نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (1)

نص خطبة: الثقافة الحقيقية طريق سعادة الأمة (1)

عدد الزوار: 2103

2015-07-02

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ‏ اللهِ‏ إِنَّ في‏ ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ([2]).

تقبل الله أعمالنا وأعمالكم، وعظم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى وفاة أبي طالب كافل النبي (ص) وأم المؤمنين خديجة (ع) ورزقنا الله الشفاعة على أيديهم يوم القيامة، حيث وردت في حقهم نصوص أنهم من المشفَّعين.

الثقافة طريق السعادة:

تمثل الثقافة لدى سائر الأمم الطريق الموصل إلى السعادة، وربما انعكس عطاؤها فمثلت طريقاً للهدم.

وللثقافة أنواع متعددة، فبقدر ما تتدافع الروافد فيما بينها تحدث روافد متفرعة لمحطات أخرى سرعان ما تكبر، لتتمحور وتقوم بذاتها، معنونة نفسها بعنوان جديد، وهذا ما نعيشه في هذا العصر المزدحم بتياراته الفكرية وشخوصه المتقاطعة في المصالح فيما بينها.

وهذه الثقافة إذا انطلقت من مصدرها الأصيل كان عطاؤها حسناً، ونتاجها طيباً، أما إذا لم يكن منطلقها على هذا الأساس، فلن تنتج ولن تقدم للأمة إلا حنظلاً.

ويدور مدار الثقافة الكثير من الأمور، فربما يروق للكثير من الناس أن يُنعت بالمثقف، وكذلك المحيط والجماعة، بل الأكثر من ذلك أن يقال عن بعض الشعوب: إنها مثقفة، أو متقدمة في ثقافتها على غيرها من الشعوب. فما هو المقصود بهذه الإطلاقات التي توزع هنا أو هناك، وما تلك الأوسمة الموزعة بغير حساب؟

الإسلام والثقافة:

أيها الأحبة: إننا إذا اقتربنا من بعض المفردات في هذا الزمن، فلا نخرج إلا بواحدة من اثنتين: إما أن نسهم في التقدم بها قليلاً إلى الأمام، أو نعرقل من حركتها، فتحافظ على موقعيتها في بعض الظروف، أو تشكل تراجعاً، ولا ثالث بين ذينك الأمرين.

فهل كان الإسلام ـ وهو الدين الذي ننتمي إليه، ونصحح أعمالنا بناءً على معطياته، ونأمل أن نحصد ذلك يوم القيامة على ما هو المبتغى ـ قد رسم لنا طريقاً نخطو على أساسه بالثقافة إلى مراحل الإصلاح في وسط الأمة، بحيث تتصف بالثقافة الصالحة، المنتجة للصلاح من حولها؟ أو أنه أوكل الأمر للأفراد، ليتولَّوا رسم معالم الطريق التي يتعاطون على أساسها مشهد الثقافة فيما بينهم؟ 

الجواب: أن الشريعة الإسلامية، من خلال ما قدمته في رافديها، القرآن الكريم والسنة المطهرة، قد رسمت معالم الطريق، وأختصر ذلك في الحديث المشهور بين المسلمين عامة، وإن اختلفوا في سبكه اللفظي في مفردةٍ أو ما زاد عنها بقليل، وهو حديث الثقلين. فالنبي الأعظم (ص) عندما كان بين ظهراني المسلمين، كان العاصم لهم من أن تأخذ الثقافة أبعاداً غير محمودة، فكما أنه لا يمكن أن يخرج النبي (ص) من الدنيا دون أن يؤمّر أميراً على الأمة، كذلك لا يمكن أن يخرج منها دون أن يرسم معالم الطريق، الذي تتلمس الدرب على أساسه كي تصل إلى الهدف.

ففي حديث الثقلين نجد القرآن والعترة. أما القرآن الكريم ففيه ما يربو على ستة آلاف آية تؤصّل لذلك، وأما السنة النبوية ففيها آلاف الأحاديث التي تُفرّع. فالقرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما السنة المطهرة فكانت المساحة فيها كبيرة لينتابها الدسّ والتغيير والوضع.

لذا فإن من يرغب أن ينهل من هذين الموردين لا بد أن يتسلح بسلاح يتماشى وما هو المكتنز في هذين الرافدين. فالبعض يحاول أن يستنطق القرآن الكريم، وهو لا يمتلك آلية الاستنطاق، فلا قدراته في اللغة تسعفه، ولا إمساكه بآليات الاستدلال تساعده، ولا أُنسه بالمفردة يمثل شفيعاً له، فهو يفتقر لهذه الأمور الثلاثة، ولكن رغم ذلك تجده إذا تصدر المجالس وتربع في الاستراحات، يرى نفسه وكأنه عليٌّ في هديه، أو عبد الله بن عباس في تفسيره، حال أنه لا يمتلك مما يُعينه على ما يدعيه شَروى نقير.

أما مع السنة والعترة المطهرة فالأمور أكثر تعقيداً، لأن هناك كمّاً هائلاً من الأحاديث وأرقاماً كبيرة، تشمّ رائحة الوضع والتدليس فيها من بعيد.

لذا فإن من يريد أن يبحر في هذا المحيط الكبير عليه أن يمسك بالأسباب جيداً. فهناك الكثير من الأمور، وبسبب كثرة تعاطيها أصبحنا نتعامل معها على أنها من مسلَّمات الدين، وهي ليست من الدين في شيء. إنما هي أمور استحسنها شيخ القبيلة، أو استلطفها رجل الدين غير الواعي، أو تبنتها جماعة معينة، فدخلت في الرسوم المقدسة، وصرنا نتعاطاها على أنها من الثوابت، وبهذا تترتب الكثير من الخسائر على ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، إلا أن طرحها وبيانها يزعج الكثيرين. بل من السهل في بعض المراحل أن ينتقد الإنسان النص الديني في المجالس أو المنتديات أو غيرها، لكنه لا يجرؤ على انتقاد السلوك الاجتماعي الذي تعارف الناس عليه، وهذه مشكلة وكارثة وطامة كبرى. فأن يسهل عليك معارضة النص الديني، ويصعب أن تعارض ما تعارف الناس عليه بعيداً عن دائرة الدين مما لا أصل له، يعدّ طامة كبرى، ويكشف عن واقع مزعج ومخيف في الأمة، ولا بد من مراجعة الحسابات فيه.

الثقافات الدخيلة:

ويقابل الثقافة الدينية الأصيلة، الثقافة المستوردة المستعارة الدخيلة، ولهذه أيضاً ما يقوّمها ويدفع بها. وهي على أضراب وأقسام، منها:

1 ـ الأفكار المظللة المستوردة من هنا أو هناك: وهي اليوم كثيرة. ففي أواخر السبعينات الميلادية، تجد في كتب الباحثين والدارسين والناقلين أنهم يتعمدون ذكر بعض المفردات ثم يربطونها ببعض اللغات الأجنبية، كالفرنسية أو الإنكليزية، ليشير بها صاحب الكتاب أن لكتابه قيمة، وهذا منتهى السقوط، ومعنى ذلك أن تختزل كتاباً في قرابة ألف صحيفة بمفردات رسمتَها بالخط الأجنبي لتدلل على أنك إنسان مطّلع على ما عند الآخر، فالعبرة بالمعنى والأفكار، أما اللفظ فهو وسيلة لإيصال المعنى.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً أن بعض دعاة الثقافة في السبعينات عندما يذكر رأياً معيناً، ويسنده لعالم أجنبي، فإنه يتعمد ضبط الاسم باللغة الانكليزية أو الفرنسية أو واحدة من اللغات، لكي يقدح في ذهن القارئ أنه يحفظ أسماء باللغة الأجنبية.

وهذه الحالة طويت صفحتها إلى ما قبل العقد من الزمن، ثم عاودت الظهور من جديد، فترى بعض الشباب اليوم، يحاول أن يستحضر تلك الذوات التنظيرية في الفكر الغربي والشرقي، الرأسمالي والماركسي، وهو يظن أنه من خلال هذا الاستعراض يقدم نفسه للأمة على أنه المثقف الواعي المتابع المحيط بكل شيء، حال أنك عندما تقترب منه وتحاول فكّ بعض الشفرات، وبيان حال بعض الأسماء، تجد أنه أفقر الفقراء، ولا يدري لأي جهة تنتمي تلك الذوات؟ ومن يحركها ويدفع بها ويسوّق لها؟.

فاستيراد الفكر على علاته لا يقدم ولا يؤخر، وينبغي أن نكون يقظين حذرين، ولا نُبهر ببعض الأشخاص الذين يستعرضون بعض المفردات، فلا يعجز الإنسان أن يحفظ الكثير من المفردات والأسماء، لباحثٍ أو مقالة أو مجلة أو مركز علمي في العالم، فليس ذلك من المعجزات. والإنسان الواعي هو من ينأى بنفسه عن تلك الترهات، وأفضل الهدي هو ما جاء به الوحي، وأنور الهدي ما صدر عن محمد وآل محمد (ع).

إن تلك الأفكار أُلبست قوالب لفظية فضفاضة بحيث تستهوي المتلقي، وتجره نحوه الملقي، بحيث يسيطر عليه ويملي عليه، وربما أوقعه في شراكه وأصبح من لواحقه. وسبق وأن حذرتُ من تسليم عقولنا للآخرين كي يفكروا نيابة عنا، وعلينا أن نفكر نحن بعقولنا. فليكن المتحدث من يكون، علينا أن نعطي للعقل مساحة يأخذ دورته فيها، وهذا أمر مهم جداً.

ومن الروافد التي سُخرت للثقافة المستوردة تلك الإمكانيات العظيمة، فهنالك دول ومنظمات عالمية تعمل في السر والعلن بكل ما أوتيت وأتيح لها من قوة وإمكانيات. وبظني أن الكثير ممن يوصوفون بصفة الثقافة يساقون دون أن يشعر أحدهم بما يراد به، بحيث يلتفت بعد فترة وإذا به يجد نفسه ضحية.

وأتذكر هنا قصة فيها عبرة لمن اعتبر، وهي أن أحد المتأثرين بالفكر الماركسي الشيوعي في الستينات، وممن ركب تلك الموجة آنذاك، تخلى عن الصلاة والعبادة، والأهل والقرابة، وترك جميع الالتزامات الاجتماعية، واستمر على تلك الحال إلى ما قبل عشر سنوات من وفاته، وقد أمضى أكثر من ثلاثين سنة في ذلك الضياع والشتات. وكان كل ما يستعرضه ويؤمن به هو ما قرأه في الكتاب الفلاني، أو ما سمعه في الجامعة الفلانية، وهكذا. وقبل عشر سنوات من حياته استيقظ، وحلت الهداية في قلبه، وانتبه لحاله بعد أن قدحت في نفسه ومضة الهداية، فصار من المترددين على المسجد في قريته، فاقترب منه أحد أصدقائه ليسأله قائلاً([3]): أراك تركت الماضي! فالحمد لله على الهداية والتوفيق. فقال: الحمد لله على ذلك. فقال له صديقه: فما الذي دفعك إلى ذلك؟ قال: السبب يكمن في أمر واحد، وهو أنني كنت لا أعطي لنفسي مساحة لمراجعة الحسابات. وفي يوم من الأيام حصلت عندي هذه الحالة لدقائق معدودة، فوجدت نفسي أنتقل من مربع إلى مربع جديد، ومن واقع إلى واقع مغاير.

فالإمكانيات ضخمة، من القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي والوسواس الخناس الذي يسعى بين الناس، وغير ذلك كثير.

وهناك التبني أيضاً من جهات كثيرة، رسمية أو غير رسمية، عالمية وغير عالمية، من الداخل أو الخارج، ومن التيار الديني غير الواعي، أو ممن لا يحملون تديناً ولا وعياً.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.