نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (2)

نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (2)

عدد الزوار: 2105

2015-07-09

الثقافة والحداثة:

قال الإمام الحسن المجتبى (ع): «عليكم بالفكر، فإنه حياة قلب البصير، ومفاتيح أبواب الحكمة»([2]).

وقال (ع): «عجبٌ لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله؟! فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يرديه»([3]).

كان الكلام في الأسبوع الماضي حول أثر الثقافة في بناء الحضارات وسعادة الأمم، ووقفنا عند أمر مهم منها، وهو ما قد يكون وليد المنتج الداخلي من أبناء الأمة، وقوام ذلك ـ أيها الأحبة ـ الحداثة العبثية التي ليس لها من يسيّسها ويأخذ بزمامها. فالحداثة مطلوبة، وليس ثمة حرب معلنة بين الدين والحداثة، بل إن الدين فيه من العناصر ما يجعله يستوعبها ويستوعب ما هو أكبر منها، غاية ما في الأمر أن تكون الحداثة عبثية في حراكها، فهذا ما يضع الدين أمامه سدوداً، ويحذر أتباعه من الوقوع في براثن الأتباع أو الرموز الذين نذروا أنفسهم لهذا المسلك، لا عن وعي وإدراك، فربما تكون عبثيتهم مقصورة في حدود ذواتهم، وهذا أيضاً لا يعفي رجل الدين من المسؤولية في إنقاذ هؤلاء من أنفسهم، لأن الهداية في الإسلام عامة، تبدأ من النفس ثم تترشح على النفوس من حولها. أما إذا كان هؤلاء يتركون لأنفسهم مساحةً ليتوسعوا في أوساط المجتمع، فإن المسؤولية تكون ذات بعد أكثر حساسية، مما يستوجب الحيطة والحذر والإنذار لأبناء المجتمع من دغيلة هؤلاء([4]).

إن العبثية في الفكر الحديث يحركها لوبيّ خطير، زُرعت عناصره بعد أن أسست قواعده بعد الحرب العالمية الثانية. ومع شديد الأسف، يتغنى بها البعض اليوم على نحو استحضار النصوص، ليجعل منها سمة مدلِّلة على أنه من أتباع هؤلاء. وكم هو جميل أن يزين الإنسان مجالسه، ويعطر أنفاسه بحديث صحيح وارد عن محمد وآل محمد (ص) فإن فيه الشرف والهداية التي ليس بعدها شيء.

التوجهات الشخصية الخاطئة:

ومن الأمور المؤثرة في الثقافة التوجهات والاجتهادات الشخصية الخاطئة بسبب ما جمعوه من ثقافة لا تؤدي إلى لمثل هذا، لأن النتائج تتبع أخس المقدمات كما يقول المناطقة. فهؤلاء في انتزاعاتهم لقضاياهم إنما يتحركون على هذا الأساس من الخطأ في لملمة القواعد، لذا نجد أن النتائج تكون مريرة وصعبة ومستهجنة.

ولهذه الأمور انبساطها على دائرة أوسع، فلو أنها تحركت ضمن دائرتها لبقيت في حدود من يعدّ حزاماً ناسفاً ينفجر فيه وينتهي الأمر، لكن أن يتمكن الإنسان من ربطها بإحكام ليفجرها في عموم الناس، فهذا ما نخشاه ونحذره.

أيها الأحبة: قد يحسب البعض أن التفجيرات التي تحصل هنا وهناك هي المنتهى، وليس الأمر كذلك، فإن مكمن الخطر في المفخخات والتفجيرات الفكرية التي تبرمج هنا وهناك، وتترك أثراً سلبياً.

فالانتحاري، عدو الله وحزب الشيطان، ربما يفجر نفسه فيقتل نفسه ومجموعة من حوله، أما الشياطين المتلبسون بالفكر الحداثي الخاطئ الأهوج، فلا يقل خطرهم عن الخطر الأول، وينبسط أيضاً على طابور من رجال الدين الذين لم يتغذَّوا من موارد الشريعة السمحة، إنما بنوا عقولهم العفنة على أساس الروايات الموضوعة التي صنعت وبرمجت وزُجّ بها لتحقن في تلك العقليات القاصرة.

لذا نجد أن التناغم والتجانس يحصل بين تيارين: تيارٌ يفجر الناس في أجسادهم وينهي حياتهم، والناس يعلمون أنهم يقدمون على الله تعالى، وتتلقف أرواحهم الملائكة، ويحتضنهم محمد وآل محمد (ص)، وتيار آخر يستتر وراء أكثر من قناع وقناع، يفجر الأهم في ذوات الناس، فترى الإنسان يمشي بين الناس لكنه جريح أو قتيل أو خائف.

أيها الأحبة: علينا أن لا نقلل من أهمية مسارين: مسار التحجر وما يجر وراءه، ومسار الانفلات ـ وليس الانفتاح ـ فما نعيشه إنما هو انفلات فكري غير مقنن، خرج من إطار الشريعة وارتدى عباءة الشيطان، فهؤلاء واللهِ أكثر خطراً من أولئك، فخطرهم محدق، إذ يمحق من الناس دينهم، ويسرق إيمانهم، ويهزّ قيمهم، ويصادر الموروث الأخلاقي الذي يتحركون على أساسه، وكلكم يعرف لمن أشير.

وكما حذرت قبل سنة، ثم حصل ما حصل من التفجيرات اليوم، أحذر اليوم من التفجير الفكري وما يترتب عليه من أثر، وواللهِ، ما لم يقم كلٌّ بحسب ما يستطيع أن يقوم به، فإن الخطر قادم، وسوف لن تكون التفجيرات سوى مفردات صغيرة إذا ما قيست بغيرها. واحفظوا هذا عني ثم حاسبوني عليه.

فالاجتهادات والتوجهات الشخصية الخاطئة مرعبة، وخطرها محدق.

الغزو العلمي والثقافي:

وهو ما نعيشه اليوم، ولا يستطيع أحد أن يضع حداً لهذا المدّ من الغزو، لأن العناصر المهيِّئة له كثيرة، والأسباب متاحة، والدعم موفور، ومن يعبِّد الطرق له نذر نفسه لذلك، ومن يتصيد هنا أو هناك أيضاً ليس ببعيد عن ذلك. ولكن بمقدور الإنسان أن يحصن نفسه ثم تتحصن الأسرة من حوله، ثم يندفع لما هو الأبعد فالأبعد.

ولدي هنا سؤال: لقد شاهدنا الكثير من المسلسلات المبتذلة التي لا قيمة لها في حساب العقل وعند من يدركون الأمور، ولكن، هل استمعنا إلى محاضرات مركزة تأخذ بنا إلى حيث الهدف؟ بل هل لدينا نفسية مروَّضة لتستقبل محاضرة مرتبة من أولها إلى آخرها لتخلص منها إلى نتيجة؟

ثم لنسأل: كم أعطينا في هذا الجانب؟ وكم أنفقنا في ذلك الجانب؟ لقد أعطينا الكثير فيما لا يعود علينا بمنفعة، مع شديد الأسف.

إن معرفتنا بأهل البيت (ع) ـ كما يدعونا الإمام الحسن (ع) من خلال النص الذي قرأته ـ تحتاج اليوم إلى قراءة وتركيز، وأن ننهل ممن انبرت أقلامهم الرصينة، وتحركت حناجرهم المسؤولة المحصنة، لنرتوي من هذا ونستعين بذاك، وإلا فإن الأمر مرير، والوضع مريض.

من هنا ـ أيها الأحبة ـ فإننا نحتاج إلى إعادة جدولة ورسم خطط من خلالها نعيد صياغة الموروث، ونرتب الأوراق على أساسها، وننظر بعد ذلك من خلالها للآتي من الأيام في بصيرة نعيش على أساسها القريب كما هو، ونستشرف الآتي بما ينبغي أن ندخل فيه.

روافد الثقافة الأصيلة:

وهي كثيرة، منها:

1 ـ الإيمان بالغيب ولوازمه: فمن عبثية الحداثيين اليوم أنهم يريدون أن نعيش حالة من الشك حتى في قدرة الله تعالى في خلقه، وأن نجعل الأئمة (ع) دون المراتب التي رتبهم الله فيها، وأن يجعلوا لأنفسهم الوصاية حتى على الله جل وعلا علواً كبيراً.

فعالم الغيب استأثر به ربُّ الغيب، ومنحه في حدود معينة لمن اصطفى من عباده، وهم محمد وآل محمد (ص).

وللإيمان بالغيب لوازمه وطرقه واتجاهاته، ومنبعه الأصيل الحاضر بين أيدينا شاهداً علينا هو القرآن الكريم، كلام الله المنزل بالواسطة المعصومة (جبريل) على قلب النبي المعصوم الذي لا يزيغ قلبه عن هدى، ولا ينطق عن هوى، في عصمة تامة، ألا وهو النبي محمد (ص).

يقول الحق تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ([5]). ويقول عز من قائل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا([6]). وهي أسماء محدودة، لكنها مفاتيح العلم في هذا الكون، والربط بين العلة ومعلولها، وإرجاع المعلولات إلى عللها. هكذا كانت البداية، أما الاستمرار فبقي في حدود قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ﴾.

2 ـ معرفة أهل البيت (ع): وكفانا أن نقدم أهل البيت (ع) على أساس من الحكايا والمعجزات المصطنعة، والكرامات الملفقة، والمظاهر المستهجنة، كأن يربط البعض سلسلة في رقبته ليقوده الآخر على أنه الخادم المحب لأهل البيت (ع). فلا خدمة إلا بعد معرفة، فلو أنه عرفهم حق معرفتهم لما صدر منه مثل هذا. ولكن في مورثنا ما يمثل لغماً ينتظر وقت انفجاره، وها نحن نراه اليوم.

إننا لا نقدس كتباً ولا أشخاصاً إلا بقدر ما يستحق كل منهما من القدسية. ففي بعض كتب الحديث عندنا أن جبرئيل نزل ذات يومٍ على النبي (ص) وامتنع من الدخول في بيت النبي (ص). فسأله النبي (ص): ما يمنعك من الدخول يا جبرئيل؟ قال: في بيتكم جرو عند الحسين (ع)!.

لذا لا تستغرب ممن يجعل من نفسه كلباً يقاد بين العتبتين الحسينية والعباسية، فأصلها في بعض الكتب.

إن أهل البيت (ع) يمثلون الفكر والثقافة والوعي، ولا علاقة لهم بالدجل والمتاجرة، فإن أردنا الله فمن خلالهم، وإن أردنا كتابه فهم عدله، وإن أردنا الفلاح الأكبر فليس لنا إلا محمد وآل محمد (ص).

نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.