نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (3)

نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (3)

عدد الزوار: 2722

2015-07-14

النبأ العظيم:

عن ابن عباس أنه قال: نزلت في علي ثلاثمئة آية([2]). وقال: ما أنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا﴾ إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير([3]).

وفي كلام  لمعاوية ملك الشام يصف علياً (ع): لو ملك بيتاً من تبر، وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه([4]).

عليٌّ (ع) هو أنشودة الإسلام الخالدة التي وضع تقاطيعها ربُّ السماء، ورتب أوتارها خير البشر محمد (ص). وهو تجسيد واقعي لإرادة الله سبحانه وتعالى في الأرض، اصطفاه واجتباه، ولكن أدارت الأمة ظهرها له، لترد في موارد كانت في غنىً عنها. ولو أنهم قلدوه أمورهم لكانت الدنيا رهناً بين أيديهم.

علي (ع) حلقة الوصل بين غايات السماء وطموح الأرض، وهو الجوهرة التي لم يعرف لها الوجود مثيلاً، تفنن في صناعتها وإبرازها حبيب الله المصطفى محمد (ص) وما عسى أن تكون تلك الجوهرة المعصومة في تكوينها، والمصطفاة في إحداثها، وقد تولى النبي (ص) صياغتها! وهو المعروف بالعصمة، بل ما ترشحت العصمة إلا منه.

الثقافة في ميزان أهل البيت (ع):

كان الكلام في الأسبوعين الماضيين حول الثقافة وما لها من دور في بناء الأمة، وتعرضنا للبعد الأول بإسهاب نسبي، ووقفنا على معالم الرافد الثاني، ألا وهو معرفة أهل البيت (ع).   

ومن خلال الليالي الماضية في ذكرى شهادة المولى (ع) ولج كلٌّ منا إلى أكثر من زاوية وزاوية من زوايا حياة علي (ع) كلٌّ بحسبه. فهنالك مشيخة في أكثر من مكان، بالمباشرة أو الواسطة، أفرغوا مما نهلوا، وقدموا زاداً طيباً.

الحب الواعي والولاء الصادق:

إننا استزدنا حيث شئنا، وقصرنا حيث لم نوفق، ويبقى علي (ع) مفردة مستعصية على كل من يرغب أو يطمح أو يؤمِّل أن يفك جميع الشفرات المتعلقة بها، لأن علياً (ع) حصرٌ في معرفة كنهه على الله سبحانه وتعالى، وعلى النبي الأعظم محمد (ص). نعم، نحن نتعرف بعض المفاصل من حياته، فنقرأه في علمه بما وسعنا، ونقرأه في عبادته بما عشناه من قرب منه، ومن خلال شجاعته التي ما استطاع المنكرون أن يوصدوا الأبواب أمامها في ضرباته ومواقفه وصولاته، فما من فتح للمسلمين في عصر الرسول الأعظم (ص) إلا وكانت لعلي (ع) البصمة الثابتة، حتى عندما فرّ من فرّ، وتفرق من تفرق، وولَّوا الدبر، وهي واحدة من أكبر الكبائر، لم يثبت إلا علي.

وتبقى ثمة مساحة يناور فيها من لا نصيب لهم ولا حظ في العلم والوقوف على خفايا التاريخ، لا لشيء إلا لأنهم باعوا ضمائرهم، وخاضوا فيما خاض فيه الناس، من أن علياً (ع) هو ذلك الذي يتصرف في بعض المواطن لا لأنه علي، ولكن لأن النبي (ص) يتحرك به، وهذا من العجب، فهل هذا إلا تلاعب بالألفاظ، واستصغار لذهنية المتلقي؟ أو أن الأمور تنزّلت حتى بلغت (الاستحمار) للسذجة من السواد الأعظم من أبناء الأمة؟

إننا نعرف أن التاريخ كتبت أوراقه بمداد فيه ما فيه، ولكن أن يبعثر وفق طريقة معينة فهذا أكبر التعسف، وأن يزرَّق فيه إبر الإنعاش الملوثة اليوم، هو أسوأ ما يُنتظر، ولكن، سيبقى عليّ هو علي، لا يضره أن يتفوه مكلومٌ في نفسه هنا، أو مريض في عقله هناك، أو ممن باع نفسه للشيطان هنالك، فإجماع الأمة الإسلامية على أن علياً (ع) هو الأفضل، حتى قال بعضهم: الحمد لله الذي قدم المفضول على الفاضل، فلم يجدوا في أنفسهم أدنى حالة من التوقف أن علياً (ع) هو أفضل ممن تقدمه، لكنهم يحمدون الله أن المفضول قُدِّم على الفاضل. وكثيرة هي المفاصل التي لا ينبغي أن يتوقف عندها المرء طويلاً، أو يتساءل عنها كثيراً لأنه لا طائل من ورائها.

يقول لقمان الحكيم لابنه: ما ضرك لو قال الناس: إن في يدك جمرة، وما فيها إلا جوهرة؟ وما نفعك إن قال الناس: إن فيها جوهرة، وليس فيها إلا جمرة؟.   

أيها الأحبة: حبنا لعلي (ع) وولاؤنا له، وذوباننا واستماتتنا فيه، ليست وليدة رغبات، ولا كما يتصور البعض أننا زُرِّقناها سماعاً، وليس لنا أمامها حولٌ ولا طول، إنما رأينا علياً (ع) كالشمس المشرقة، فهو يعني الكمال، ولم نستجدِ ذلك من شعر، ولم نتمسك به من خلال نصوص تاريخية كتبتها أقلام غير معصومة، إنما تلقينا ذلك بنص القرآن الكريم، كما روى ابن عباس، وخرجه أصحاب الصحاح، من أن هناك أكثر من ثلاثمئة آية كلها تعني علياً (ع) وتمجد مواقفه وترفع من شأنه، وهل يلام من كان دليله لعلي القرآن إن أحب أو استمات أو أفنى نفسه في نهج علي؟

ثم ما عسانا أن نبحث ونبتعد وقد اختُصرت المسافة علينا بمنطوق القرآن تارة، ومن خلال لسان النبي (ص) وأهل بيته تارة أخرى. ففي القرآن الكريم: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ([5])، والنفسية هنا لا يخرج منها إلا ما كان بدليل خاص، والمستثنى أندر من النادر، وهو ما لا يلتفت له في حساب الاستثناءات.

وأما من لسانهم (ع) فهناك الكثير، منها قول علي (ع): «وإني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء»([6]). فالحال يتعلق بالشدة والضعف، وليس بالمغايرة، إذ ليس هنالك نورٌ لعلي وآخر لمحمد، إنما هو نور واحد، هو نور الحقيقة الأزلية.

إن معرفة أهل البيت (ع) لا نستقيها من موارد ملوثة، إنما ننهل من هذين الموردين: القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما خلاهما مذموم.

العطاء الإنساني لأهل البيت (ع):

إن العطاء العلمي لأهل البيت (ع) عطاء ثرّ، فلا زالوا إلى يومنا هذا هم سادة العلم والمعرفة، وإن كانت الأمة قد قصّرت معهم، فها أنت تقف على أحد الأئمة (ع) وهو كالشمس في رابعة النهار، فلا تجد ما يروى عنه في الصحاح إلا ما يعدّ بالأصابع.

أما تضحياتهم الكبرى فحدث ولا حرج، فمن ضحى غير عليٍّ (ع)؟ ومن فدى بنفسه غيره؟ ومن حمل روحه على كفه من معركة إلى معركة، ومن غزوة إلى غزوة، ومن سرية إلى سرية غيره؟ لقد كانوا يهربون ويجبنون ويتخلون عن النبي (ص) وهو في أمس الحاجة لوقوفهم، ولا يثبت سوى علي (ع) فكان النبي (ص) كثيراً ما يقول: يا علي، رُدَّ هذه الكتيبة، وما إن يردها حتى يسمع نداء النبي (ص): ردّ هذه الكتيبة. حتى كسرت رباعية النبي (ص) وشج وجهه.

فعطاؤهم كبير، ولكن لنسأل أنفسنا: ما الذي أعطيناه لهم؟

نحن والموروث:

أيها الأحبة: إننا أمام كمٍّ هائل من الروايات المتناثرة، التي تحتاج إلى مدرسة ناهضة تعنى بالمراجعة والتحقيق، بعيداً عن حدود الاعتماد المطلق على ما قام به الأولون. فأولئك قاموا بجهودهم، إلا أنهم لا يتمتعون بالعصمة، ولسنا ملزمين أيضاً في أن نتعبد بما قاله أولئك العلماء، إنما علينا أن نخضع عطاءهم وما قاموا به من تجارب في قراءة النصوص، أو تثبيتها في المدونات والأسفار، للبحث وفق الضوابط والقواعد. فقواعدنا اليوم في الرجال والدراية، وفي علم الأصول، تعطينا الأهلية الكافية أن نغربل ما كتبه الأقدمون، فلا تستغرب أيها الجيل الواعد الصاعد إذا ما وجدت رأياً هنا أو هناك على خلاف المألوف، لأن المألوف يدخل في الكثير من الأحيان في باب: رب مشهور لا أصل له. وليس هناك سوى حسن الظن والتسليم.

إن آليات البحث اليوم تعطي مفاتيح من السهل جداً أن يتعامل معها الإنسان ولكن في سياق متَّزن ملتزم مسيَّج بسياج الشريعة الحقة التي بيّن أبعادها محمد وآل محمد (ع).

كنا في الزمن السابق نتعامل مع النص الروائي على أساس تحويل الآية أو تأويلها لتتماشى معه، وغرائب هذا المنهج كبيرة، والمقام لا يُسعف أن أستعرض شواهد منها، ولكن هنالكم أمور واضحة، إذ يطرح القرآن الكريم أمراً صريحاً واضحاً بيناً، وهنالك روايات لا تتفق مع ذلك المعطى، فكانت المعالجة عند البعض تتم على أساس لَيّ عنق الآية لتتفق مع النص من السنة. وهذا في منتهى الخطورة.

واليوم، نحن في مسيس الحاجة لنتحرك ارتداداً في الاتجاه البحثي، وأن نسير في المنهج المعاكس لما كان في الماضي، كي نحظى ولو بنصيب يسير من إرجاع النص الصادر من السنة للتوافق والتوائم مع النص الصادر من القرآن الكريم، فإذا جعلنا المحكِّم هو القرآن، اتفقنا مع المعطى من السنة من جهة، وأمسكنا بالعاصم من جهة أخرى، وانفتحنا على النص من خلال أرضية صلبة من جهة ثالثة، أما العكس فسوف يدخلنا في مساحات التيه والضياع.

من هنا نجد أن الكثير من المدارس الشقيقة وقعت في هذا المنهج، ودفعت الضرائب باهضة، وللأسف الشديد، وتناغم معها بعضٌ ممن هم في المدرسة الخاصة، وكان النتاج مشابهاً لما كان هناك.

العلماء أمناء الشريعة: 

أيها الأحبة: إن حفظ الشريعة موكول لأعلامها، ومما لا شك فيه أن العلماء اليوم بين مسارات ثلاثة، وعلينا أن نتشخص أوضاعهم قبل أن يفوت الأوان:

1 مسار السائرين: وهم الطبقة المصلحة من علماء الأمة ومراجعها وأصحاب القرار فيها، فهؤلاء سائرون بالدين والفكر والقرآن والسنة، ويحملون الهم في سيرهم.

2 ـ مسار الواقفين: وهم الطبقة (المحافظة) كما يحلو للبعض أن ينعتها، مع تحفّظ مني على هذه التسمية، لأن المصلح ربما كان أكثر محافظة على الدين من ذلك. بل الأكثر من ذلك أقول: إننا ربما تسببنا بذلك في إهانة ومساس مباشر لأناس نذروا أنفسهم للحفاظ على الدين، وهم المصلحون.

إن أول من أسس أساس الإصلاح في الأمة هو علي (ع) بعد الخلل الذي حصل فيها، فمن الشرف لكل مصلح وكل من يرغب أن يسير في هذا المسار أن يرفع رأسه بأن قدوته في هذا المسار هو علي (ع)، وعلي يعني محمداً (ص).

إن المحافظة ليست في كثرة العبادة إنما في الاحتياط للدين، والحذر على المنهج، والحرص على حفظ الجماعة وصيانة الموروث، وهذا يتفق مع الإصلاح في نهاية المطاف.

3 ـ مسار المتوقفين: وهم المترنحون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إنما يتحركون على أساس المكاسب والمصالح. ووجود هؤلاء وسط الأمة ليس وليد اليوم، بل هم الذين أدموا قلب علي (ع) وهم الذين قتلوه، وأججوا النار على فكره.

نسأله تعالى أن يبصرنا في أمورنا، وأن يجعل عقولنا منفتحةً على النص، لننفتح من ورائه على الواقع من حولنا، فلا محل اليوم لمن لا ينفتح على الآخر، لأن العالم اليوم قرية واحدة، ومن يظن أنه يستطيع أن يعيش بمعزل عن كينونة الإنسان من حوله فهو واهم، فالحياة أخذ وعطاء، وتعاون وتكافل وتظافر، وتضحية من أطراف متقابلة لصالح الأمة والهدف. فلو أن الأمة أدركت دورها لكان أقل القليل مما أُزهق من الأرواح من أبنائها في العقود الثلاثة المتأخرة، والأموال الطائلة التي ذهبت أدراج الرياح، كفيلاً أن يعيد الأقصى لأهله، لكن الأمة الإسلامية في سبات عميق، ولا أظنها تستيقظ من سباتها ما لم يأذن الله تعالى للمنقذ الأكبر، وهو الخلف الحجة من آل محمد (ص).

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.