نص خطبة: البعد الإعلامي وصناعة القرار
وداع شهر رمضان:
عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله على روحه الطيبة) قال: «دخلت على رسول الله محمد (ص) في آخر جمعة من شهر رمضان، فلما بصر بي قال لي: يا جابر، هذا آخر جمعة من شهر رمضان، فودعه وقل: اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً، فإنه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنيين، إما ببلوغ شهر رمضان، وإما بغفران الله ورحمته»([2]).
البلاغ نهج النبوات:
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِيْنَ﴾([3]).
وقال عز من قائل: ﴿وِأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوْكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ﴾([4]).
من المعروف أن هذا الدين ثبت وتقدم في ظل أربعة أركان ودعائم، هي: مال خديجة، وكفالة أبي طالب، وسيف علي، وبلاغ النبي محمد (ص).
ومما لا شك فيه أن للبعد الإعلامي وصناعة القرار في عالم اليوم شأناً عظيماً، وهذا يحتاج إلى مقدمة أدخل من خلالها إلى ما أرغب أن أصل إليه فيما يتسع له الوقت.
فالإعلام له الأثر الكبير، لذلك انتُدب النبي (ص) على أساس من استغلال هذا البعد من أجل القضية، وهي رسالة السماء، كي تصل إلى أبعد النقاط ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتتغلغل في النفوس بما أتيح لها. فبدأ بعشيرته الأقربين، ودعا الرؤوس منهم بعد أن أولم لهم، ثم قال لهم: من يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي؟ وكان علي آنذاك حدث السن، فصار أحدهم يرمق الآخر ببصره، ولم يجبه أحد، فقام علي (ع) ليتكلم فأجلسه النبي (ص) ثم أعادها ثانية، فكان ما كان في الأولى، حيث قام علي (ع) فأجلسه النبي (ص). وفي الثالثة قام علي (ع) فأخذ بيده وهو يشير إليهم قائلاً: هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي.
من هنا وُضع حجر الأساس للإمامة الحقة المتمثلة في علي وآل علي (ع) بنصٍّ صريح واضح بين علية القوم وكبرائها. وقد أشرت سابقاً أن ما حصل في الغدير ليس تنصيباً، إنما هو إشهار لأمر تقدمَ الإعلان عنه، وتمت البيعة فيه، ويد الله فوق أيديهم.
أما المشهد الثاني فقد تقدم فيه النبي (ص) عندما أُمر أن يصدح بالرسالة، وينقلها من مربع إلى آخر، حيث قصد البيت الحرام، واعتلى الصفا، ونادى: وا صباحاه، فاجتمع الناس من حوله، فقال لهم: ما تقولون لو أخبرتكم أن قوماً يريدون غزوكم؟ قالوا: كنا نقول: إنك أنت الصادق الأمين، قال: إذن قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. فما كان الجواب من أبي لهب ـ وهو أحد كبراء القوم ـ إلا أن أخذ حجراً من الصفا وصك به جبين النبي (ص) وعندها هبط الأمين جبريل مطمئناً قلب النبي (ص) بقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾([5]).
فالنبي (ص) بدأ بطرح تكاليف الرسالة، وكان لسانه هو الواسطة التي أوصل من خلالها المعارف والأحكام والعلوم والهداية والتسييس والإدارة طوال تلك الفترة.
الإعلام في العصر الجاهلي:
وقد كان أثر الإعلام قبل الإسلام واضحاً بيناً أيضاً، فقد كانت قريش تجتمع في مكة، وفي سوق عكاظ، حيث يجتمع النخبة من الشعراء الذين كانت قصائدهم يجدر بها أن تعلق على أستار الكعبة، ثم يحتفلون بها في مهرجان كبير، ثم تعلق على أستار الكعبة لتشكل جانباً إعلامياً للشاعر والقبيلة، فمواطن القوة والاقتدار في بنائها هو لونٌ من ألوان الإعلام، فمن كان يأتي إلى مكة قبل الإسلام حاجاً يقف عند المعلقات ليقرأها، وكان الكثير منهم يستظهرها، لذلك وصلتنا كما هي.
أما في الأمم قبل الإسلام، فالأمر هو الأمر، فالأنبياء في رسالاتهم أفرغوا من ألسنتهم في الأمم من حولهم، تلك الأمم التي لم تشأ أول الأمر أن تركب سفينة الإله وتتمسك بالرسالات والصحف التي جاء بها الأنبياء. فلم يكن ذلك بعيداً عن دائرة الإعلام، فيما يحقق لهم الأهداف والرغبات.
صناعة الخبر:
وهنا أمور لا بد من الإشارة إليها، ومنها التعاطي مع الخبر، فللخبر أهمية كبرى بسبب ما يكشفه من جوانب القضية، فربما يحمل أحدنا قضية كبرى مهمة، ويرتبط بها مصير أمة بكاملها، لكن إخفاقه في استغلال هذا الجانب، وعدم القدرة على التوظيف، يُبقي الحال على ما هو عليه، ويجعل القضية رهينة محتبس ضيق هو عبارة عما يختلج في صدره من مشاعر وأحاسيس ومواقف وأفكار.
والعظماء هم أولئك الذين صدحوا بما كانوا يعتقدون به، فالناس لا تجمع على شيء، حتى على الله سبحانه وتعالى، لذا نجد أن الكفرة اليوم على وجه الأرض أكثر من المؤمنين. ومن يعيش ويرغب في النظام الوضعي أكثر ممن يرغب في النظام الإلهي في معناه العام، الذي يشمل جميع الديانات التي أنزلها الله تعالى. فالملحدون كثر، والشيوعيون اليوم في تمدُّدٍ بات يخيف الرأسمالية، وقد يضربها في عمقها، وما هذا الذي يجري في اليونان إلا مؤشر خطر على الزحف الشيوعي. فما حصل بالأمس ليس عطفاً على اليونان بقدر ما هو الخوف والحذر من التداعيات المتوقعة فيما بعد اليونان، فلو لم يجمع الاتحاد الأوربي على انتشال اليونان مما هي فيه لسقطت دول أخرى في أحضان الفكر الشيوعي، ومنها أسبانيا والبرتغال وحتى فرنسا، التي باتت من أقرب الدول الأوربية وأكثرها تأثراً بهذا الفكر والمسلك.
فلا يمكن أن نقلل من أهمية الخبر في إيصال الرسالة، بل علينا أن نكون مستعدين لصياغة الأخبار إذا ما أردنا أن نسوّقها ونروج لها كي تخدم القضية وتصل بنا في نهاية المطاف إلى الهدف المنشود.
كما أننا اليوم نعيش في عالم هو عبارة عن قرية واحدة، وإن كانت كبيرة بمساحة الأرض كلها، وذلك بفضل ما وصل إليه العلم من تقنيات حديثة، فبمقدورك اليوم أن تتحدث مع من شئت في العالم، متى شئت وكيف شئت، بالصوت والصورة، بوسائل سهلة المنال لا تكلفك أكثر من لمسة بعض الأزرار.
التطور التقني ومتطلبات المرحلة:
فنحن أبناء قرية واحدة، لذا لا يصح من البعض أن يقول: لماذا لا تُطرح قضايانا في المكان الفلاني أو الحوزة الفلانية أو المعهد الفلاني أو المجلس الفلاني؟ فالعالم اليوم بات مطّلعاً على ما يجري بين المرء وزوجه، ونحن لا زلنا متخلفين نظن أن لنا الولاية والسيطرة على عقول البشر أن لا يفكروا، وإذا فكروا لا يعلنون، وإن أعلنوا أُوقدت نار الحرب ودُقت طبولها هنا وهناك.
فواحدة من أهم العقبات التي كانت تعترض مسيرة الأنبياء والمصلحين في التاريخ هم الهمج الرعاع المسيسون من أرباب المصالح الشخصية. لذا علينا أن يكون حذرين يقظين متنبهين وعلى أهبة الاستعداد لردة الفعل.
أين نقف اليوم من الواقع من حولنا كجماعة لا تريد أن تفصل نفسها عما يحيط بها؟ وما الذي نريد أن نقوم به؟ وإذا ما أردنا ذلك فهل أعددنا له عدته؟ أم أننا نأبى إلا أن نعيش على البركة وفتات موائد الآخرين، ونستطعم زادنا الفكري من هنا أو هناك؟
الكثير من الناس يجهد نفسه في الزاد المادي الذي لا يقدم ولا يؤخر، فالبعض يقضي أشهراً في سجن ولا يدخل في جوفه شيء من المأكولات، إنما يكتفي بالمشروبات، عندما يضرب عن الطعام.
إذن للإنسان القدرة على أن يتخطى الكثير من الحواجز والظروف، لكن الجانب الفكري هو الأهم، فلو لم يكن ذلك المضرب عن الطعام، الصابر على الجوع والعطش، يحمل فكراً وقضية لما صبر هكذا.
إذن علينا أن نتبصر بالفكر الذي نلتقطه من هنا أو هناك، أو نستقبله وهو يطرق أبوابنا، فالأمة لم تعدم المفكرين فيها، وأصحاب المسؤولية فيها، ورجال العلم والمعارف، وعلينا أن ننفتح عليهم، وكفانا تخلفاً ونوماً واستسلاماً ومهانةً وذلاً.
فهل نحن اليوم في مرحلة تمنحنا القدرة في وضع الفارق بين نقل الخبر وصناعته؟ أنا لا أعنقد ذلك.
يقال عنا إننا (دول نامية) ولديّ الكثير من التحفظ على هذا الوصف، صحيح أن النماء حصل في مأكولنا، وبتنا نأكل أفضل مما كان يأكل الآباء والأجداد، وأعني بذلك الأمة الإسلامية كلها، إلا ما استُثني منها. وبتنا نشرب الماء النقي على خلاف ما كان عليه أسلافنا، وهكذا في لباسنا، إذ لم يحظ بمثله حتى ذلك الذي خاطب السحابة قائلاً: أمطري حيث شئتِ، فخراجك يأتيني، وصرنا نلبس من الحلي والحلل ما لم يحظَ به الأكاسرة والقياصرة فيمن مضى، ولكن هل نعتني بالجانب الفكري في صفائه ونقائه من خلال منابعه الثرة الأصيلة الصافية كالزلال التي صدرت من محمد وآل محمد (ع)؟
منبع الفكر الأصيل:
يقول أحدهم باستياء، وقد ذكرتُ له رواية عنهم (ع): دعنا من مراحل التخلف! وهكذا بات حديث أهل البيت (ع) تخلفاً في الذهنيات السقيمة، والنفوس المريضة، وما هي إلا حيلة عاجز أو جاهل أو متحامل أو مبغض، فكلامهم فوق كلام المخلوقين، ودون كلام الخالق، والإشكالية فينا نحن، الذين لا نريد أن نتعامل مع سند الحديث كما تقتضيه القواعد التي أسسها علماؤنا. والإشكالية الثانية أننا لم نبنِ ذهنيتنا بناءً واعياً منفتحاً مدركاً، فقد باتت قواعد الدراية التي أصّل لها علماؤنا في الماضي فيما يتوافق وظرفهم الزماني والمكاني والسياسي والأخلاقي والاقتصادي والسلوكي والأمني، كأنها نصوص منزلة من الله تعالى، فمجرد أن تتفوه بكلمة لم تكن مألوفة لدى المتقدمين من علمائنا، تقوم القائمة وتثور الثائرة، فكم من غثٍّ في موروثنا ينبغي أن نقترب منه! فموروثنا صافٍ، ولكن تسللت إليه الأيادي، وعبثت في بعض أوراقه، لذا جاء اللعن على ألسنة بعض أئمتنا (ع) لمن وضع الأحاديث المكذوبة، فقد ورد عنهم (ع) مثلاً: لعن الله المغيرة بن سعيد، إنه كان يكذب على أبي...»([6]). وغيرها العديد من الروايات المشابهة. ومع شديد الأسف أن تلك الروايات المكذوبة ذات صلة بقضايانا بعمق، مما يكشف أن الخلافة الأموية والعباسية كانت تريد أن تثير وتغرس القواعد التي من خلالها يمكن حرف الرأي العام في نهاية المطاف.
تقول الزهراء (ع): «أما لعمر الله لقد لقحت، فانظروها تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافاً ممقراً، هنالك خسر المبطلون، وعرف التالون غبَّ ما أسس الأولون»([7]).
المراكز العالمية لصناعة الخبر:
في العالم ما يربو على ثلاثمئة مركز لصناعة الخبر، وهناك فرق بين صناعة الخبر ونقله، فنحن في العالم الشرقي نبث الخبر وننقله، أما في العالم الغربي فيصنعون الخبر، وكم هي المسافة بين صناعته وبثه! بمعنى أنك أيها الشرقي لا تتجاوز مهمتك مهمة ساعي البريد، وما أنت إلا (خُويدم) صغير.
ومن هذه الثلاثمئة مركز في العالم، مئة وأربعون مركزاً في أمريكا وحدها، وتسعون مركزاً لحلف الأطلسي، والباقي مفرقة بين باقي الدول العظمى كالصين وأمثالها. أما الشرق، فمع ثرائه وأهميته وموقعه الستراتيجي ليس فيه سوى ستة مراكز لصنع الخبر، تدار بخبراء من خارج الشرق الأوسط. فليس لنا في الحقيقة سوى مركز واحد لصناعة الخبر.
كنا قديماً سادة الأرض لأننا نحمل قضية، ولنا هوية، ونمتلك الآلة التي من خلالها نستطيع أن نسافر بأفكارنا وتوجهاتنا ورغباتنا، فأصبحنا اليوم أمةً منكوبة، يتصدق عليها من كان خادماً لها بالأمس، تراوح مكانها في أحسن التقادير، إن لم نكن من المنحدرين إلى ما هو الأسوأ.
أيها الأحبة: إن العالم اليوم يدار من خلال عناصر ثلاثة:
1 ـ المال. 2 ـ الإعلام. 3 ـ الاستخبارات.
ويمزج بين هذه العناصر الثلاثة ساسةٌ بنوا أنفسهم وفق (البراغمانية) فالعالم اليوم يدار كخلية واحدة، ونحن إلى اليوم لم نرضَ لأنفسنا أن نقف أمام هذه المفردة.
فالعودة إلى موروث أهل البيت (ع) هو المنجاة، والتقلب في أحضان فكرهم هو سبيل الخلاص، والاقتراب من مساحة المهدي (عج) هو الانتصار الأكبر، وقليل هم أولئك الذين تهجَّوا المفردات وأصبحوا يفرضون وجودهم في كيفٍ محدد، لكنها خطوة في الطريق الطويل، وشمعةٌ في نفقٍ مظلم، ولكن بارك الله لهم بما حققوه، وجعله الله في ضمن المفردات التي توطِّئ للمهدي (عج) سلطانه.
ها هو رمضان يودعنا، ونحن نودعه، فهل نحن على موعد معه، أو هو على موعد معنا؟ وهل أننا نسير على الأرض فنستقبله، أم نندب حالنا تحت الأرض؟.
نسأله تعالى أن يمدَّ في أعماركم، وأن يحفظ الأمة الإسلامية في كل مكان، لا سيما علماءها البررة المخلصين الواعين الناهضين بمسؤولياتهم.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا البلد آمناً، وأن يحرس أهله، وأن يردّ غائلة السوء في نحور أهل السوء، هؤلاء المجرمين الذين باتوا لا يميزون بين ليل أو نهار، ولا بين حقٍّ أو باطل، ولا بين نور أو ظلمة، ولا بين مصلحة أو مفسدة. وساعد الله القوى الأمنية في الضرب على رؤوسهم، وقطع أيديهم، وتمزيق الشمل الذي يحاولون لملمته. والحمد لله أن مجتمعنا ووطننا على أعلى درجات الوعي والإحاطة بالكثير من الأمور، ووالله لو أن هؤلاء قتلونا لتحرك الحجر من تحتنا ليقول: هؤلاء الذين قتلتم. فنحن أبناء مدرسة لو صُبت على رأسها جهنم لبقيت واقفة، ولو كان بمقدورهم خلط الأوراق وطمس المعالم وتشتيت الشمل وتفريق الصفوف لتأتّى لهم ذلك من قرون.
ونحن أبناء هذا البلد الطيب، بجميع مكوناته، سوف نحافظ على طيبتنا ومحبتنا، ورغبتنا في السلم الأهلي، وعلى إيماننا الذي لا نفرط به، ونفديه بكل غالٍ ونفيس، ولا أغلى من الأرواح، وهي ترخص في أركانٍ ثلاثة: المعتقد والكرامة والوطن.
رحم الله الشهداء الأبرار، ومنَّ على الجرحى بالشفاء، وأعاد الله علينا وعليكم الشهر الفضيل، وبارك للمسلمين في عيدهم، وأعاده علينا وعليكم، والجميع في أحسن حال.
والحمد لله رب العالمين.