نص خطبة:التطرف آفة العصر

نص خطبة:التطرف آفة العصر

عدد الزوار: 1838

2016-03-06

الجمعة 24 / 5 / 1437 هـ 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).

اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.

﴿وَلَا تَقُوْلُوْا لِمَا تَصِفُ أَلْسَنَتَكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوْا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِيْنَ يَفْتَرُوْنَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُوْنَ﴾([2]).

ما هو التطرف؟:

التطرف في اللغة أن يكون الشيء في الطرف. تقول: تطرّفَ يتطرف تطرفاً، فهو متطرِّف (بصيغة الفاعل). أما في الاصطلاح فلا تعريف عند الأقدمين في كتبهم، أما اليوم فيعرف بمجاوزة الحد. على أن ذلك لا يلغي وجود من يتصف بهذه الصفة عبر التاريخ الإسلامي الطويل.

ولو أخذنا بما ذكر من التعريف ـ وهو مجاوزة الحد ـ فأي قول أو فعل يؤتى به خارج حدود دائرته فهو تطرف.

والعالم اليوم يقف عاجزاً أمام هذه الآفة في أن يجد لها حلاً، بل ربما يُدّعى أكثر من ذلك، بأن التطرف اليوم لا يشكل حالة من الإزعاج فقط للمنظومة الإنسانية، وإنما يتعداها لما هو أبعد من ذلك بكثير، مما يكشف أن ما رُسم له من تعريف لا يبين حقيقته كما ينبغي.

إن أي راية ترفع بين الناس يكون لها أنصارها وأعوانها، وفي الزمن السابق سرعان ما تطوى تلك الرايات لصعوبة التواصل بين الأفراد المستظلين بظلها. وراية الحق معروفة، وراية الباطل معروفة أيضاً، وأنصار كل منهما معروفون، ولكن تجد أن من يستظل بتلك الرايات ويسير بها حيث اتجهت في الأغلب الأعم من الذين لا يشكلون رقماً مهماً في النسيج الاجتماعي، وإن كان بعضهم ربما يتترس بشهادة أكاديمية متقدمة، أو زي ديني مرموق، أو وجاهة اجتماعية طابعها الأول هو عدم الواقعية. فهذه المحاور أو الاتجاهات الثلاثة لا بد أن تتمترس وراء واحدة من هذه الرايات.

الخوارج بذرة التطرف:

ومنذ أن غاب النبي (ص) بدأت خيوط التطرف تترابط فيما بينها لتشكل نسيجاً من نوع خاص. ومدرسة الحديث تساعدنا على الوقوف عند الكثير من المحطات والتوجهات والذوات التي انبرت في وضع قواعد هذا المسار في وسط الأمة، لكن الجماعة التي شكلت ظهوراً واضحاً على المشهد الإسلامي هم الخوارج. فكلنا يعلم أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ـ في التقسيم الإسلامي العام ـ ذهبوا ضحية التطرف.

والإمام علي (ع) يشكل مفردة الحق التي لا يداخلها باطل، بل لا يتطرق إلى الذهن مثل ذلك لأن النبي محمداً (ص) يقول: «علي مني وأنا من علي»[3] فهي العصمة من العصمة، وهي تعني الحق والحقيقة.

ففي عهد الإمام علي (ع) خرج من خرج، وقاتله الرعيل الأول من الصحابة الذين عاشوا الرسول (ص) وسمعوا منه، وقاتلوا بين يديه، ورووا عنه الكثير، ولكن في معركة الجمل تجلت الصورة واضحة. فمن قاتل علياً؟.

ارجع إلى كتب التراجم عند الإخوة من أبناء العامة، ستجد أن القائمة تطول بأصحاب رسول الله (ص) الذين نابذوا علياً (ع) في واقعة الجمل. أما التابعون الذين رأوا الصحابة، ورأوا آل البيت الذين رأوا النبي (ص) فحدث ولا حرج عنهم في معركة الجمل. فكانت طاحونة ومجزرة عصفت بالمشهد الإسلامي.

إن مصطلح الخوارج لم ينطبع على مجريات حرب الجمل وإفرازاتها، لأن خميرته لم تنضج بعد. وفي معركة صفين وقعت الحرب، وقتل فيها من قتل، وتم الإجهاز على الكثير من الأسماء والقامات التي تمثل أرشفة لمعطيات مدرسة الرسول الأكرم (ص). فأكثر وقود معركة صفين من المهاجرين من الحجاز إلى الكوفة، أو ممن لاذوا بالشام، حيث اشتبكت الأسنة والسيوف، وطارت الرؤوس، وأسفرت الحرب عن مجزرة، ولا تسأل بعدُ عما جرى.

لقد شكلت معركة صفين حاضنة للبذرة الأولى لمسار التطرف في وسط الأمة على نحو الظهور والوضوح، فكانت ظاهرة الخوارج. فالخوارج ممن يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون القرآن بل يحفظونه، ولكن على قلوب أقفالها، لا تنفتح على حق ولا حقيقة، لذلك أخذتهم الرياح إلى مسافات بعيدة. حيث أطلقوا من صفين مقولتهم الأولى: «لقد كفر علي». وكان تاريخهم أسود، وقد أجمع المسلمون جميعاً على خروجهم من الدين وحظيرة الإسلام.   

ومما يروى في تاريخهم أنهم لا ينجو منهم عشرة، لكن بذرتهم بقيت إلى اليوم، فالأسماء والعناوين تتغير لكن الحقيقة واحدة. وقد شكل الخوارج بؤرة خطيرة ملوثة لم يقترب منها أحد إلا وقع في وحلها.  

التطرف الصليبي:

ومن الشواهد على التطرف في العالم الحملات الصليبية، وهي رايات حمراء طرزت بالصليب، وكانت تعبر عن تيار مسيحي متشدد يقطع الرؤوس، ويبقر البطون، وهذا ما حصل على أيديهم في مصر وفلسطين وبقية بادية الشام.

إننا نشاهد اليوم بعض من يحاولون أن يقدموا لنا المسيحية على أنها داعية السلام والمحبة، ويتغافلون عن تاريخها الأسود الملوث، ولا أعني بذلك المسيحية التي جاء بها السيد المسيح (ع) وسار عليها الرهبان الأتقياء، إنما المسيحية التي اصطنعها الاستعمار، وأحرقت بيت المقدس.

التطرف المغولي:  

ومن الشواهد على التطرف أيضاً المغول، الذين جاؤوا من آسيا الوسطى، فلم يجتازوا قرية أو مدينة إلا ونكلوا بأهلها، حتى جمعوا الأطفال والنساء وأضرموا عليهم النار بشكل جماعي! ومع شديد الأسف أيضاً أن هناك من يكتب اليوم ليحسّن من سيرتهم، ويجعل منهم حملة راية الإسلام!.

ولو لم يكن من فعل المغول إلا ما حصل في بغداد لكفى، بحيث مزجوا مياه دجلة بالدم والحبر، فأحرقوا الثقافة بإتلاف الكتب، وأحرقوا الإسلام والإنسانية بقتل الأبرياء. فمن أراد أن يحسن صورتهم لا تساعده الظروف على ذلك، لأن بعض الصفحات سوداء غير قابلة للتغيير نهائياً.

النازية والفاشية والتمييز العنصري:  

ومن الأمثلة على التطرف أيضاً النازية الهتلرية، التي عصفت بأوربا، بل بالعالم كله. وكان ضحيتها 25 مليوناً بين روسيا وألمانيا، كلهم ضحية نزوة عند طاغية أرعن هو هتلر. وكان الألمان النازيون أيام هتلر يقتلون على الهوية، فمن لا ينتمي إلى العرق الآري نهايته معروفة. فكان التطهير العرقي. وقد وضعوا نصب أعينهم اليهود وعملوا على أن يستأصلوا شأفتهم.

ومنه كذلك الفاشيون في إيطاليا الذين لعبوا ما راق لهم، لا سيما في الدول الواقعة تحت نفوذهم واستعمارهم.

ومن ذلك أيضاً مدرسة حملت لواء التمييز العنصري، فهذا أبيض وذاك أسود. ففي روديسيا في جنوب أفريقيا كان التمييز العنصري يضرب في جميع الاتجاهات، فالأبيض ينظر للأسود على أنه رقّ، سواء انتمى لدين أم لم ينتمِ، حتى ضجت جمهورية جنوب أفريقيا. ثم جاءت ظاهرة نلسون مانديلا الذي قضى عقوداً من الزمن في السجن، ثم حصل التغيير، ولكن بعد الملايين من الضحايا.

الصهيونية والشيوعية:

ومن أمثلة التطرف الحية الصهيونية العالمية، الولد المهجَّن للماسونية. فقد كانت الصهيونية وما زالت تدير جميع الأروقة في جميع مساراتها على وجه الأرض جراء ما تملكه الماسونية من قوة واقتدار في مواقع القرار. وهذا كله مسطور في مذكراتهم.

أيها الشاب الواعي: عليك أن تقرأ وتطّلع، فما ينتظرك في المستقبل الكثير، فأعدّ له ما استطعت من أجندة. فزمن البساطة والسذاجة ولّى خلف ظهورنا وظهور الآخرين، ولا بد من الدقة في الحسابات.

أما اللجان الثورية التي ظهرت للعلن أيام المد الأحمر الشيوعي فكانت مثالاً آخر للتطرف. وذلك بعد أن استقرت الدولة الروسية على أنقاض الدولة القيصرية في روسيا، وحصل معها تناغم وتماهٍ في بعض الأقطار العربية، وبعض الدول هنا وهناك حتى في شرق آسيا. فكانت (اللجان الثورية) تعتمد طريقة التصفية، بأن يلبس بعض رجالهم الأقنعة ثم يطلقون النار من الأسلحة الكاتمة. وقد ضج العامل، وامتدت الأيدي هنا وهناك، فبدأت الاستخبارات العالمية تبني بناءها من جديد.

التطرف التكفيري:

ومنها ما نعيشه في الفترة الأخيرة من الجماعات التكفيرية الموصوفة بالإسلامية، والإسلام منها براء. فهؤلاء دمروا أكثر من مكان ومكان، ولم يسلم منهم حجر، ناهيك عن البشر، ودونك الوطن العربي والبلدان الإسلامية والعالم بأسره، وقد ضربوا الغرب في عقر داره في أكثر من موطن ومشهد. ولا زالت التيارات التكفيرية تمارس دورها إلى يومنا هذا. وليس لأحد أن يقول: إن هؤلاء أناس عفويون، فهم مبرمَجون يتحركون وفق خطط مدروسة بعناية، وهم أشبه بحجر الشطرنج، إذ لا تُحرَّك حجرة الشطرنج من مربع إلى آخر إلا بعد تفكير طويل، قد يستغرق أحياناً أكثر من ساعتين، وفي بعض المباريات الحاسمة بين متباريين يقف أحد اللاعبين متأملاً أكثر من عشرين ساعة! فهؤلاء أشبه بأحجار الشطرنج التي تحركهم أيدٍ من وراء الكواليس.

من هنا إنني أستغرب ممن يصف هؤلاء أنهم همج رعاع، فالهمج الرعاع لا يمكنهم الوقوف في وجه دولة تمتلك ترسانة عسكرية هائلة لخمس سنوات. ومن يقتحم مدينة مثل الموصل خلال ساعات ليس همجياً، بمعنى أنه لا يدرك ما يعمل، ولا يعي ما يفعل، وإلا فهم أكثر الناس همجية ووحشية. فهؤلاء ـ لا سيما الصف الأول منهم ـ في منتهى الإعداد للقيام بالمسؤوليات المناطة بهم.

الراديكالية السياسية:

ومن الأمثلة على التطرف الراديكاليون السياسيون. وهؤلاء أيضاً من مصائب الزمن، فقد جاؤوا على حطام المتقدمين ممن ساروا بالبشرية سيراً من نوعٍ ما. لكن الزمن اليوم اختلفت الأمور فيه عن الأمس.

وربما يكون البعض مصدوماً مما يرى، لكنني أرى الأمور طبيعية ولا موجب للصدمة. تقول الزهراء (ع): «وسيعلم التالون غبّ ما أسسه الأولون».

بعض أحوال التطرف: 

إن التطرف تارة يكون في الدين، وأخرى في الفكر، وثالثة في السياسة. وهذه أهم الحقول التي يمكن أن يتحرك المتطرف في دائرتها.

ثم إن المتطرف تارة يصل إلى مقام القيادة وأخرى يبقى في دائرة التنفيذ، يتلقى الأوامر وينقلها.

والتطرف الديني تطرف أعمى، وهو أخطر حالات التطرف على وجه الأرض، لأن صورة الظلم في القتل على نحو المناهج الأخرى ربما يكون التبرير فيها صعباً، أما على أساس الدين فلا.

إن الدين يُفترض أن يكون رحمة من الله تعالى، بمعنى أن الإنسان لو تعاطى مبادئ الدين الحنيف على سماحتها بسماحتها، وتماهى معها، ثم جسدها خارجاً على أنها سمحة، فإن هذه الصور من التطرف سوف تختفي ولا يبقى لها عين ولا أثر. ولكن إذا أخذت الإنسان حالة من التطرف أدار ظهره للحقيقة، وبدأ يتماهى مع مربعات جديدة.

فمن أبرز مكونات المتطرف الشك وسوء الظن، والسقوط في فخّ الآخر، والرغبة في المكاسب السريعة، ومفردات أخرى تجتمع فيما بينها فتصل إلى صناعة إنسان متطرف، لا يعنيه أن تبقى صورة الدين ناصعة بيضاء صافية أو لا تكون كذلك. وهذا ما ينطبق على جماعات التطرف في هذه الأيام.

مسؤوليتنا ودورنا:

فيجب علينا نحن أن نكون حذرين، وفي منتهى درجات الحذر، لأن الإنسان المتطرف في داخله حسيكة النفاق، وهذه تُلبّس وتدلّس على الطرف المقابل، فيمكن أن يكون المتطرف أول الحاضرين في المسجد وآخر المنصرفين منه. وأن يلبس المسوح كي يظهر بخلاف ما هو عليه. كلامه ليّن مرن، لأن الغاية عنده تبرر الوسيلة، فيتمظهر ويتشكل بهذه الأوصاف، فتصل النتيجة إلى ما تصل إليه.

إن مسؤوليتنا نحن اليوم أن نستعين أولاً بالله سبحانه وتعالى في جميع أمورنا، لأن الملاذ بالله، والملجأ إليه. وأن نكون يقظين، حذرين، دون أن نُسقط حالة الثقة فيما بيننا. فالثقة فيما بيننا لا تعني إسقاط حالة الحيطة والحذر، لأن أشكال الإجرام متنوعة، والمتطرف المجرم المتخلي عن دينه سيركب ما تهيأ له من الطرق. فلا بد أن نكون حذرين متعاونين. فليس من الصحيح أن نرى أن هذا أو ذاك من الأمور لا يعنينا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا ولكم التوفيق، إنه ولي ذلك.

والحمد لله رب العالمين.