تلك المرحلة من التردي، ذلك أن مفاهيم الفكر الأصيلة أصبحت مقلوبة، فالتقوى أصبحت في المرحلة الثانية، أما العلم والغنى والقوة فكلها أصبحت ملاكات أساسية، وهذا قلبٌ للمفاهيم ونقض للأسس.

وهكذا دخل العالم الظلمات في جميع جوانبه، سواء في أوربا أم في غيرها، وبظني أن أوربا خرجت من ظلمات ودخلت في ظلمات أخرى. والسر في ذلك أنها انقلبت على المفاهيم أيضاً، فلو أنها سارت عليها لما ارتدّت القهقرى في عالم الظلمات. والمبهور بأمريكا اليوم أو أوربا، أو من يسير في ركابهما ويتصور أن عالم النهوض والتقدم هناك فهو واهم، وربما يكون لهذه الدعوى مصداقية قبل خمسين سنة، أما اليوم فلا، يقول الشاعر:

قتل امرئ في غابةٍ   جريمة لا تغتفر

وقتل شعبٍ كاملٍ   مسألة فيها نظر

فها نحن نرى أن الدنيا تقوم ولا تقعد على من يُقتل وهو ظالم، يتسلل عبر الحدود بلا مسوغ قانوني، يقطع البحار والبراري ليفتك بالمسلمين، ثم يوصَم من يقتله بالإرهاب، ويوضع على لائحة المنظمات الإرهابية.

إنني لا أدافع عن الإرهاب والإرهابيين، بل إنني أرى الإرهابي مسخاً، ليس من البشرية في شيء.

فقتل شعب بكامله يعدّ مسألة فيها نظر، وهذا هو الملاك الذي تبنى عليه سياسة الغرب اليوم، والمسلمون نائمون، يكفيهم أن يتنقلوا بين صفحات (فيس بوك) و (تويتر) وغيرها من التقنيات التي دخلت إلينا.

ولو أننا اطلعنا على الأرقام والإحصائيات التي تصدر عن الكثير من المراكز الستراتيجية للبحث في الشرق الأوسط، لرأينا أمراً مهولاً، وهناك نسب مئوية عجيبة، ففي الوقت الذي تفكر بعض الجهات أن تغادر هذا الكوكب وتتركه لأهله، لتعيش في كواكب أكثر أمناً واستقراراً ورخاءً، لا زالت الأمة تعيش في الحضيض من مفردات ثقافتها. نحن لا زلنا نعيش حالة الانبهار بالتقدم العلمي والتكنلوجي والانضباط وما إلى ذلك عندما نذهب إلى أمريكا، وهذا أشبه ما يكون بالكتاب الذي أنفق صاحبه على غلافه 75 % من قيمة الطباعة، والباقي للورق داخل الكتاب، أما عن المعاني فلا تسأل. فظاهر هؤلاء كذلك، لكن المسلم لو رجع إلى إسلامه الصحيح الذي جاء من منابعه الصحيحة لكان المسلمون سادة العالم، فهم أهل القانون والأدب والفن والعلم والشرف والكرامة، فبين المسلمين يعيش من أراد أن يعيش بعزة وكرامة، ولكن عند الآخر لا يستطيع المرء أن يعيش بعزة وكرامة إلا على أساس الدولار. فلا تعتقد أنك محترم في بلد آخر خارج حدود هذا الميزان، لأن المقياس مادي صرف، وليس مقياس التقوى، والحديث عن التقوى أمر غريب.

فالانبهار بالشكل الظاهر مشكل، والتعمق في جذور القضايا يكشف الكثير من الأمور.

فمفردة الحرية مثلاً مفردة مقدسة، نادى بها الأنبياء والرسل وسار عليها المصلحون، ولكننا نرى اليوم أن هذه المفردة لا توجد مفردة ملوثة في الدينا كما هو الحال فيها، بسبب ما نالها من التدنيس، ومع شديد الأسف أن ذلك يحصل على يد من يحمل لواء الحرية. فمن يمسك بطرف الحرية تحول اليوم إلى وحش كاسر أكثر مما عليه الحال فيمن انقلب عليها.

لقد بنى الأوربيون على ما أسس عليه الرومان في بدء حركة النهضة، فاستخدموا مفردة الثقافة للدلالة على الآداب أيضاً، والفنون الإنسانية، وهي اليوم سبعة فنون.

يقول أحد أرباب ومؤسسي النهضة في أوربا: إن الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يكون فيها مبدأ خُلقي لأمةٍ ما.

وعند تطبيق هذا التعريف على أوربا، نجد أن بين التعريف وبين ما عليه أوربا اليوم بُعدَ المشرقين.

فمن أمثلة ذلك هذه الأيام، أن رئيس فرنسا قام بزيارة للجزائر، وهي بلد المليون شهيد، الذين قتلوا بيد الفرنسيين، ثم إن فرنسا أرادت أن تعطف على الجزائريين ففتحت لهم باب الهجرة إليهم، وهي أكبر مقبرة لهم. فلما نهضت فرنسا بثورتها، تردّى حال هؤلاء ـ وهم في الأغلب من البربر ـ وأصبحوا يسكنون الأحياء الفقيرة، وأصابهم الجهل والفقر، ومن ثم الفساد، لأن الفقر والجهل لا ينتجان إلا الفساد، فحصل ما حصل من تحرك منهم.

فعند زيارة الرئيس الفرنسي الجديد للجزائر، كان المتوقع أن يعتذر عن قتل مليون إنسان، لكنه كان ينظر بعين هنا ليُسكت البسطاء، وعين هناك في فرنسا، كي لا يُغضب الجناح الآخر، فكان يلمّح إلى أن فرنسا احتلت هذا البلد وتسببت في أذى أبنائه، دون أن يعتذر، لا عن المليون إنسان، ولا عن الأحياء التي دمروها في فرنسا.

فأين هي الحرية؟ وأين هم دعاة الحرية؟ لقد أصبحت دعوى الحرية سلعة تباع في الصحافة والإعلام بشكل عام.

وخلاصة ما يقوله هؤلاء عن الثقافة أنها تعني: الكل المركّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين.

أما المسلمون فيقولون: إن الثقافة هي المحيط الذي يشكل الفرد شخصيتَه فيه ويطبعها. وهو تعريف قريب من الواقع كثيراً، فأنت ترى أن البعض قد درس كثيراً، في المجال الديني أو غيره، وتراه واعياً مدركاً مثقفاً، لكنك عندما تقول له: هذا خطأ بيّن، يقول: صحيح، لكننا أبناء هذا المجتمع، ولا بد أن نسايرهم في أخطائهم. فأين هي مسؤولية المثقف؟

منبر الحسين (ع) والرقابة الشعبية:

واليوم هناك دعوة قوية لتصحيح ما يتلى على منابر الإمام الحسين (ع) وهي دعوى نأمل أن تكون صادقة. ولكن المسؤولية ليست على رجل الدين فحسب، فالخطيب عندما يصعد المنبر لا بد أن يكون الجمهور مسؤولاً عن الرقابة على ما يقول. وقد يضطر إلى مقاطعته إذا لزم الأمر ذلك.

ها نحنُ قد شاهدنا بعضهم، وعلى الهواء مباشرةً من العتبة، يخاطب الزوار المعزين من أصحاب التطبير، فيقول لهم: ليس المهم أن تُصلُّوا، إنما المهم أن تزوروا الحسين (ع) وتلطموا الصدور وتضربوا الرؤوس. فماذا تصنع مع أمثال هؤلاء؟ أليست المقاطعة قليلة بحقهم؟ إن هؤلاء، أضف إلى أنهم يخالفون الأصول الشرعية، فإنهم يفتحون الأبواب للمترصدين في القنوات المخالفة أو غيرها، ومن يكشف عن سوأته فلا يلومنَّ الناظر إليها.

وهذا الشاهد ليس من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لئلا يظن البعض من رجال الدين أنني أخلط بين هذا وذاك، إنما أقول: هذه مصاديق فقط، لكنها متى ما أضيفت لبعضها فسوف تنتج عموماً. فهل يسعني أن أقلل من قيمة قضية سلبية في الخارج بحجة عدم العموم؟. 

ومن الشواهد الأخرى ما حصل قبل يومين في وفاة السيدة رقية، فقد قال أحدهم: إن رقية نادت طالبة رؤية الإمام الحسين (ع) فجيء لها برأسه. وهذا ليس فيه مشكلة، إنما المشكلة أن الخطيب يقول لهم: سوف أقول لكم شيئاً ما سمعتموه من قبل، صحيح أنه يجرح القلب لكنني أقوله لكم، وهو أن رأس الحسين (ع) كان بين يدي يزيد، وفي يد يزيد قدح من الخمر، شرب منه قليلاً ثم صبه على وجه الحسين (ع)!

فهل يحتاج هذا الخطيب أن يضيف بشاعة ليزيد؟ وهل يحتاج يزيد أكثر من تلك البشاعة؟ إنه غير قابل للتجميل من الأساس، ومهما فعلت في تقبيحه فلن يزيد على ما هو عليه.

إنه يسيء لكريمة الحسين (ع) ويطعن في مدرسة بكاملها. ثم إن التاريخ أمامنا، والإمام السجاد كان موجوداً، فهل سأل الخطيب نفسه عن ردة فعله تجاه هذا الفعل لو أنه صدر من يزيد؟.

هذه مسؤولية الجمهور، ولا ينبغي أن يتساهل في الكثير من المفردات، وعلى أقل تقدير، أننا لو لزمنا الصمت والخطيب يقرأ، فإننا ننتظره حتى ينزل من المنبر ثم نسأله عن بعض ما لا يليق. ولا يعنينا منه إن كان قد درس في الحوزة أو لم يدرس، أو أنه يلبس العمامة أو لا، فإنه إن لم يحترم نفسه ودينه ومقدسات أهل البيت (ع)، فلا يمكن أن يحترم، كائناً من كان.

إطلالة نبوية في ذكرى استشهاد الإمام الحسن (ع):

عن النبي الأكرم (ص) أنه ذكر الإمام الحسن (ع) فقال: فلا يزال الأمر به حتى يُقتل بالسم ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لموته، ويبكيه كل شيء حتى الطير في جو السماء، والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمَ عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه ثبت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام([4]).

فالرسول (ص) يقول: من زاره في بقيعه، وهذه إشارة إلى أن الإمام الحسن (ع) لن يكون قريباً منه، إنما يكون بعيداً. وقد حصل ذلك، فقد دست له زوجته السمّ، وقد تناقل الناس بعض الأخبار مفادها أن معاوية أغراها بالزواج من يزيد، ولكن هذا لا يُعقل، فأين يزيد من الحسن (ع) حتى يكون مدعاةً للإغراء؟

وهناك من يقول: من أجل عشرة آلاف دينار، وهو لا يُعقل أيضاً، لأن الإمام الحسن (ع) كان إذا دخل عليه طالب حاجة يقول لغلامه: افتح له الخزانة، ولا يُدرى كم في الخزانة. فلم تكن زوجته محتاجة أصلاً.

ولكن يجب أن نلتفت إلى أن هناك مشهداً سياسياً من يوم وفاة النبي (ص) هو الذي جرّ الويلات، وهذه إحدى مفرداته، وكانت جعدة واحدة من المنظومة.

قد يقول قائل: وكيف يتزوج الإمام من جعدة؟ فنقول: وكيف تزوج النبي (ص) من فلانة؟ وكيف تزوج الأنبياء من قبل من أمثال هؤلاء؟ قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلَاً لِلَّذِيْنَ كَفَرُوْا امْرَأَةَ نُوْحٍ وَامْرَأَةَ لُوْطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمُا فَلَمْ يُغِنِيَا عَنْهُمَا مِن اللهِ شَيْئَاً وَقِيْلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِيْنَ([5]). فلا كلام لنا فيما يفعله المعصوم، وعلى كل منا أن يحترم نفسه وحدوده وثقافته ومعرفته، فلو أنك جمعت عقول البشرية كلها وجعلتها أمام علم واحد ممن تحمّل أسرار محمد وآل محمد (ص) فإنها لا تصل إليه، فضلاً عن المعصوم.

ولكننا نرى أن الناس تقتل أو تموت فتكرَّم، إلا سبطي الرسول (ص).

ربيبة المصائب:

إنني لم أكن أفكر بقتل وسم قدر تفكيري بفخر المخدرات زينب (ع) التي بدأت قصتها قديماً لما كان النبي (ص) يحتضر، والمؤامرة في داخل بيته، وكانت الخسارة الكبرى بالنبي (ص) يوم كان عمر زينب خمس سنوات.

وما هي إلا أيام قلائل حتى خسرت الحضن الوادع الذي يحتضنها، ولم تكن تلك الخسارة كما حصل مع النبي (ص) المسموم([6])، فقد تسارع أكثر من واحد لدفع الباب وعصرها كما ينقل البعض، والبعض الآخر يقول: إن الرجل أمر قنفذاً بذلك، أما الضرب فقد تكرر من أكثر من واحد، فكان أحدهم يلكزها بنعل السيف، وهو ابن الوليد، والآخر يضربها بالسوط، حتى اسودَّ متنها، وكانت زينب (ع) ترى ذلك بأم عينيها، وقد نادت الزهراء (ع) خادمتها فضة، لأن زينب  (ع) كانت صغيرة. ولم تنادها حتى يئست من أمير المؤمنين (ع). 

أما الرجل فلم يكتف بعصرها وراء الباب، إنما قام بثلاثة أمور: رفسها في بطنها فأسقطت جنينها، ولم يكتف بذلك، إذ إنها لما لاذت وراء الباب شعّ نور من وجهها، فرفع يده فلطمها على عينها، ولم يكتف حتى وضع رجله في الجدار، وأسند ظهره للباب، فعصرها، عندئذٍ وقعت على الأرض فأسقطت جنينها. وهنا جاءت زينب وهي تنادي: أماه ... أماه ... أماه. وكانت الزهراء (ع) لا تجيب لأنها في غيبوبة.

ثم جاءت مصيبتها في أبيها علي (ع) فهي التي استقبلته لما جيء به محمولاً من مسجد الكوفة والدم يخضب كريمته.

وفي مثل هذا اليوم، عاشت واقعاً آخر، وقرأت منه مستقبلاً مخيفاً مرعباً مربكاً قاتلاً، وهو ما حصل مع الإمام الحسن (ع) يوم شرب السم، من يد جعدة بنت الأشعث.

أما الحسين (ع) فقد رأى أخاه الحسن (ع) مسجىً، والمنية تقترب منه شيئاً فشيئاً، حتى قال الحسنُ للحسين (ع): أي أخي، أدنِ مني الطست، وكان يريد أن يتقيأ، فأدناه منه، فصار يتقيأ قطعاً من الدم، أي أن السم كان فتاكاً.

في هذه الأثناء، والإمام الحسن (ع) يتقيأ، دخلت زينب (ع) إلى الغرفة، فالتفت إلى أخيه الحسين (ع) قائلاً: أخي حسين، نحِّ الطست عنها، إني أخاف عليها، ولها يوم غير هذا. وهو ما حصل في يوم كربلاء.

سلام الله على زينب، وحفظ مقامها، وجعلنا الله وإياكم من زوارها، وعظم الله لنا ولكم الأجر في السبط الأول.

والحمد لله رب العالمين.