نص خطبة:البعد التاريخي وأثره في مسيرة الإسلام والمسلمين (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
قال تعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَديثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْديقَ الَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}([2]).
ويأخذنا القرآن الكريم في موطن آخر إلى صورة أخرى فيقول: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}([3]).
ثم يختمها بأمر ثالث مهم جداً فيقول: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصيدٌ}([4]).
تاريخ الحرب والسلام:
في الأسبوع الماضي كان الكلام حول الرافد الأول الذي دوّن لنا مسيرة الأحداث في زمن الرسالة الأول، وذكرنا أن لذلك إسقاطاته وآثاره في مجمل الأبحاث العلمية والفكرية والعقدية المرتبطة بالتكوين المعرفي عند المسلمين، ولا زالت ضريبته تدفع باهظة إلى اليوم من جميع المسلمين، في مدارسهم وبحوثهم ومعاهدهم وورش أعمالهم المختصة.
أما الجهة الثانية فهي عبارة عما جاء به المؤرخون ورواة الوقائع في الغزوات والحوادث وغيرها، فيما يتعلق بجانب السلم تارة، والحرب تارةً أخرى. ونحن نعرف أن المسلمين تقلّبوا في السير برسالتهم وإبلاغها للآخر من خلال هذين المسارين، السلم والحرب، فالسلم هو المسار الأول، والحرب عند الضرورة، وفي أغلب الأحايين كانت عبارة عند دفاع وقائي، فهنالك نوعان من الدفاع، أحدهما المباشر، والآخر الوقائي، والمسلمون تحركوا على كلا المسارين، وبذلك يجاب عن إشكالية الغزوات والسرايا والمعارك التي خاضها النبي (ص) والتي يطرحها أحياناً حتى بعض أبناء المسلمين دون التفات إلى أساس التكوين والمركّب الذي على أساسه تثار مثل هذه الإشكاليات. ومعركة بدر خير شاهد على ما نقول، ناهيك عن بقية المعارك. وبين ما يتعلق بالسلم وما يتعلق بالحرب مفارقة كبيرة، وما سطروه هنا أو هناك يختلف كثيراً.
فحتى من يدخل في إشكالية مع أهل بيته، أو مع دائرة مجتمع صغير من حوله، أو ما هو أوسع وأكبر من ذلك، فإنه يريد أن يستخلص حلاً، ينقذ على أساسه السفينة من الغرق، فإذا كان في حال سلم فهو في حال ارتياح، وتكون صناعة الحل مكتملة الرؤية وصحيحة المنتج، أما إذا كان في حالة حرب، ولا يريد سوى التخلص من الآخر والهروب من الواقع، فلن يكون الحل كما هو منتج من الطريق الأول السلمي.
ومن هنا أهمس في أذن الجميع فأقول: عندما يحصل أي طارئ في بيوتنا ومجتمعاتنا واستراحاتنا ونوادينا ومؤسساتنا الرسمية وغيرها، فعلينا أن نتحرك على أساس مساحة السلم أولاً، ثم الدراسة واتخاذ القرار، كي نصل إلى ساحل النجاة، وإلا إذا كنا محمومين بالصراع والرغبة في التخلص من واقع مفروض، حينئذٍ تكون النتائج أكثر ضرراً على جميع الأطراف.
ومن هنا تشكل ما يسمى بعلم التاريخ، فعندما وضع حجر الأساس للتاريخ في تلك الأزمنة، كانت الحكومات والدول هي التي وضعت ذلك، ومن هنا كانت منطلقات المؤرخ محسوبة ومعروفة كما سيأتي وأشير له بإشارة مباشرة إن شاء الله تعالى.
ما هو التاريخ؟
والتاريخ وعلم التاريخ كغيرها من العلوم التي تحتاج إلى تعريف، كي نستطيع أن نتعامل معها بناءً على حدود العنوان المنطبق على المعنون، فالتاريخ، وعلم التاريخ لا يمكن معرفتهما، ولا معرفة الرجال الذين دوّنوا التاريخ وأوصلوه إلينا ما لم يكن هنالك تعريف لهما. وبلا تعريف دقيق يدخل المنتج في الخارج في دائرة خلط الأوراق، ويفضي إلى عدم الوصول لنتيجة، ولكن إذا عرّفنا هذا العلم استطعنا أن ننطلق من خلال تعريفنا له إلى ما هو الهدف والغاية، وهي الفرز بين الغث والسمين، كي نأخذ بالسمين وندع الغث لأهله.
وعندما أتكلم بهذا المطلب، فلست أنطلق من منطلق فئوي أو مذهبي، إنما أتحرك على أساس العنوان العام، ومعطيات الإنسان بما هو إنسان. نعم، لهذا الأمر إسقاطاته القريبة على مشاهدنا، لأنها تعنينا أولاً وبالذات.
فمثلاً، مر علينا ذكرى مولد النبي (ص) فما الذي قرأنا في مولده؟ وما الذي استفدناه من المنتج الذي خلفه وراءه؟ مع وجود الخلط الواضح البين بين الإسرائيليات المدسوسة، والنصوص الثابتة.
إن البعض يتحسس أحياناً من بعض المفردات، وأنا أهمس في أذن كل شخص يتحسس من بعض الكلمات فأقول: لا تستقطع الكلمة من سياقها، سواء كانت مفردة أم تعريفاً أم فقرة، وعليك أن تجعل ذلك المقتطع في حالة من الربط مع ما تقدم وما تأخر.
ومن هنا لو كررت القول دائماً: إن ما نعيشه اليوم هو فقه الرجال، وليس فقه محمد والآل، فلا يعني البعض متى قلتها؟ وأين؟ وماذا قبلها؟ وماذا بعدها؟ إنما يكتفي بالعبارة فقط، فيقول: ومن أين جاء مراجعنا بهذا الفقه والأحكام؟ أليس لهم أدلة من الكتاب والسنة؟ الجواب: أنني لم أعنِ ذلك أبداً، وأدرك جيداً أنهم ينطلقون من أدلة شرعية من الكتاب والسنة، ولكن بقدر ما أثّرت مدرسة الحديث في حرف البوصلة عن مسارها أصبحنا نتعاطى أحكاماً لا علاقة لها بمحمد وآله، إنما هي منتج الإنسان غير المعصوم، المسمى مرجعاً أو فقيهاً أو مجتهداً، ولا يعني ذلك الملامة أو الطعن أو الذم، لأن الرسالة العملية لهذا المرجع وذاك المرجع، حتى نصل إلى أكثر من مئة وخمسين مرجعاً في الساحة اليوم، ليست رسالة واحدة، ولا كلمتهم فيها واحدة، وبينها تنافر واضح وبيّن، وإن كانت في الظاهر تحقق لنا صحة ما نقوم به من عمل، ولكن، هل هذا بعلم الله هو ما أراده محمد وآل محمد (ع)؟ الجواب: علينا أن ننتظر حتى يأذن الله للخلف الباقي من آل محمد (عج) عندما يعمد إلى تلك الرسائل العملية، فيقوّم الاعوجاج فيها.
أقول: إن هؤلاء المراجع عندما يأتون بحكم شرعي، فإنما يكون مبنياً على آليات تلقَّوها عمن تقدمهم، يجسدونها في الخارج، فتأتي النتائج وفق تلك الآليات، كما هو الحال في الطبيب وغيره، فالطبيب إنما يطبق في الخارج تلك الآليات والنظريات التي أخذها عمن قبله، وقد تكون صحيحة وقد تودي بحياة المريض.
فيجب أن لا نتحسس من نسبة الفقه للرجال، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.
إن التاريخ، عبارة عن حكاية الماضي الإنساني، والتسجيل المباشر له. فجميع الدول، من أموية وعباسية وعثمانية وغيرها من الدول الصغيرة والكبيرة، وحتى يومنا هذا، لها شُعب معنية بتسجيل تاريخ السلاطين والحكام والحروب والسلام وإنجازات الأمم العلمية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفكرية وعلاقاتهم مع الدول الأخرى، وهكذا. وهنالك مؤسسات معنية بجمع المعطيات والمعلومات وتسجيل كل صغيرة وكبيرة.
وهذا التاريخ الذي يصل إلينا يشتمل على جميع المصادر المتاحة، من قبيل الكتب والصحف والوثائق وحتى التحف المهداة للحكام والسلاطين. فعندما تهدى قلادة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، إلى بعض القادة الكبار في الدول، فإنها تشكل في الجانب الإعلامي حركة بروتوكولية، الهدف منها تعزيز العلاقات بالدول، ولكنها في الجانب التاريخي لها شأن آخر، فبعد مئة عام مثلاً، تكون ضمن المفردات التاريخية التي تدرس من خلال الزمان والمكان والمصالح المترتبة عليها وما إلى ذلك.
إننا اليوم نعرف أن أعلى وسام في الدولة السعودية هو وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، فكم منّا من يعرف ماذا يعني هذا الوشاح؟ كلنا نحمل الهوية السعودية، ولكن كم منا كلف نفسه أن يقرأ عن هذا الوسام؟
إن الذي يعنيني من هذا كله أن نقرأ ليس إلا، فكل عنوان من العناوين المهمة لا بد أن تكون لدينا فكرة عنه، وأن نستقصي ونتتبع.
بل الأكثر من ذلك، أننا لا نقرأ عما نعتقد به من مقدسات دينية، فقد مرت بنا شهادة الإمام العسكري (ع) واحتفلنا بها لمواساتهم، ولكن هل اقتبسنا من ذلك شيء؟
هنالك تفسير معروف باسم الإمام العسكري (ع) وهنالك قضية مهمة لا زالت تدور رحاها في أدمغة الكثيرين، من أجل البحث عن دليل عليها، وليس لها أصل سوى ما ورد في هذا التفسير، الذي لم تثبت نسبته للإمام العسكري (ع).
مصادر التاريخ وروافده:
أضف إلى ما تقدم من مصادر التاريخ، النصوص الدينية، من قبيل الكتب السماوية العامة، والصحف التي نزلت على أنبياء معروفين لهم خصوصيتهم. وكذلك الأحاديث التي رويت عن النبي (ص) وهذه واكبت الأنبياء من لدن نوح حتى نبينا نبي الرحمة محمد (ص).
ومن الملاحظ هنا أنه ما من حدث يقع على وجه الأرض، صغيراً كان أم كبيراً، أو كان لأصحابه شأن أم لا، إلا ويقع فيه الاختلاف، ومع تقادم الزمن تتسع هوة الاختلاف في نقله وقراءته والإفادة منه.
فحياة النبي (ص) وأهل البيت (ع) وحركة الإسلام والمسلمين ليست بعيدة عن هذا الإطار، وكما لفّ المشهد قبل الإسلام هذا اللون من الاختلاف، حصل ذلك بعد الإسلام، بل إن الخلاف وقع في زمن رسول الله (ص) نفسه، كما في صلح الحديبية وغيرها، وكان بشكل أوضح عندما وقع والنبي (ص) يعالج سكرات الموت، كما ورد في الأخبار.
ولكن، مع ثبوت حقيقة الاختلاف، إلا أننا نسيء إدراته والتعاطي معه على أنه واقع ينبغي التعامل معه بإيجابية، ومحاولة جعله في سياقه وحدوده. فمن مشاكلنا أننا أحياناً نسمع المعلومة فنجند أنفسنا خدماً إعلاميين لصالح المصدر، فنكون (حمالة الحطب) بلا مبرر. فبدلاً من أن يكون منبر الجمعة والجماعات والاحتفالات والمناسبات ومنبر الإمام الحسين (ع) حالة من التصحيح، تتحول إلى حالة من خلط الأوراق، والذي يدفع الضريبة هم عامة الناس، رجالاً ونساءً.
فما يجري في العراق اليوم، يؤكد أن الحركة الدينية لو كانت تسير وفق الوعي ومعطياته، لما حصل ما حصل من مشاهد مروعة بحق الجنود ورجال الأمن وعامة الناس. فلا الجندي أجنبي من دولة أخرى، ولا من يضربه ويعتدي عليه، ولا البريء الذي يُقتل بلا ذنب. كلُّهم من بلد واحد، بل من مذهب واحد. فلا بد من توظيف المفردات الدينية لتنمية الوعي وعدم الاكتفاء بالعاطفة، فالمستقبل مظلم، ما لم توقد القناديل وتسرج الليالي. وعلينا أن ندفع بالعجلة، ودفعها متوقف على قراءة لا على سماع، فإن كنت تسمع مني ما تسمع في يوم الجمعة، فهذا لا يكفي، وعليك أن تتابع وتقرأ.
وأنتم أيها الشباب والشابات، الذين تجلسون في مجالسكم الخاصة أو العامة، عليكم أن تناقشوا ما أطرحه أنا أو غيري، ولا يعنيكم الأشخاص، أحسنوا أم أساؤوا، ولا تهتموا إلا بالقضية التي يطرحونها، وعليكم أن تشبعوها حواراً ونقداً، مع حفظ الاحترام للأشخاص، فنحن مهما اختلفنا لا بد أن تبقى لكل إنسان حرمة.
العوامل المؤثرة في المؤرخ:
ثم إن المؤرخ الذي ينقل لنا التاريخ عبر مروياته له صفات مؤثرة في صناعة الحدث نفسه، فهو ينقل الحدث ويرويه، وهذه المرويات لها أثر فينا، وهي في الوقت نفسه متأثرة بصفات المؤرخ. فالمؤرخ قد يكون مؤرخاً رسمياً يتقاضى أجراً، وقد يكون مؤرخاً حُرّاً، وهنالك فرق كبير بين المؤرخَين، فالنص الذي يكتبه هذا غير الذي يكتبه ذاك، وإن كانا في عصر واحد، وكانت القضية المنقولة واحدة.
وقد يكون المؤرخ مؤدلَجاً أو غير مؤلج، فلا شك أن المنطلق الفكري والعقدي لذلك المؤرخ، غير المنطلق الفكري والعقدي للآخر. ولكل منهما إسقاطه وآثاره على النص المنقول.
وهنالك مؤرخ يتحرك على أساس أدلجة حزبية، والآخر على أساس أدلجة مذهبية، أو فكرية، فينعكس كل ذلك على النص المنقول.
وربما يكون المؤرخ هاوياً، وربما يكون محترفاً، كما هو الحال في الرياضة وأمثالها، فينعكس الاحتراف في نتاج المحترف، والعكس بالعكس، وكل منهما يصبغ المشهد التاريخي بلون. لكن خطر المؤرخ أكبر بكثير، فلو خسر الرياضي بطولةً ما، فلا تنطبق السماء على الأرض، وما أكثر الخسارات التي تحصل، أما المؤرخ فلا شك أن أثره كبير جداً ودائم، فقد تحصل بسببه الحروب والنزاعات وتجري الدماء. وأحياناً يكون ذلك الأثر بين دين ودين، أو مذهب ومذهب، وأحياناً في داخل المذهب الواحد، ونحن اليوم بحمد الله في وضع لا نُحسد عليه، حيث أصبح النزاع يحصل حتى في دائرة المرجع الواحد، لا بين مرجعين أو أكثر. بل غابت الخلافات بين المراجع في العناوين العامة، وتحولت إلى داخل البيت الواحد.
أقسام التاريخ واتجاهاته:
وهنا لا بد أن نقف عند أبرز المجالات التي يدوَّن فيها التاريخ، وأهمها:
1 ـ تاريخ الأفراد والجماعات: فهنالك تاريخ كتبه أفراد، وآخر كتبته مؤسسة أو جماعة، وبذلك يختلف هذا التاريخ عن ذاك، وما نتلقاه هنا يختلف عما نتلقاه هناك، ونتأثر بهذا بشكل مغاير لذاك.
2 ـ تاريخ الحروب والغزوات: فهذا التاريخ له آثاره وإسقاطاته علينا، وعلى بناء ثقافتنا. فبعض الحروب لا نقدم منها سوى الجانب المأساوي، كقطع الرؤوس وشق الصدور والبطون، وتقطيع الأعضاء، ولا نستعرض الجانب الآخر في المشهد.
فمن باب المثال، يقول النص التاريخي: إن الإمام الحسين (ع) في اليوم العاشر استنفد آخر ما لديه من نصح وإرشاد ومحاولات لدرء شبح الحرب والقتال، حتى قال: «إنّ حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنّا أمّة وأنتم أمّة»([5]).
فهذه الرسالة وحدها لو تم إيصالها للعالم، لكانت أفضل بكثير من النصوص الشعرية والنثرية والممارسات، التي لا شك في كون بعضها خاطئاً، كالتطيين وأمثاله، فماذا أقدِّمُ لنفسي أو للإسلام والمذهب، أو للإمام الحسين (ع) إذا قمت بتطيين نفسي؟ فالحسين (ع) فكر وعطاء ونور وهداية وسلم ومحبة، وقد أراد للأمة أن تنتقل من الحضيض، إلى عالم فيه أوج الكرامات والرقي، لكن الأمة لم تقبل منه ذلك، فقتلته. ولكن، لماذا قتلته؟ هذا ما يجب أن نعرفه ويعرفه العالم.
فلا ينبغي استهلاك الناس في ممارسات شعائرية فقط، واستغراقهم بها، بل لا بد من دخولهم في صميم الحدث، كي يكونوا في نهاية المطاف مجتمعاً حسينياً. وقد أشرت سابقاً من باب الشاهد، لو أن العراق في ممارساته كان يعي الحسين (ع) لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
ثم إن أهل البيت (ع) ليسوا لأتباع أهل البيت (ع) حصراً، إنما هم للإنسان بما هو إنسان، فمن باب أولى أنهم للمسلمين عامة، فلا معنى للشحناء والبغضاء الشائعة اليوم التي لا نجني منها سوى الضياع. فهنالك أحداث أكل الدهر عليها وشرب، فيفترض أن تطوى صفحتها ونبدأ من جديد بكتابة تاريخ نقي طيب صاف، وهذه رسالة للجميع لا لجماعة ولا فئة بعينها.
3 ـ تاريخ العلوم والمعارف: فما تم تدوينه في هذا الطرف يختلف عما هو عليه في الطرف الآخر، وفي الجهة الرسمية غير ما هو عليه في الجهة غير الرسمية.
4 ـ تاريخ الدول والحكومات: فعندما يكون الحاكم تابعاً لمذهب المؤرخ فسوف يرفعه للسماء، أما إذا كان من مذهب آخر فسوف يحفر له حفرة في تخوم الأرض.
ثم إن التاريخ لا يرتبط بالحدث كما هو، فينقل أحداث الحرب أو المنتج العلمي أو غيره، إنما يتعداه لما هو راجع إلى الأفكار والمعتقدات. وهذا هو بيت القصيد، بأن يكون ناقل القضية التاريخية يسلط الضوء على أكثر المسائل تعقيداً وحساسية وأثراً في بناء الإنسان، ألا وهي مسألة العقيدة، حال أن المؤرخ ليس مختصاً بالعقيدة، فالعقيدة من اختصاص علم الكلام، ولا يمكن أن نتعاطى الأمر العقدي كما نتعاطى الشأن الرياضي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. كما هو الحال في الشأن السياسي أيضاً، إذ لا يمكن لأيٍّ كان أن يتعاطى الشأن السياسي.
ومن هنا لا بد أن نقرأ حال من كتب التاريخ من جهة منطلقاته العقدية والفكرية، فإذا استطعنا حلّ هذه المعضلة سهل علينا التعاطي مع ما خلّف وراءه، فلا زالت الدماء تسيل إلى اليوم بسبب ما كتبته بعض أقلام الذين تقدمونا. فلو أنهم قدموا الإسلام كما ينبغي، أو أن حملة المذاهب قدموا المذاهب كما ينبغي على أن يكون الأصل في ذلك هو الإسلام وما جاء عن النبي (ص) من الهدي، فلا شك أن المشهد سوف يختلف اختلافاً كبيراً، ولكن مع شديد الأسف، لم يعد القرآن هو المحرك لنا، ولا السنة الصحيحة، إنما يحركنا فقه وعقيدة نقلها إلينا مؤرخون لا يتحلّون بالأهلية في نقل الأمانة، فاختلطت الأوراق فيما بينها. وهنا تصح مقولتي أن ما نعيشه هو فقه الرجال.
فلسفة التاريخ:
ومن هنا تولد علم آخر أهم من التاريخ نفسه، ومن علم التاريخ، ألا وهو فلسفة التاريخ، فهي أهم من التاريخ وكتّابه ومدونيه.
إن فلسفة التاريخ هي أحد فروع علم الفلسفة، الذي يعتبر أدق العلوم وأكثرها حكمة إذا ما أمسك بها الإنسان، إذ يستطيع أن يفلسف القضايا من حوله. ولهذا العلم موضوع، وهو عبارة عن دراسة التاريخ من خلال النظرة الفلسفية، لا نظرة الفقيه ولا المفسر ولا اللغوي ولا غير ذلك، بل حتى المؤرخ ليس من اختصاصه انتزاع ما ينطوي عليه الحدث، فهذا عمل الفيلسوف التاريخي.
ومن المؤسف أن أوربا متقدمة علينا في هذا المجال، ولذلك قلبت الطاولة علينا، وجاء المستشرقون فوجدوا أن الأرض مبسوطة لهم، فتغلغلوا في جميع مفاصلنا من الحوزة إلى ما دونها.
ولهذا العلم تعريف متفق عليه لدى الكثير من أصحاب الاختصاص، وهو: دراسة الأسس النظرية للممارسات والتطبيقات والتغيرات الاجتماعية البتي حدثت على مرّ التاريخ. كما هو الحال في ولادة النبي (ص) ووفاته ورسالته والمواقع التي توقف فيها، والأحداث التي جرت في محضره وقبله وبعده، وهكذا.
ولهذا العلم رموز كبار جداً، منهم من المسلمين ابن خلدون، صاحب المقدمة والتاريخ، فهو عالم كبير في هذ المجال. ولا يمنع من الشهادة له بالتفرد في هذا المجال أن يكون على غير مذهبنا، ولا ينبغي أن تكون هنالك حساسية في أن نذكر عالماً ليس من مذهبنا أو ديننا، ونشهد له بالقيمة العلمية والفكر والأدب والفن والذكاء والسياسة والحكمة، فليس لذلك علاقة بدين أو مذهب. قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ}([6]). وهذا المبدأ القرآني عام لجميع بني البشر، وليس هنالك تمييز في الإبداع بين هذا وذاك.
ومن أبرز رجالاته أيضاً «هيجل» الألماني، وقد بدأ هذا المسار في القرن السابع عشر، لكنه إلى اليوم لا يعدّ مادة علمية ذات طابع تخصصي في منتدياتنا العلمية الدينية، رغم أن له قيمة علمية أكبر بكثير من بعض العلوم التي جعلناها آلية للوصول إلى الحكم الشرعي.
ففي القرن السابع عشر كانت بدايات هذا العلم، وكان «فولتير» أول الفلاسفة الذين عنوا بهذا الجانب، وتحركوا فيه.
ولهذا العلم أركان يبنى عليها، هي عبارة عن دراسة مناهج البحث، وهي:
1 ـ الطرق والأساليب التي يكتب بها التاريخ، والتحقق من صحتها من جهة، ومدى صدقها في الخارج، فالكثير من القضايا لا أساس لها، لكنها من المسلّمات عندنا، بل أحياناً ننزلها منزلة كبيرة.
2 ـ الممارسة التركيبية: أي بعد أن يسرد الحادثة يقوم بتفكيكها وتحليلها وتحليل الأشخاص فيها، ثم يخلص إلى نتيجة ونظرية يقدمها للناس، وقد تكون تامة أو لا تكون.
فهل أخذ هذا العلم دوره في مدرستنا الإسلامية؟ الجواب بكل صراحة: كلا، لعدم رغبة المؤسسة الرسمية في ذلك، لأنه يقلب الطاولة ويضيع المصالح، ولعدم التفات السواد الأعظم من الناس لأهمية هذا العلم لتصحيح المسار وشقّ الطرق نحو الأهداف.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.