نص خطبة:التقية في المنظور القرآني والميراث النبوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
﴿إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيْعُ الحِسَابِ﴾([2]).
عظَّم الله أجورنا وأجوركم بشهداء الفضيلة أبناء «محاسن» البررة، وشفّعهم الله فينا يوم القيامة لما حازوه من الرتب العالية، وجبر الله قلوب الآباء والأمهات الذين فقدوا هؤلاء الأبناء الأعزاء، وجبر الله مصاب الجميع.
التقية في الاصطلاح الإسلامي:
ربما يكون حديثي مفاجئاً للبعض، بناءً على مسار الأحداث والتهاب الدنيا من حولنا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. فالكل يريد بوحدة الأمة أن لا تبقى على حالها، وأن يُمزَّق الإسلام شرّ تمزيق، ولكن بظني أن الأمة لديها من الحصانة والوعي والإدراك والمسؤولية ما يكفي لتخطي هذا المخاض.
التقية مفهوم إسلامي مقدّس، أدرنا ظهورنا عنه في العقدين الأخيرين، والأسباب في ذلك كثيرة لا موجب لاستعراضها، غير أن الثقة المفرطة بالنفس ربما تكون القوة الدافعة الأولى لما صرنا إليه. فأصبحنا نتحدث دون قيود، ونتنقل ونتعاطى الأحداث دون قيود، جاهلين ـ أو متجاهلين في بعض الأحايين ـ ما يحيط بنا كأبناء أمة أريد لها أن تكون الأفضل، والداعية والجاذبة لسائر الأمم لتدخل في منظومتها، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الشهادة لله بالربوبية ولمحمد (ص) بالرسالة.
تصوروا أن من يتحدث اليوم عن التقية يكون حديثه غريباً على بعض الناس. فقد كنا في الزمن السابق نكافح ونناضل في سبيل أن نثبّت أن التقية مبدأ أصيل إسلامي لا يمكن التنازل عنه، ولا يمكن الالتفاف عليه، لكن الأمة أخذت في مساربها كما خططت هي لنفسها.
التقية في القرآن:
فالتقية مفهوم شاخص في واقع الأمة، وهي منهج قرآني واضح. يقول جلت قدرته: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصير﴾([3]).
إن آيات القرآن الكريم تكمن فيها المعجزة من خلال كونها متى ما قرعت سمع المتلقي اندكّ في معطيات مفرداتها، لكن أفهام الناس تأخذ منها بحسب ما يتمايزون فيه، فهذا يقرأ بعمق بنسبة معينة، وذاك بنسبة أعلى، حتى يصل الأمر إلى حياض العلماء الذين يتعمقون في سبر غورها.
وفي التعاطي مع آيات الذكر الحكيم، إما أن نعترف أننا دون تلك المعرفة، أو نكابر فنرى أننا والعلماء في صفٍّ واحد، فإن كان الثاني فالمرء وشأنه، وإن كان الأول فعلينا أن ننهل من علوم ومعارف علمائنا المتبحرين في علوم القرآن والحديث، كي نستضيء بهديهم.
ففي الآية الشريفة استثناء، وهذا الاستثناء هو الذي يعطي للمستثنى الخصوصية، والفكّ بين العام والخاص في الكثير من المواطن يُكتنف بقرائن، وتلك القرائن قد تكون قريبة أو بعيدة، متصلة أو منفصلة، عامة أو خاصة، وهذا شأن العالم الذي أخذ أسس معارفه من الحوزة بحيث ينسجم مع منطلقات النص الديني.
وبطبيعة الحال أن المثقفين وسائر الناس محترمون، لكن من الجميل أن ينصف الإنسان نفسه ويعطي لكل ذي حق حقه.
إنني ما تشرفت يوماً بمجالسة مرجع من مراجعنا ـ أيدهم الله تعالى ـ الذين يعيشون في أوساطنا ونستفيد من ظلهم، ورأيته تدخّل في شأن طبيب مثلاً في مقدمات إجراء طبي، ولا في شأن مهندس، لأنهم يعرفون قدر أنفسهم، وأنهم إنما وصلوا إلى المقام الذي هم فيه بناءً على المسار الذي حددوا معالمه، وانطلقوا من النقطة الأولى حتى النقطة الأخيرة فيه. وهذه الميزة تعطي الحوزة العلمية الشريفة ضرباً من الامتياز الذي لا تتمتع به سائر المؤسسات العلمية على وجه الأرض، بأن ينصف العالم نفسه فلا يدعي ما ليس له.
فعندما نقول: فلان من العلماء المراجع هو الأعلم، ونلتزم قوله، فهذا يعني أعلميته في استنباط الأحكام الشرعية، لا في جميع العلوم على وجه الأرض، التي تنظم حال البشر، وتنتشلهم من الأمراض الجسدية أو النفسية، أو تنفعهم في سائر معايشهم. فعلماؤنا ومراجعنا لا يدّعون ذلك لأنفسهم، لأن من يعرف بكليات الأمور وجزئياتها إنما هم من آتاهم الله علماً لدنياً خاصاً، ولا يتمثل ذلك في عصرنا إلا في الخلف الباقي من آل محمد (عج).
ثم إننا لو تجاوزنا التقية فإن القرآن الكريم يعطينا النتيجة قائلاً: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾.
التقية في السنة:
أما عن مفهوم التقية في الحديث الشريف، فهنالك الكثير من الروايات في شأن التقية، ونحن نعرف أنه متى ما سُلط الضوء على أمر فإنما يدل على أهميته، ومتى ما كثر السؤال عن قضية فإن ذلك يعكس أهميتها وما يرتبط بها ويترتب عليها، وهذا أمر واضح، ولعله من البديهيات.
فلشدة أهمية التقية، وعظم ما يترتب عليها من الأثر، حظيت بهذه العناية من أئمتنا (ع) بعد الرسول الأعظم محمد (ص).
فقد وردت نصوص كثيرة عن النبي (ص) كان منها ما هو استيضاح لما جاء في القرآن الكريم، كالآية الشريفة التي تلوناها، ومنها ما هو ابتدائي، أي أنه (ص) ابتدأ القوم به دون سؤال منهم، والأحاديث في مظانها كثيرة.
أما من طريق أهل البيت (ع) فهناك الكثير منها أيضاً، وهي متمّمة لمدرسة الحديث الصادر عن النبي (ص) ففي معتقدنا أن ما يقوله الإمام المعصوم هو عين ما يقوله الرسول (ص) لأنه الامتداد الطبيعي للسنة المطهرة الصادرة عنه (ص).
فمن تلك الروايات ما ورد عن الإمام الصادق (ص)، في قوله لمعلى بن خنيس، وهو من أصحابه المقربين إليه: «يا معلى اكتُم أمرنا ولا تُذعه»([4])، فهنالك خصوصيات في مذهب أهل البيت (ع) لا بد أن تبقى في حدود مدرسة أهل البيت، كما أن للمدارس الأخرى خصوصياتها التي يحتفظ بها ويتحفظ عليها.
ثم يضيف الإمام الصادق (ع) قائلاً: «فإنه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه في الآخرة، يقوده إلى الجنة. يا معلى، من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمةً تقوده إلى النار. يا معلى إن التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له. يا معلى إن الله يحب أن يعبد في السرّ كما يحب أن يعبد في العلانية. يا معلى، إن المذيع لأمرنا كالجاحد له»([5]).
سيرة المتشرعة في التقية:
هذه بعض الشواهد القرآنية والحديثية في الدلالة على التقية. أما مسيرة علمائنا في هذا الشأن، وحالهم مع التقية، فيدلل عليها ما رشح من أقلامهم المباركة التي ما تحركت إلا من أجل حفظ هذه المدرسة ومن ينتمي إليها.
ينقل العلامة المجلسي (قدس سره) هذه الرواية عن الإمام الصادق (ع): «التقيةُ واجبةٌ ولا يجوز تركها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها فقد دخل في نهي الله عز وجل، ونهي رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم»([6]).
وهكذا نجد في سيرة علمائنا الكثير من الشواهد على التمسك بالتقية كمفهوم إسلامي أصيل. وقد أفرد بعضهم رسالة في التقية كما فعل السيد الإمام (رضوان الله تعالى عليه).
وقد يسأل سائل: لماذا ذكرت المجلسي والسيد الإمام دون غيرهم؟ أقول: لأن المجلسي (رضوان الله عليه) تحرك في مساحة التقية المغلقة، والسيد الإمام (رضوان الله عليه) تحرك في مساحة التقية المفتوحة.
التقية في سلوك المسلمين:
لقد كانت التقية واضحة في سلوك المسلمين منذ زمن النبي (ص) فكانت ظاهرة مع المشركين، وبعد النبي كذلك في أفراد الأمة، حتى بين أبناء المذهب الواحد، لا سيما في زمن الدولة العباسية.
وقد يتصور البعض أن الأمور تبتدئ وتنتهي بدافع المؤامرة، وأنا لست مع هذا المنحى والاتجاه في هذا الموضوع بالذات، إنما أقول: إن جهل الأمة للواقع الذي هي فيه هو الذي يقدم المادة سهلة طيّعة يصنّع منها العدو ما شاء، وهذا الأمر ليس وليد اليوم، إنما هو منذ القِدم. فالمذاهب الأربعة لم تكن في مكة ولا المدينة، إنما ولدت من رحم بغداد، في الدولة العباسية، حيث شُطّر إلإسلام إلى مذاهب، ثم سُيِّست، وكانت سبع مذاهب رئيسة، أربعة منها سنية، وثلاثة شيعية، إلى جانب كمٍّ هائل من المذاهب الأخرى التي طويت صفحتها مع مرور الأيام، إذ لم تكن تمتلك عناصر المقاومة، إما لضعفها المادي، أو لعدم تبني السلطة لها، وإما لضعف القواعد التي ترتكز عليها، أو الخوف من الاستصال، وهكذا. فلم تكن المذاهب أربعة فقط.
لقد دارت معارك طاحنة بين المسلمين بسبب تلك المذهبية، وقد صُبغ ماء دجلة بالدماء التي أريقت من أبناء مذهب واحد من أبناء السنة الذين اعتركوا فيما بينهم. وفي الزمن القريب ذهبت الكثير من الأرواح ضحية الصراع بين تركيا وإيران على أساس مذهبي، ولا زلنا إلى يومنا هذا في طاحونة معترك لا ينجينا منه إلا الله تعالى. فعلى الأمة أن تتسلح بسلاح الوعي للخلاص مما نحن فيه.
لقد كانت التقية حتى في زمن الأنبياء السابقين (ع) أيضاً، كما في قضية موسى (ع). أما في زمن الصحابة والتابعين فلم تكن غائبة أيضاً، إنما كانت هي التي تحكم الموقف، ولما نزعوا ربقة التقية من وسطهم جرت الدماء في قلب البيت الحرام، ورميت الكعبة بالمنجنيق، وهو ما تجدونه مسطوراً في تاريخ ابن الزبير والحجاج.
أما التقية في مسيرة أبناء الأمة فواضحة أيضاً، فنحن نرى أن الكثير من أبنائها ينتقل من محل لآخر، أو يلجأ إلى جبل، ويترك وطن آبائه وأجداده، لا من أجل عيش أفضل، إنما يخاف على أحد الأمور الثلاثة: نفسه وماله وعرضه، وأحياناً على دينه.
عندما كنت في لندن سألت أحد الإخوان من بعض الدول الإسلامية عن مدة مكوثه هناك فقال: أربعين سنة. قلت له: لماذا لا تعود؟ قال: لقد خرجت منذ أربعين سنة للحفاظ على ديني ودين أبنائي!.
أليست هذه كارثة؟ بأن يخرج المسلم من بلد الإسلام إلى بلاد الكفر من أجل أن يحافظ على دينه ومعتقده؟
وقفات لا بد منها:
من هنا لا بد أن نحط رحالنا في محطات مهمة، لنسترجع الكثير من الحسابات، ونقلب الكثير من الملفات، وهي:
1 ـ العقل والتعقل في غربلة الأحداث العاصفة: فعندما يقع حدثٌ ما، تجد اللغط هنا وهناك، ما بين مشرّق ومغرّب، وكأنه يتحرك في مساحة تخصه لا تخص غيره، أو أنه يسوس الأمر ولا يُساس. فيغيب العقل والتعقل، وتُرفض الاستفادة من الآخر الناصح، ولا يبقى إلا ما استقر عليه نتاجه العقلي الشخصي. ولكن، هل هناك اليوم من يستطيع أن يتحكم في مدركاته ما لم يستعِنْ بمدركات الآخرين؟ فأنت عندما تدخل على أحد علمائنا ومراجعنا (حفظهم الله تعالى، ورضوان الله على من مضى منهم) تجد لديه جبلاً من الكتب، وتراه يفتح هذا ويغلق ذاك، يأخذ من هذا مفردة، ومن ذلك معلومة، ومن الآخر بياناً، وهكذا، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، لا من تفرد بعقله وألغى الآخر بالمطلق.
ففي كثير من الأحيان يكون المرء عالماً، أو طبيباً، أو مهندساً، أو مثقفاً من الدرجة العالية، أجهد نفسه في طلب العلم، ولكن يُعمّى عليه، وربما كانت الرؤية لدى غيره ممن ليس له نصيب من تلك الأوسمة أكثر وضوحاً، فلم لا يُفيد منه؟ ولماذا هذا الاستعلاء والتكبر؟ ولماذا لا يرى إلا ما يراه هو، ولا قيمة عنده للآخر في منتجه ومدركه العقلي؟
إذن هذه هي المحطة الأولى التي لا بد من التوقف عندها، لنقيّم أوضاعنا وواقعنا.
2 ـ التعاطي العاطفي في تحليل الأحداث: فنرى أن كل حدث يحصل يتحرك في دائرة العاطفة، فملامسة أوتار الجريح بالعاطفة، وصاحب الموقف والمسؤول والقائم على الأمر بالعاطفة. لكن العاطفة وحدها لا تقدمنا خطوة للأمام، لأنها تعمّي علينا وتلبّس أبعاد الصورة، وتُحدث تقاطعاً بعد تواصل في الرؤى والأفكار.
فالإمام الحسين (ع) عِبرة وعَبرة، والجمع بينهما يجعلنا نخلص إلى معطى كربلاء الذي سقى شجرته الإمام الحسين (ع) بدمه الطاهر، وهو الإمام المعصوم ابن المعصوم أبو الأئمة المعصومين، أخو الإمام المعصوم، ابن الأَمَة المعصومة السيدة الزهراء (ع) بنت النبي محمد (ص).
لذا نجد أن حادثة كربلاء مر عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، لكنها لا زالت حية، تمتلك القوة الدافعة، ولكن من حيث هي، لا من حيث نحن. فنحن إلى الآن لم نحسن قراءتها. نجهد في مواكب عزائنا وزخرفتها وزبرجتها، لكن ّكينونتها ومحتواها وقوتها وقابليتها معطلة. فلو حصل بينك وبين أحد خلاف مهما كان بسيطاً، وأقسمت عليه بالحسين (ع) لا تجده يقيم لهذا القسم وزناً.
فلو أن مثل هذا انصهر في مجالس الإمام الحسين (ع) وتروض فيها واستفاد من عطائه لما وصل إلى هذا المستوى، ولما تفوه بكلام لا يتناسب وعظمة الإمام الحسين (ع).
3 ـ تغليب البعد التطرفي في مداولة الأحداث: فعندما يحصل حادثٌ ما، نُدخله في خانة (الشيعي ـ السني) والأمر ليس كذلك، فليست القضية بين شيعة وسنة، وإن كنا نحن الضحايا الأكثر، إلا أن الواقع ليس كذلك، فمن يُطحن في طاحونة بعض الدول من (الخريف العربي) هم من السنة، والسني يقتل السني بدم بارد. فلا بد أن يكون المرء منصفاً، فهذه المؤامرة الكبرى ليست على شيعي بما هو شيعي، ولا على سني بما هو سني، إنما هي على الإسلام. والمسألة في منتهى التعقيد، وسوف لن نقرأ هذه الأحداث بشكلها الصحيح إلا بعد خمسين سنة أو أكثر. فالأمة تحتاج للاستيقاظ من رقدتها إلى خمسين عاماً أو أكثر إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وعلى هذه الأدوات التي نستخدمها في قراءة الأحداث، من تعصب أعمى، وعدم وضوح في الرؤية، وعدم الرغبة في الخروج مما نحن فيه، وغير ذلك.
4 ـ منطق الاستئثار والغلبة على الطرف الآخر: فصاحب الصراع اليوم يسعى إلى مصلحة في حدود ضيقة. والأمة الإسلامية تتفرج على ما يجري لها فيها، وها هي خمس سنوات تمر من المحنة فلا نرى اجتماعاً للأمة الإسلامية لتنظر في حلٍّ مناسب.
كل ما نراه أن كل طرف يسعى للاستئثار، ويطمح أن يكون هو المتقدم في هذه القضية أو تلك، وإلا فإنّ حاكماً هنا أو هناك لا تريده الأمة لا ينبغي أن يبقى في مقابل أن تدمَّر البلاد أو يقتل العباد أو يهجرون، أو يغرقون في البحار والمحيطات.
ثم إننا نرى أن ساسة العالم يتصارعون من أجل بقاء فلان أو عدم بقائه، في الوقت الذي تدفع الأمة هذا الثمن الباهض، وهذا من سوء حظ الأمة، وليس هناك ما هو أسوأ منه. والسبب في ذلك أن الدروس المتقدمة لم يفقه أحدٌ قراءتها، وإذا فقه لا يرغب أن يرتب الأثر عليها، وهنا الطامة الكبرى.
5 ـ سيادة المصالح: فينبغي ـ أيها الأحبة ـ أن تكون المصالح العامة ـ كحفظ الأديان والأوطان والعباد ـ مقدمة على مصلحتي أنا ومصلحتك أنت كشخص. فلماذا لا يكون همنا عقدياً وطنياً إنسانياً أممياً، بدل أن يفسح المجال لأيٍّ كان أن يتحدث على المنابر، أو يصدر البيانات. فهل هذا هو الطريق الأنسب لاستثمار دماء شهدائنا؟
أليست التجارة الرابحة مع الله بدلاً من المتاجرة بدماء عباد الله؟
إن حفظ الوطن ووحدته وسلامته مسؤولية الجميع، ولا تختص برجال الأمن فقط، فلا يحمي الوطن إلا أبناؤه، ولا خصوصية لرجل الأمن إلا بما كُلف به من مسؤوليات، فينبغي أن نكون حراساً لهذا الوطن.
ولا بد أيضاً من حفظ المعتقد، فهو غالي الثمن، وقد رأيتم أن الإمام الحسين (ع) يضحي بنفسه وعياله من أجله، وهم أفضل كوكبة على وجه الأرض.
فعلينا أن نلتفت جيداً، لا أن نشغل أنفسنا بقضايا صغيرة لا دخل لها في المصلحة العامة، كأن نشغلها بمن صلى على جنائز الشهداء، أو لماذا صلى عليها فلان دون فلان؟ أو ما إلى ذلك.
إن هناك من يستثمر دماء شهدائنا البررة، فعلينا أن لا ندع له مجالاً، ونسأل الله تعالى أن يحفظ الجميع ويدفع الأذى والبلاء عنهم.
وفي الختام هذه مقطوعة قصيرة جداً في الشهداء (رضوان الله تعالى عليهم) وهي بعنوان: محاسن الوفاء:
هذا الوفاء فرددي أحساءُ في كل شبر تنثر الأشلاءُ
لكن مشروع الولاء نصونُه مهما تمادى الحقدُ والإقصاءُ
القتلُ ميراث الشعوب تفرعت منه الغصون فكبّر الأبناءُ
من حيث تُتلى في الصلاة كريمةٌ تسمو النفوس وتُشرق الظلماءُ
أبناء شعبٍ إذ نقيم عزاءنا في كل قلب شفرة بيضاءُ
الروحُ والدمعُ الحزينُ تمازجا يرسون عهداً خطه الآباءُ
يا كربلاء في الحياة توهجت يكفينا منك الفكرُ والأسماءُ
نستاف من نهر الفرات مَعينه بالعذبِ تُسقى الرايةُ الخضراءُ
أحساءُ أنت والطفوف كما سرت بالعشق يوماً هذه الأحساءُ
يا موطنَ البيت العتيق يشدُّنا للأرض دينٌ نهجه وضّاءُ
قبلت من هذا التراب مواطناً فيها استقرت هذه الأشلاءُ
لأرواح شهدائنا البررة، ولشفاء الجرحى الذين أصيبوا في الحادث الآثم، ولحفظ أرواح المؤمنين، ولدفع البلاء عنا وعن سائر بلاد المسلمين، وأن يجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، وأن يدير دائرة السوء على من أراد السوء بشرعة وأتباع شرعة سيد المرسلين، رحم الله من يقرأ الفاتحة.
والحمد لله رب العالمين.