نص خطبة التطرف آفة العصر الراهن
سأل رجل النبي الأعظم محمداً (ص): متى الساعة يا رسول الله؟ فقال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: أنت مع من أحببت([2]). اللهم اجعلنا من المحبين لله ورسوله والأئمة المعصومين من آل محمد (ص) .
روافد التطرف:
التطرف آفة العصر الراهن، وهو يعني مجاوزة الحد، فمن جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط فيه فهو متطرف، وتطرَّف الشيءُ: صار طرفاً، وتطرف في الشيء: أخذ بأحد طرفيه، فهو متطرِّف. هكذا يعطينا فقه اللغة صورة عن التطرف.
ويرشدنا القرآن الكريم إلى صراط وسطي ألا وهو الصراط المستقيم، وهو الرسالة الحقة المتمثلة بالكتاب الكريم والسنة المطهرة الصادرة من منابعها بطرق معتبرة، لذلك نقرأ قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيْمَ﴾([3])، أي السبيل الذي لا يميل لأحد الطرفين، فما من قضية إلا ويكتنفها طرفان، كل منها يأخذ بالمرء بعيداً عن محور دائرة الارتكاز، وهو أصل القضية.
ويقف وراء التطرف مجموعة من المعسكرات، منها:
1 ـ المعسكر الفردي: فعلى المرء أن لا يحتقر نفسه، وقد طُوي فيه عالم أكبر، بكل مساحاته وحدوده وأبعاده. وربما استطاع الفرد أن يغربل أو يبعثر أوراقاً مرتبة، لا لشيء إلا لأنه جعل من التطرف مطية للوصول صوب هدف شخصي محدود.
2 ـ الرافد الجماعي: فقد تتفق الجماعة فيما بينها على الأخذ بأحد طرفي القضية، وتتعصب له، فيجد الفرد نفسه في براثن ذلك الجمع. ومما لا شك فيه أن الخطورة هنا أشد وأعظم وأكثر استفحالاً.
3 ـ الدور المؤسساتي: فالجماعة تشكل حاضنة مناسبة ومساحة طيبة لنَزْوِ جماعة داخل صفوفها لتشكيل مؤسسة، تأخذ على أساسها بجوانب التطرف حيث تشاء. وحيث كانت الأهداف، فعّلت المؤسسة من دور التطرف في ذوات أفراد الجمع. وهذه الحركة المؤسساتية في الأخذ بالتطرف إلى أحد الاتجاهات المرغوبة لأدلجتها، من الإمور الواضحة الأثر اليوم.
4 ـ العامل الرسمي ودور الحكومات: فالحكومات على وجه الأرض، ما هي إلا أنظمة وضعية، غاية ما في الأمر أنها تتفنّن في صياغة الدساتير، حتى الحكومات الإسلامية بينها وبين بعضها تفاوت وتناسب، فقد يكون القرآن الكريم هو الدستور، لكن القرآن حمالٌ ذو وجوه، يحتاج إلى السنة المبينة، وكلنا يعلم ما الذي انتاب السنة بعد النبي (ص) ، وبالتالي فإننا عندما نلج باب السنة لا بد أن ينعكس ذلك علينا.
ولا تستثنى من هذا الأمر حكومة دون أخرى، فالحكومة الحق التي جاءت وفق الأصول، هي تلك التي رسم معالمها وأسس قواعدها النبي الأعظم محمد (ص).
من هنا فإننا إذا أردنا أن نقرأ الشريعة قراءة صحيحة، فعلينا أن نقرأ المعطى من القرآن الكريم بجميع أجزائه وتكويناته، لا أن نمسك بطرف من الآيات، ونُعرض عن الطرف الآخر، لأن ذلك يزجنا أيضاً في مساحة القراءة الناقصة التي تؤمّن أرضية خصبة لترعرع جانب التطرف وسط الأمة، وهكذا نجد أن الأمة اليوم تدفع الضرائب.
5 ـ العامل دولي: فقد ترعى التطرفَ منظماتٌ دوليةٌ، وهي تنشأ ــ بطبيعة الحال ــ في ظل حكومات، وللحكومات مشاريعها، والغبي من لا يتعاطى ملف الدول والحكومات على أساس المشاريع، إنما يتعاطاه على أساس ردود الأفعال.
والشواهد على المساحة الدولية في رعاية التطرف واضحة وبينة لا يستطيع أن ينكر ما وراءها من الآثار إلا أعمى البصيرة.
ألوان التطرف ومجالاته:
وللتطرف أيضاً مساحات، ومساحاته كثيرة، أذكر بعضها على عجل:
أ ـ التطرف الفكري: فقد تجتمع الروافد الخمسة التي ذكرتها في مصب واحد أحياناً، وقد تفترق أحياناً أخرى إلى سواقي هنا وهناك.
وربما يكون التطرف الفكري اليوم هو الأشد خطراً على الوجود الإنساني على هذا الكوكب، ولهذا اللون من التطرف أسبابه ومناشئه وعوامله أيضاً، ومنها:
1 ـ الحداثة والعلمنة العالمية: فكلنا يعلم أن الحداثة والعلمنة العالمية ـ لا ما يتلقفه بعض مثقفينا ـ ربما يتعاطاها المرء على نحو المفردة، لكنه لا يفقه ما تنطوي عليه تلك المفردات، فتراه يضيع في الكثير من الأحيان، ويتسبب في ضياع جيل بكامله من وراء ذلك. لكن هذه القراءات الناقصة، وعدم الوضوح والبيان والقدرة على الاستكشاف للذوات الواقفة وراء البرمجة، والترتيب والتوزيع من رواد مدرسة الحداثة والعلمنة العالمية، هو الذي يُغرق مشهدنا في بعض جوانبه على أقل تقدير.
2 ـ الاتجاهات السلفية: فهنالكم جماعة أخرى على النقيض من الأولى، وهي التي تعزف على وتر الدين السلفي المقيت، الذي فرخه تراكمٌ من الزمن مع قراءات ناقصة من أناس نصبوا من أنفسهم مؤرخين ومفسرين ومتكلمين وفلاسفة وأدباء وفقهاء على رأس الأمة عبر قرون مضت.
أقول: إننا لسنا محكومين بهذا النحو من الموروث الثقيل المقيت.
وقد تتمظهر السلفية وتقترب من الجوهر، لكن بين التمظهر والجوهر مساحة كبيرة، يستطيع الإنسان الواعي والعاقل المدرك أن يشرف على معالمها، لينجو من غائلة الارتماء في الأحضان.
3 ـ غياب البناء التربوي الصالح: على مستوى المؤسسات التربوية بجميع مرافقها، بدءاً بالروضة، ثم المدرسة، ثم الجامعات والمعاهد بأنواعها، بما فيها المعهد الديني، وأعني بذلك الكليات الشرعية في مدارس العامة، والحوزات العليمة في المدارس الشيعية، التي تعيش حالة من التخبط الواضح في هذا المسار، وهو البناء التربوي الصحيح للأفراد كي ينتجوا لنا أعلاماً نهتدي الطريق على أساس عطائهم، ونصل الهدف المنشود الذي دفعنا باتجاهه نبي الرسالة الأعظم محمد (ص).
4 ـ غياب العنصر الوسطي: ومن تلك المسارات الثلاثة يتشكل محور في غاية الخطورة، وهو غياب العنصر الوسطي في وسط الأمة، فما إن تصدر كلمة من متحدث، أو يخونه التعبير، أو يكتب الكاتب سطراً أو عبارة إلا وقامت قيامة من يتربص بالمؤمنين الدوائر، وكأن محامل الظن تحطمت وأُلغي مشروعها وأغلق بابها، وفي هذا تجنٍّ على الفكر وتجاوز على حدود حرمة المؤمنين، وهي أعظم عند الله من حرمة الكعبة بصريح الحديث عن النبي الأعظم (ص).
ب ـ التطرف العلمي: ولهذا أيضاً أسبابه ودوافعه، ومنها:
1 ـ دعوى العلم: من أناس هم أبعد ما يكونون عن دائرته، بل إنهم أشبه بالقاصرين في هذا الجانب. وهذا أمر واضح وبين، نراه في كلتا المدرستين، فالمدرسة السنية اليوم تزخر بكمٍّ هائلٍ من دعاة العلم، وهم في حالة من القصور البيّن، كما أن بعض مرتدي العمائم في الأوساط الحوزوية ليسوا بأحسن حالاً من غيرهم. وأرجو أن يفقه المتلقي ويعي ويفهم معنى مفردة (بعض) في كلامي، ومن المعيب على العربي أن لا يفهم معطيات هذه المفردة، فيحمّل الكلام ما لا يحتمل، فكيف به لو كان معمماً أو يدعي أنه ممن يتعاطى الأدب؟.
إن دعوى العلم والمعرفة من القاصرين من أبناء الأمة، والتصدي لما لا ينبغي أن يتصدى له إلا أهل العلم الذين أرشدتنا الشريعة للأخذ منهم بقول القرآن الكريم: ﴿فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُوْنَ﴾([4]), يُعد إشكالية كبيرة جداً.
2 ـ غياب العالم الحقيقي في وسط الأمة: بحيث تُركت المساحة للسبب الأول أن يتفشى. فمتى ما تخليتم ـ أيها الشباب ـ عن دوركم، فسوف تتركون وراءكم مساحة فارغة، لا بد أن تُشغل بواحد من ثلاثة: إما بالأسوأ، وهو الراجح، أو ما هو مساوٍ، وهو تحصيل حاصل، أو ما هو أفضل، وهو ما نتمناه، سواء تمثل بالفرد نفسه أم بالبديل الذي يحل محله.
إن هذه الحالة من غياب دور عالم الدين في وسط الأمة، لا سيما في القضايا المفصلية التي يترتب عليها دماء وأموال وأعراض وفكر وقضايا مهمة وملحة، سوف تؤدي إلى أن يتصدر القاصرون الفاقدون للعلم، الموقع الذي لا ينبغي أن يدنو منه إلا من أمّنت طرقه الشريعة المقدسة. وهؤلاء المتصدرون لا يبرزهم للمجتمع إلا اللباس والمظهر الخارجي.
3 ـ فتاوى التكفير والتضليل: وهو عامل خطير جداً لم نألفه في مدرسة أهل البيت (ع) في أقل التقادير، وإن كانت له جذوره في مدرسة العامة من إخواننا أهل السنة، فهذا النحو من الفتاوى كان من الوفرة بمكان، وفي دور مبكر جداً.
لذلك من حقنا أن نسأل: لماذا نركب السفينة التي يحاول البعض من رواد مدرسة العامة أن يتنصل منها؟ ولماذا نتلقفها ونتعاطاها ونفعّل من دورها؟
إن فتاوى التضليل والتكفير، والإخراج من الدين، وتوزيع الثواب والعقاب، وفتح أبواب الجنان لمن شئنا، وإغلاق باب النيران على من شئنا، ليس لها أي أصل شرعي، فمن أعطى السلطة لبشر من الناس كل هذه المفاتيح لمقاليد الأمور؟ وأيُّ آيات أو روايات صحيحة من النبي وأهل بيته (ص) تؤمّن لهؤلاء مستنداً شرعياً يحتجون به بين يدي الله تعالى يوم القيامة؟ وأي فتوىً راشدة يتَّكئون عليها؟
وأؤكد هنا على الفتوى الراشدة، لأن بعض الفتاوى اليوم لا رشد فيها، وهو ما أقوله بملء فمي، لأنها لا تقرأ الواقع من حولها، ولا تدرك ما يترتب على الفتوى من أخطار. فالإمام علي (ع) أراد أن ينهى عن صلاة التراويح أيام خلافته في الكوفة، ويُفترض أن الكوفة علوية الولاء والهوى في الأعم الأغلب، لكنه لما رأى أن مثل هذه الفتوى لن توصل الأمة إلا إلى الشقاق وهدر الدماء بلا طائل، أحجم عن ذلك، وفي ذلك قراءة حكمية يفترض أن نسير وفق معطياتها، وحجتنا في الدنيا محمد وعلي (ص).
إنَّ وقوع الفتوى الشرعية في أيدي الانتهازيين لن يوصل الأمة إلى ساحل نجاة، لذا يفترض أن تكون الفتوى في حدود رب الفتوى، وهو المجتهد الجامع للشرائط، المطيع لمولاه، المخالف لهواه. فالمرجع في الإفتاء هو من تنطبق عليه تلك المفردات المقدسة الصادرة من الناحية المقدسة، وهو الذي نرتضي فتاواه، أما الفتاوى المجنحة من هنا أو هناك، أو المشفرة باتجاه يمين أو يسار، فلا تساوي شَرْوَى نقير([5])، ولا تقدم ولا تؤخر، ولا تعادل أكثر من قيمة الحبر الذي سطرت به. ونحن في فترة زمينة حرجة للغاية، ويفترض أن يكون ما دون الفتوى في غاية الدقة والحذر، فما بالك بالفتوى؟
4 ـ غياب الوازع الديني: وقد يتصور البعض أن الوازع الديني قد يغيب في أوساط عامة الناس عندما يفسق بعضهم، أو عندما يجمح الحاكم ويقسو، لكن غيابه في وسط الجهة التي يفترض أن يُقرأ فيها الدين أشد خطراً. ومن ثَم ورد عنهم (ع): «زلَّةُ العالِمِ تُفسِدُ العوالم»([6]). فالفرد يخطئ، لكن خطأه لا يتجاوز نفسه أو عياله أو دائرة محدودة، لكن خطأ العالم يجعل الأمة تذهب أدراج الرياح، وهذه في منتهى الخطورة، فلا بد من الحيطة والحذر بما يتماشى وحساسية الوضع.
ج ـ التطرف الديني: وهو في غاية الوضوح، وتكمن وراءه أيضاً مجموعة من الروافد التي تتحرك من حيث هي أحياناً، ومن حيث غيرها أحياناً أخرى. فمن أسباب ذلك:
1 ـ إعراض الأمة عن مبادئ الإسلام الحقة: فهنالك أصول وقواعد وقيم ومبادئ وثوابت أصّلها القرآن الكريم، وبينتها الشريعة، وحماها الفقهاء والعلماء المؤتمنون على الدين، ويفترض أن نتحرك في حدودها، والقراءات تختلف وتتنوع، ولا تعطي المشهد إلا ثراءً لمن ينصف أصحاب العقول، أما من يريد أن يعيش عيشة لا تأخذ بهذا البعد أساساً لمنطلقها، فهي وما شاءت، والله تعالى يقول: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾([7]). ويقول عز من قائل: ﴿لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دِيْنِ﴾([8]).
2 ــ إسقاط الدور الفاعل للأحكام الشرعية الثابتة: وذلك من أجل الشكل، لا حفاظاً على المضمون، فقد ورد في القرآن الكريم أن إقامة الحدود والأحكام، يزيد في الرزق والبركة([9])، وبناء على ذلك فإن الحكم الشرعي عندما يُحجب عن الحركة في واقع الأمة، فإن السماء تحبس قطرها، وهذا أثر تكويني. أما إذا أجريت الأحكام، وطبقت القوانين وسادت العدالة، ورفع الناس أيديهم بالدعاء، فإنّ الله تعالى يسمع منهم، أما إذا رفع الداعي يده للدعاء، وكان متمرداً على أبسط الأحكام والقواعد والأسس، فإن السماء تحبس قطرها، ويترتب على ذلك الكثير من الآثار.
3 ــ الفساد العقدي: بكل أشكاله، القديم والحديث، ففي الزمن السابق كنا نتعاطى الأمور الدينية بأبسط ما يمكن أن تكون، حتى في شكلها الظاهري، إلى أن جاءت الدولة الصفوية بما تمثل من نعمة ونقمة مع شديد الأسف. وأدعو الأحبة الذين يحاولون أن يحركوا صحيفة الصفويين من كتّاب الشيعة أو السنة، أن يقرأوها بواقعية، بعيداً مساحة التعصب على أساس من العاطفة والميل المذهبي لدى الشيعي، وبعيداً عن دائرة الحقد والتعصب المقابل، لننصف من له الحق، ونقف في مقابل من ينبغي أن نقف أمامه.
فلا يظنَّنَّ أحدٌ أن الحكم الصفوي كان شبيهاً بحكم علي بن أبي طالب (ع) عندما تولى أمور الأمة ظاهرياً، ولا أن يقرأ في الدور الصفوي كما نتمنى أن يكون في ظهور الخلف الباقي من آل محمد (عج). فللحكام الصفويين حسناتهم، وعليهم من السيئات الكثير.
فمن النماذج البسيطة لأدوار ونفسيات القادة الصفويين أن الشاه عباس الصفوي الكبير، سمل أعين أربعة من أولاده كي لا تحدثّهم أنفسهم بالإطاحة بعرشه! وعندما كان يشعر بالألم لذلك، كان يقدم على عمل أشد فظاعة، وهو قتلهم! فكان يقوم بذلك مع أولاده واحداً بعد الآخر.
هذه صفحة من صفحات الحكام الصفويين. مع ما لهم من الأيادي البيضاء على الإسلام والمذهب، إذ حركوا العلم وفتحوا الأبواب، ولكن نزاعهم السياسي مع العثمانيين هو الذي وضع المسلمين في حالة من التخلف الكبير.
ربما لا يروق هذا الكلام للبعض، لكنه الواقع، ومن شاء أن يتعرف المزيد فليقرأ المدونات والأرشيف الصفوي في مكتبة طهران المركزية، وهذه المكتبة ليست في دولة معادية أو متجنية عليهم.
فالفساد العقدي الذي كان في يوم ما، أصبح اليوم يتجدد بأثواب جديدة، ويقدَّم لنا كمنتج جديد، فهناك مجموعة من الممارسات التي يراد لها أن تكتسب الصبغة المذهبية والدينية، لم يكن لها أثر ولا عين قبل عقد من الزمن، إنما هي مستحضرات ومنتجات حديثة، وربما يقف وراءها بعض المتدينين والعلماء الطيبين، وكثيراً ما تُردي المرءَ طيبتُه، إن لم تكن مبنية على أساس الوعي والإدراك. وهل تسلل رجال المخابرات العالمية في حوزة النجف أيام ثورة العشرين إلا من خلال مجموعة من رجال الدين البسطاء؟ والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.
فلا ينبغي أن نُخدع بأيٍّ كان ممن يحمل راية أو يقوم بممارسة ظاهرها الولاء لمحمد وآل محمد (ع) ويوماً بعد يوم يتحول ذلك التمظهر البسيط الذي قد لا يكون محرماً في الأصل، إلى أمر مقدس لا يمكن الاقتراب منه. فقد حدثت في باكستان ذات مرة معركة بسبب فرس يسمى (ذا الجناح) على أنه فرس الحسين (ع) وذلك في أيام الشيخ محمد حسين، أحد مراجع الطائفة وأرباب الفكر المتنور فيها، وهو من علماء النجف العظماء، إذ قام بزيارة إلى باكستان، فسئل عن هذا الفرس: هل يجوز مسه بدون وضوء أو لا بد من الوضوء؟ فأجاب الشيخ بما يمليه عليه علمه ودينه، ولولا تدخل السلطات الأمنية الباكستانية وقتئذٍ لأصبح الرجل موطئ أقدام الناس!.
إلى متى يبقى الأمر على هذه الحال؟ فقد ترى امرأة رؤيا في المنام، فتخصص إحدى الغرف في البيت، ثم تضع فيها صوراً لمجموعة من الخيل وبعض المناظر العاطفية التي تستدر الدمع، وهكذا يصبح المحل مقدساً!
د ـ التطرف السياسي: وهذا اللون من التطرف في القرنين العشرين والحادي والعشرين، أصبح يُقحم جميع المشاهد التي تحدثنا عنها في قضايانا وأمورنا. ومن الإنصاف أن يُفصل الملف السياسي عن الكثير من الملفات، لأنه متى ما أُشرك مع تلك الملفات وقع الخلط فيما بينها وإذا وقع الخلط صعب التمييز، وإذا صعب التمييز توقفت الحركة، ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، إنما يستدعي ما هو الأمرّ، وهو المتابعة ثم العقاب، وحدث عن العقاب ولا حرج.
ومن أهم الموبقات في الملف السياسي:
1 ـ النفاق: بجميع أشكاله وأبعاده، وقلما يخرج ملف سياسي خارج دائرة النفاق، لذا يضع الإمام علي (ع) يد الأمة على نقطة أساس وارتكاز فيقول: «والله ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس»([10])، أي أن ما لديه من سلوك محكوم بضوابط الدين وثوابته، بخلاف معاوية الذي يختار طريق النفاق في التعامل. وليس أجلى وأوضح من أن يعطي عهداً ثم يضعه تحت قدميه.
2 ـ غياب الهوية السياسية الثابتة على أساس المبادئ الدينية: فالجميع يدعي الصلاح:
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
فترى الجناح الثوري في وسط الأمة، كالقوميين والناصريين والاشتراكيين والإخوان وغيرهم، يحملون شعارات عجيبة، على رأسها وفي مقدمتها الحرية، فهي العصا التي يُجلد بها الحاكم، ثم يشغل المحكوم محل الحاكم، فيصبح أسوأ حالاً منه، ودونكم الملفات والمتابعات الدولية للمنظمات التي تتابع تلك الملفات، لا سيما في دول العالم الثالث أو النامي، فسوف ترون العجائب.
إنك تراه الآن قبل أن يمسك بالسلطة، لا يتحمل كلمة واحدة لا تتلاءم مع هواه ورغبته وميوله وطموحه.
3 ــ غياب للقرار السياسي الفاعل وسط الأمة: وهذا ليس جديداً، فقد اغتُصبت قبل ستين عاماً من هذه الأمة دولة بكاملها، وسُحقت هويتها، ولا تجد قراراً سياسياً واحداً من أكثر من تسع وأربعين دولة إسلامية، يعيد الحق لصاحب الحق. في حين يملك المسلمون أكبر تكتل بشري، وأضخم اقتدار مالي، وأطهر رسالة حقة.
هـ ـ التطرف الاجتماعي: وهو ما نراه بوضوح أيضاً، فقد نشاهد معارك طاحنة على ولاية حسينية، أو ما هو أقل من ذلك. فلولا وجود المصالح المادية على حساب المبادئ لما حصل ما حصل من هذه النزاعات. فمن أسباب ذلك:
1 ـ وجود المصالح: كما أشرنا.
2 ـ غياب القاسم المشترك بين أبناء المجتمع الواحد: ويندرج تحت هذه المنظومة جميع ألوان الطيف، الحاكم والمحكوم والعسكري والمدني والعامل والموظف وغير ذلك من العناوين، فهذه كلها تشكل نسيجاً واحداً، قد نختصره فنقول: مجتمع الأحساء أو الشرقية، وإن ذهبنا أبعد من ذلك صار المجتمع هو الوطن، وقد أولت الشريعة المقدسة الوطن الشيء الكثير. ومن المؤسف أن نرى من يجرِّم ويخوِّن من يحمل شعور الحب لوطنه، مع أن حب الوطن من الإيمان([11])، والوطن يعني الأرض والماء والإنسان. فهل هناك من يكره الأرض التي تكوّن منها ودرج ونشأ فيها؟ ومن اللطيف أنّ ما من أحد إلا ويرغب أن تكون خاتمته في وطنه كي يقبر بين أهله وفي تراب بدأ منه تكويناً.
3 ــ غياب الحس الاجتماعي بين أفراد الأمة: فترى الزوج يختلف مع زوجته في بداية الزواج، فيشتكي لعمه أو خاله فلا يجد أذناً صاغية. ومن ثَمَّ نجد أن سياسة النأي بالنفس التي أسس لها الصحابي (الكبير عند علماء الرجال والحديث لدى العامة) أبو موسى الأشعري، هي السائدة، وذلك لما وقف على التل فقال: الصلاة مع علي أتم، واللقمة مع معاوية أدسم، والوقوف على التل أسلم.
هذه سياسة النأي بالنفس، التي تعني فيما تعني عدم القبول بحديث النبي (ص): «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»([12])، وهذا لسان حال بعض الدول والساسة وبعض رجال الدين وعموم الناس، ممن يقول: دع النار تأكل الأخضر واليابس، ولا شأن لي بما يحصل.
4 ـ غياب دور الأسرة: فإن تخلفت الأسرة عن دورها، كان رفاق السوء هم الطابور المهيأ بشكل كامل لتلقف الأبناء، وعندئذٍ ليس لأحد أن يتفاجأ لو رأى الأبناء الصغار في الشوارع مع رفاق السوء. وعلى أصحاب الغيرة والنخوة والحرص الديني والشعور بالمسؤولية أن يلتفتوا لأمثال هذه الأمور، فهناك أولاد أبرياء في عمر الورود، إلى جانب ذئاب مفترسة، وهذا ما ينبغي أن نحذر عواقبه، من الترويج للمخدرات وغيرها. والسبب الأساس في كل ذلك، هو غياب الأسرة وحضور رفاق السوء.
فها نحن نرى بعض حوادث الطرق التي يذهب ضحيتها مجموعة من الشباب لا تجد بينهم من صلة القرابة سوى رفقة السوء.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.