نص خطبة: البعد الآخر في حياة المعصومين (ع)

نص خطبة: البعد الآخر في حياة المعصومين (ع)

عدد الزوار: 563

2013-05-16

حركة الأئمة (ع) في قراءتها الصحيحة:

في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (ع): «من طلبَ العلمَ ليُباهي به العلماء، أو يُماري به السُّفهاء، أو يَصرف به وجوه الناس إليه، فَلْيَتبوَّأ مقعده من النار. إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها»([2]).

حياة الأئمة (ع) حياة متنوعة وأدوارها مختلفة، فالدور الذي ربما يطفو على السطح مقرون بزمانٍ وآليات، فلا يمكن أن نرفع أيدينا عما للزمن من أثر في بروز ذلك البعد وشخوصه، كما أن للآليات والأجندة والرغبات عند الأتباع أيضاً ما لها من الأثر في بروز ذلك الجانب.

فلا شك أن لمن يطلب السلامة والدعة دوراً يتماشى معه، كما أن لمن يحمل نزعة ثورية ما يتماشى معه، ولكن على هؤلاء وهؤلاء أن يعلموا أنْ ليس هم وحدهم في السفينة، إنما معهم خلق كثير، ربما شاطروهم الفكرة واندفعوا معها، وربما توقفوا فيها وتأملوا. وليس من حق هؤلاء أن يسقطوا أولئك، كما ليس من حق أولئك أن يُسقطوا هؤلاء، إنما على الجميع أن يعيش عقلاً منفتحاً على الجميع كي يستوعب الأحداث ويحدد الأبعاد.

وإن كنا ندعي أننا نسير على منهج أهل البيت (ع) فعلينا أن نتعاطى الأدوار التي قاموا بها وفق العوامل التي أثرت فيها حدوثاً واستمراراً.

الإمام الباقر (ع) نموذجاً:  

فالإمام الباقر (ع) شمس مضيئة في سماء الإمامة، لكنه لا يزال إلى يومنا هذا مغيَّباً عن واقعنا كأتباع نعتقد بإمامته، ولا ندري ما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراء هذه الحقيقة، فالكتابات عنه في منتهى الندرة، والحديث عنه خجول، بل حتى تعاطي اسمه في مسمياتنا، وهو ما يربطنا بالرمز، بات يُستعاض عنه بأسماء لا تساوي شَروى نقير.

فللإمام الباقر (ع) عطاء علمي وثقافي كبير، بل هو الذي أسس القواعد الأصيلة لمدرسة آل محمد (ع) فالبعد الفكري والنتاج العلمي أقرّ به وبعلو مساحته أتباع المدارس الأخرى، ولولا خشية أن أسترجع ما أقضّ مضاجع جماعةٍ عندما ذكرت بعض الأسماء لذوات من الطرف الآخر، لاستعرضت قائمة طويلة لا تقل عما تقدم ذكره في يوم من الأيام. وربما يسأل البعض: لماذا؟ وما الذي؟

نحن والتراث، قراءة موضوعية:

أيها الأحبة: إننا على مفترق أكثر من طريق، إما أن نستسلم لفكر موروث معتق فيه الكثير من الكدورات والشوائب، مع أنه لا إشكال في أن أصل المعتقد أنه ما أراده النبي محمد (ص) لكن جور الجائرين، وعبث العابثين، وتطفل المتطفلين أخذ هذا المعتقد إلى مجموعة من المواقع التي لا ينبغي أن نجرجره إليها، فمعتقدنا بمحمد وآل محمد (ع) هو ذلك المعتقد الذي جاءت رسالة السماء من أجله، وضحى النبي والآل (ص) من أجله، وبذل العلماء الجهد الكبير في سبيل الحفاظ عليه، ومن غير الصحيح أن نحافظ على موروث كان يتماشى مع مرحلة مضت وانقضت، فإنّ الآتي من الأيام ما عاد يشفع ويقبل أن نتعاطى الأمور كما كنا.

فبالأمس كان من الممكن أن يتعاطى أحدنا لوناً من ألوان الشعيرة لا تعدو حدود غرفة مغلقة، ثم ينتهي كل شيء، أما اليوم فحتى لو كنتَ في غرفة مغلقة، وحتى لو كانت الأضواء خافتة أو مطفأة، فبمقدور من يكون في أوساط الحاضرين أن ينقل الحدث بالصوت والصورة.

فكثير من الممارسات ينبغي أن نقرأها قراءة صحيحة، فإن كان لها ما يساعدها، وكانت تقدِّم لنا أمراً إضافياً، فنورٌ على نور، وإن لم تكن كذلك، فما المحذور أن تُنبذَ وترفض وتحذف، وإن كانت هناك مجموعة من الضرائب الآنية التي قد تفرض واقعها على الإنسان؟.

فالإمام علي (ع) وهو قطب الرحى في هذه المسيرة، يقول: «أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كِظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»([3]). فينبغي على من لا يسمح لنفسه أن ينفتح على المشهد من حوله أن يقرأ مثل هذا النص ويتعاطاه كما ينبغي.

الإمام الباقر (ع) وآثار واقعة الحرة:

لقد تحرك الإمام الباقر (ع) من أجل الأمة، وأن يثبت تلك المبادئ التي جاء بها جده الأكرم محمد (ص). وقد دخل من بوابتين: الأولى بوابة المجتمع، والثانية بوابة السياسة. أما بوابة المجتمع فلا شك أن ما خلفته واقعة الحرة من آثار في مجتمع المدينة كان باهض التكاليف، بل إن ما نشاهده اليوم في بقاع متعددة من المعمورة ما هو إلا صورة مصغرة عن المأساة التي حلت بالمدينة المنورة، لأن الأحداث إذا وقعت هنا أو هناك، قد تتقارب من حيث الكيف، لكن للأماكن ميزاتها ومقامها، فقد أقسم الله تعالى ببعض البلدان، قال تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾([4])، فلولا أن لمكة مقاماً وامتيازاً على سائر البقاع، لما أقسم الله تعالى بها.

ثم إن المكان بالمكين، ولا إشكال أن النبي الأعظم (ص) أكمل مخلوق على وجه الأرض، فالبقعة التي احتضنت جسده الطاهر، وقبل ذلك احتضنت رسالته بصدر رحب، على خلاف غيرها، لا بد أن تحظى بخصوصياتها.

فلما أوقع الأمويون تلك الوقعة بالمدينة المنورة، فلا شك أنهم كانوا يدركون ما يترتب على ذلك، لأن مدينة الرسول الأعظم (ع) متى ما استبيحت وهتكت حرمتها، فلا حرمة لمدينة غيرها بعدُ، ومتى ما استؤصل أصحاب النبي (ص) وقتل أتباعه من المهاجرين والأنصار، وفي مقدمة ذلك ما جرى على أهل بيت النبوة، فذلك يعني ـ  فيما يعني ـ أن لا قيمة ولا حرمة لأحد بعد ذلك، لأننا لو فتشنا عن نماذج أشرف ممن عاشوا المرحلة الأولى من أهل البيت (ع) والصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، وتابعيهم أيضاً، منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، لما عثرنا، لأن أولئك هم النخبة الذين صُنعوا على يد الرسول الأعظم محمد (ص) سواء بصورة مباشرة أم بالواسطة، إلا أن ذلك كله لم يشفع لهم، ولم يدفع عنهم غائلة العدوان، فكل ما يجري اليوم إنما هو كاشف عن واقع وحدث جرى في يوم من الأيام.

فالإمام الباقر (ع) عاش في مجتمع يئنُّ من سياط تلك النكبة، ويعيش الكثير من الآلام.

ومعركة الحرة تعني فاصلة زمنية في منتهى الخطورة، وآثارها على المجتمع والفكر الإسلامي لا تقل خطراً عن الآثار التي ترتبت على كربلاء. أما المأساة، بما هي مأساة، فلا إشكال أن كربلاء متقدمة عليها، ولا شك أن مقتل الإمام الحسين (ع) سبط الرسول الأعظم محمد (ص) لا يوازيه شيء، ولكن في نهاية المطاف، كان الإمام زين العابدين موجوداً ليخلف أياه، أما أن تأتي السلطة على ألف من خلّص مدرسة الرسول الأعظم (ص) ومن سار بنهجه، وتستأصلهم بتلك الطريقة الفجة الهمجية التي لم تقم بها جماعة من جماعات الإرهاب حتى في عصرنا الحاضر، فهذا بعد آخر في تلك المصيبة، يجعلها تتميز عن غيرها. ونحن اليوم نسمع ونرى ونقرأ الكثير مما يجري هنا وهناك، لكن تلك الممارسات كلها عبارة عن استجرار الماضي، فكما أنك تستحضر من الماضي التدين والإيمان والارتباط بالله تعالى والقيم، يستحضر أولئك حدثاً ما جرى في أحد الأيام، كواقعة الحرة وأمثالها.

من هنا حاول الإمام الباقر (ع) أن يضمّد الجراح، ويلم الشمل، ويرتّب الأُسَر بأحسن ما كان، وهو ما قام به الإمام زين العابدين (ع) أيضاً،  لأن أحداث الحرة كانت في زمنه.

كما أن الإمام الباقر (ع) في تعامله مع من خرج من طاحونة الحرة لم يكتف بانتشالهم من واقع مأساوي في جانبه النفسي والاقتصادي، إنما تعدى ذلك ليستخرج من المجتمع منائر نور تشع على الإنسانية، وهذا ما حصل، فمن وقف إلى جانب الإمام الباقر (ع) هم بقايا تلك الطاحونة، الذين استطاعوا أن يتخلصوا من غائلة السيف فيها، شكلوا تلك المدرسة مع الإمام الباقر (ع) وساروا بفكره، ثم أخذت مدرسة أهل البيت (ع) بُعدها في الآفاق واستعادت قوتها من جديد.

الموضوعية في التعاطي مع التراث:  

أما الجانب السياسي، فهو بُعد مهم في حياة الإمام الباقر (ع) وقد أولاه اهتماماً كبيراً، فكلنا يعلم أنه (ع) وفد على مركز الخلافة في الشام، ولم تحظَ حيثيات ذلك الحضور إلى يومنا هذا بقراءة تاريخية واضحة بيّنة، وليس بين أيدينا سوى الجانب المأساوي منه، وهو (الإشخاص) بمعنى الإحضار القسري.

وما لم نتخلص في قراءتنا لتاريخنا من ضغط الظلامة علينا في استنطاق كل مفردة، فإننا لا نستطيع أن نقرأه القراءة الصحيحة، أو نهتدي الطريق الموصل نحو الهدف. فعندما يقع بين أيدينا نص أو مفردة فيفترض أن نتعاطاها كما هي، وبما لها وعليها، ونجعل من الظلامة واحداً من العوامل فيها، لا أن نلغي العوامل كلها لنتمسك بهذا العامل، لأننا إذا ما تمسكنا بهذه المقدمات فسوف لن نصل إلى النتيجة المرجوة.

فلو وقفنا أمام مفردة مضافة لذات بعينها، ثم حكمنا على تلك المفردة من حيث كونها مضافة لتلك الذات، فمعنى ذلك أننا لم نتعاط المفردة، إنما تعاطينا الذات التي أضيفت إليها المفردة، وهو ما نسميه اليوم بشخصنة القضايا، وهي مأساة، تعني ـ مما تعني ـ إغلاق الفكر وتعطيل العقل، والانقياد إلى المجهول، وإعطاء زمام الأمور من لا يستحق أن لا يمسك بزمامها.

الإمام الباقر (ع) في الشام:

لقد ذهب الإمام الباقر (ع) إلى الشام، مركز الخلافة المروانية الأموية وقتئذٍ، وللأسف الشديد لم تصل إلينا أخبار تلك الزيارة مغطاةً من جميع جوانبها، والسر في ذلك أن السلطة تحكي لوناً مخالفاً لما عليه الأئمة (ع) والموالون لهم.

فالإمام (ع) قدم في زيارته ثراءً علمياً، وأثرى الواقع الإسلامي حتى في دار الخلافة، ولو تعمقنا كثيراً لرأينا أنه بعد رجوعه إلى المدينة، بدأت بوادر الضعف واضحة وبينة وجلية على مركز الخلافة في الشام.

ومن حقنا أن نسأل: ما الذي حصل؟ وهل أحدث الإمام الباقر (ع) أمراً هناك؟ وما هو؟ ومن اطلع على تلك القضية؟ وهل كانت سلطة الأمويين المروانية سلبية في التعاطي مع ما قام به الإمام الباقر (ع) أو أنها اتخذت قرارات صعبة حتى في حق الإمام نفسه؟

الجواب على ذلك: أن التساؤل الأخير هو الصحيح، فقد رجع الإمام الباقر (ع) من سفره مسموماً، وما كاد يصل المدينة حتى استشهد.

فعلينا إذن أن نفتح الأبواب المقفلة على عقولنا في التعاطي مع هذا الإمام العظيم. يقول الإمام الخميني (قدس سره): يكفينا فخراً أن منا محمد بن علي (ع).

وقد يحلو للبعض أن يختزل سيرة الأئمة (ع) في الجانب المأساوي، ابتداء من مأساة الزهراء (ع) التي لا غبار عليها، ثم الإمام علي، ثم الإمام الحسن ثم الإمام الحسين، عليهم السلام، وهكذا. وقد أراد هؤلاء أن يُبرزوا المأساة في ثوب التمظهر الخارجي، وهذا التمظهر بقدر ما يشكل إزعاجاً، فإنه ما لم يكن مقروءاً قراءة صحيحة وموجهاً نحو الهدف، لن يعطي النتيجة المرجوة.

فالبعض منا يكتفي بإبراز المأساة بلبس السواد، ويعتقد أن مأساة أهل البيت (ع) يمكن أن تختزل بقطعة قماش سوداء، تُعلَّق أو تُلبس أو تكسى بها المجالس، وليس بعد ذلك شيء.

وهنالك جماعة أخرى ترغب بالتباكي على الحدث، ولكن لا تكاد تجد أثراً للحدث في نفوسها من حيث السلوك العام أو السلوك الخاص، أو في ارتباطه مع أهل البيت (ع) ومنهم صاحب المناسبة التي دعته للبكاء.

وكلامنا هذا خارج حدود دائرة الثواب، فهذا شأن آخر، إنما نحن في حدود استنطاق حدث مأساوي، فهل يكتفي مني الحسين (ع) الذي ضحى بكل غال ونفيس، ببضع قطرات من الدمع قد لا تكون فيها جذوة صحيحة محركة نحو القراءة الصحيحة لحركته (ع)؟

وهنالكم جماعة في تمظهرهم بالمأساة يلغون جوانب التميُّز والإنجازات الكبيرة التي كانت تجري على يد المعصومين (ع).

ففي شهر محرم مثلاً، نبكي ونلطم ونحرق الخيام ونفعل ما نفعل، وربما يمارس هذه الأعمال ملايين البشر، إلا أننا عندما نستوقف هذا الموكب أو ذاك، ونسأله عما يستوحي من الذكرى، وهل أنه يستظهر نصاً من النصوص التي تلاها الإمام الحسين (ع) في كربلاء ليوقظ الأمة؟ وهل يسترجع تاريخاً قبل سنين يسيرة ليرى ما كان عليه بالأمس، وما هو عليه اليوم، وما يرغب أن يصل إليه في الغد، ليكون ممن استجاب لإحياء الشعيرة في ذكرى استشهاد سبط النبي الأعظم (ص)؟ فهل نجد الجواب الشافي؟

إن إنجازات الإمام الحسين (ع) الفكرية والنفسية والتربوية والاجتماعية والسياسية وغيرها مما لا يكاد يقف عند حد، يحاول البعض أن يختزلها في حدود لقمة بركة ودمعة وقطعة قماش أسود، فهل تحرك الإمام الحسين (ع) من أجل هذا؟ أم أنه أراد أن يصلح وضعاً سيئاً في الأمة، وهو القائل: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي».

فهنالك إذن واقع سيّئ منهار متلاشٍ، يسير صوب العدم، اضطر ابن بنت رسول الله (ص) أن يضحي بمهجته الشريفة، وهي أقدس مهجة في تلك المرحلة.

وهكذا يريد البعض أن يغلف حياة الإمام الحسين (ع) أو الإمام الباقر (ع) أو غيرهما من الأئمة (ع)، بغلاف المأساة فقط، ثم يُسقط جميع الإنجازات.

الإمام الباقر (ع) رائد الحوزات والمدارس الدينية:

فالإمام الباقر (ع) وضع حجر أساس الحوزات العلمية والمدارس، وليس الحوزات العلمية فقط، وهذه واحدة من الأخطاء التي لا زلنا ندفع ضريبتها، وسوف ندفع الأكثر ما لم يحصل التغيير. ومما يهوّن الخطب، أن بعض المرجعيات الموجودة اليوم باتت تتحرك من مربع إلى مربع أوسع، في توسيع دائرة معطيات مسمى الحوزة العلمية من خلال الملحقات للحوزة، سواء على مستوى جامعات أم كليات أم معاهد ملحقة بالحوزة العلمية، ككلية أصول الفقه، والجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام الصادق (ع) وأمثالها. فمنطلق تلك المرافق العلمية هو الحضن الطبيعي لها وهو الحوزة العلمية التي وضع حجر الأساس لها الإمام الباقر (ع) ابن النبي محمد (ص).

لقد أسس الإمام الباقر (ع) مدرسة في المدينة المنورة بشكل مباشر، لوجوده هو في المدينة، ثم توسع في موقعه واندفع باتجاه الكوفة، التي نص الحديث الشريف على منزلتها، فعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «تربةٌ نحبُّها وتُحبُّنا»([5])، حيث أسس فيها الإمام الباقر (ع) حوزة كبرى بواسطة تلامذته وأركان مدرسته.

ثم اندفع إلى أفق أرحب وأبعد، فوضع حجر الأساس لحوزة قم المقدسة، فهي تفريع ومولود شرعي لحوزتين رئيسيتين، هما المدينة المنورة والكوفة، فمن هاتين المدينتين ولدت حوزة قم في تلك الحقبة التاريخية، وهي القرن الثاني.

فكرة المدارس السيارة:

أما (المدارس السيارة) فيعتبر الإمام الباقر (ع) أول من وضع حجر أساسها في الوسط الإسلامي قاطبة، فكان يجهز تلامذته ويزودهم بكل ما يمكن أن يؤمّن لهم إحداث مؤسسة علمية فكرية تنويرية إرشادية في هذه البلدة أو تلك، بحيث تعذر بعد ذلك على السلطات التي جاءت بعدئذٍ أن تستأصل مذهب أهل البيت (ع) مما يعبر عن الدقة في النظر، والتسديد الإلهي لأئمة أهل البيت (ع). وبظني أنه لولا الحركة التي أحدثها الإمام الباقر (ع) وهي لا تقل عما أحدثه الإمام الحسين (ع) من الإصلاح والتغيير، لكنا اليوم في وضع لا نحسد عليه. فلا بد إذن أن نقرأ الإمام الباقر (ع) قراءة صحيحة.

وعلى نهج تلك المدارس السيارة سار جماعة كثر، وأصّلوا على نهجها، وسافروا بها، ولعل أبرز شاهد على ذلك العلامة الحلي (رضوان الله تعالى عليه) الشيخ الجليل والقلعة السامقة في أوساط علماء الطائفة. فما توسعت دائرة التشيع في الآفاق إلا بناء على تلك البذرة التي بذرها الإمام الباقر (ع) ألا وهي المدارس السيارة، فلم يكن الفقيه يغادر الكوفة أو المدينة أو قم إلى صقع من الأصقاع، إلا ويحدث من حوله حراكاً علمياً وأدبياً وفكرياً وغير ذلك من الأمور، وهذا ما يصطلح عليه بالمدارس السيارة، التي بذل فيها الإمام الباقر (ع) جهداً كبيراً.

وقد منح الإمام الباقر (ع) أولوية للتفقه في الدين. يقول (ع): «الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»([6]). فإن اجتمع العلم والصبر والعقل، كان ذلك عين الكمال، وإن انفرطت واحدة من هذا العقد كان النقص.

النزعة الثورية في الميزان:

وهنالكم قراءة للمعصومين (ع) أنهم أصحاب نزعة ثورية، ولهذه القراءة أتباع، ولا إشكال أن لهذه القراءة وجودها الفعلي، لأن الواقع يؤيدها، ولا إشكال أيضاً أن الإمام الحسين (ع) وضع معالم هذه المدرسة في الحراك الثوري، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نقرأ الحراك والثورة إذا ما ادعينا الانتماء لمدرسة أهل البيت (ع) من خلال معطيات الحراك في تلك المدرسة، لا من خلال معطيات (الأنا) والقراءة الشخصية أو الحزبية أو التوجه المنظّمي، إنما علينا أن نرتمي في أحضان الأسس، وهي موجودة وثابتة ومستقرة لدى النبي محمد وآله (ص).

فالبعض يقرأ الثورة على أنها تعني الرفض المطلق بلا قيد ولا شرط، أي الثورة من أجل الثورة، والحراك من أجل الحراك، والتمرد من أجل التمرد، وهذه قراءة مستوردة الأسس، من حيث يشعر أصحابها أو لا يشعرون.

ففي أوربا بعدما انطوت صفحة القرون المظلمة، بدأ الحراك، وخُتم بالثورة الفرنسية، وكانت الفترة ما بين الحراك حتى قيام الثورة الفرنسية الكبرى تقرب من ثلاثة قرون، وكانت تلك القرون الثلاثة برمتها تمثل مستنقعاً دموياً لمجرد الثورة من أجل الثورة، وقد نزفت البشرية هناك دماً لثلاثة قرون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وكلّنا اليوم يسمع ويقرأ أن القانون الفرنسي الذي يفترض أن يكون قد كتب بأدق اللغات، ويفترض أن يكون قد كفل أغلب الحريات للبشرية، أصبح في صدارة القائمة للقوانين التي تصادر الحريات العامة والخاصة، والتدخل في شؤون الآخرين. فما أرادوا له أن يكون أنموذجاً للبشرية أصبح وبالاً عليها. ومنشأ ذلك الارتداد إلى ما تقدمه من حراك، وهو الثورة من أجل الثورة.

والثورة: من الثوران والحركة والهيجان، فإن لم تُعقل وتُقيَّد جرت الدواهي، في أي مكان كانت.

وهنالك ثورة من أجل الوصول للهدف، والهدف على قسمين: الهدف السامي الرفيع وهو العام فيما هو عام، والهدف الشخصي، ونعني به ما كان لفرد أو جماعة أو توجه أو تكتل. وأغلب الثورات التي اجتاحت هذا الكوكب كانت من النمط الثاني، لذلك ما إن تصل جماعة إلا وتكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾([7])، فما من تغيير إلا وتجد أتباعه يندبون حظهم على ما سلف، بأن الكرامات قد هدرت، وأن المكاسب قد صودرت، ثم تجد أن الصراع يحدث بين الأخ وأخيه، ويُصبح المتخندقون في خندق واحد يوجه كل منهم البندقية للآخر.

كما حدثت بعض الثورات من أجل التغيير المقنن، وهي تكاد تُحسب على أصابع اليد الواحدة في أفضل التقادير، وهي أيضاً لا تعني كمالاً، ولا ينبغي أن نقرأها بأنها تعني الكمال، لأنها تبقى ثورة الإنسان غير المعصوم، والقانون غير المعصوم، إنما كتبتها أيادي البشر، صحيح أنها بذلت جهوداً في أن يكون المنتج هو الأفضل، إلا أن ذلك لا يعني أن الدستور أو القانون ـ أياً كان على وجه الأرض ـ له درجة الانتساب المطلق لما نزل على قلب النبي محمد (ص) لأن القرآن المنزل على النبي (ص) ليكون القانون والدستور، تكفلت السماء بحفظه، وتعهدت أن يكون هو المضاف إليها، قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوْحَى﴾([8])، وقال عز من قائل: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ﴾([9]). أما الدساتير الأخرى، فإن أصحابها يبذلون جهوداً حثيثة لتتوافق مع الكتاب والسنة في أي بلد كان، سنياً أم شيعياً، لكن لا ينبغي أن نتعاطى ذلك الدستور أو القانون على أنه القول الفصل، وأن الإمام المهدي (عج) إذا خرج فسوف يجعله دستوراً لدولته، فعندما يؤذن للمهدي (عج) بالفرج لينتشل الأمة من واقع إلى واقع أفضل وأسعد وأكمل، فإنه يأتي بالقرآن غضاً طرياً بعد أن تلاعبت به أقلام المفسرين، وتجاذبته أفكار المصلحيين، فالقرآن حمّال ذو وجوه، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع). وكذلك السنة النبوية، لم تكن في منأىً عن التغيير والتحريف والوضع والدسّ والإسرائيليات، وهي من الكثرة بمكان.

وهناك قراءة أخرى غريبة، وهي أن الأئمة (ع) خلا الإمام علي والإمام الحسين (ع) كانوا يعيشون خنوعاً ـ والعياذ بالله ـ وهو ما نقرأه في أدبيات بعضهم، بل هناك من رمى الإمام الحسن (ع) بالجبن ـ والعياذ بالله ـ وهذه ليست أدبيات الطرف الآخر، إنما أدبيات من يُحسب علينا، ويحاول أن يضع له قدماً في أوساطنا. فلأنه لا يقرأ الحدث من خلال العوامل والظروف التي اكتنفته، انتهى لهذه القراءة السمجة الساذجة البسيطة الضحلة. فنحن نعتقد أن أدوار الأئمة (ع) وإن تعددت، إلا أنها تصب في مشرب واحد، ألا وهو مصلحة الإنسان عموماً، والارتقاء بقيمته العلمية والمعنوية وما أُوجد من أجله، وهو الاستخلاف من أجل عمارة الأرض.

لقد اقترب بعض الأئمة (ع) في بعض الأحيان من السلاطين، وقاموا بزيارات لهم، وعلينا أن نقرأ الظروف التي دفعت بهم أن يذهبوا إلى تلك الدوائر. وقد طرحت في حديثي هذا نموذجاً من ذلك، وهو الإمام الباقر (ع) والحركة التي أحدثها هناك، والسبب في ذلك أنه سافر على أنه حامل لعلوم آل بيت محمد (ص).

دخل أبو مسلم الخراساني على الإمام الصادق (ع) فقال: إني أظهرت الكلمة([10])، ودعوت الناس عن موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت([11])، فإن رغبتَ فلا مزيد عليك([12]). فأجابه الإمام (ع): ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني([13]).

وهذا أشبه بما كان من الإمام علي (ع) يوم جاءه أبو سفيان بعد السقيفة يقول له: يابن أبي طالب، ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلةً، وأذلها ذلة؟! يعني أبا بكر، والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً، فقال (ع): لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان([14]).

هؤلاء هم أئمتنا الذين يجب أن نستضيء بنورهم، ونهتدي بهديهم، ونسير على طريقهم.

ولا بد لي أن أنبه، أننا إذا ما أردنا أن نقرأ أمراً، فعلينا أن ننتبه جيداً، فإن كانت الفكرة مدوّنة في كتاب، فلا شك أن اسم المؤلف معروف ومحفوظ، ومن أراد أن يوجه نقداً فلا بد أن يكون للمؤلف نفسه، لأن ذلك المؤلف لم ينصّب وكيلاً للدفاع عنه. وإن كانت المقولة صادرة من شخصٍ ما، فعلينا أن نذهب لذلك الشخص لنستوضح منه، لا أن نحمّل المفردات أكثر مما تحتمل، ونتدخّل في النوايا، ونُسقط الذوات، كما يحصل اليوم مع الكثير من علمائنا ومفكرينا ووجهائنا وحتى سائر أبنائنا.

وبظني أنا ـ ولا زلت أعتقد ـ أن هناك يداً خفية تعبث في أوراقنا، وأحذّر من هذه الأيادي أن تبعثر الأوراق، لأنها لم تقف مع طرف لصالح طرف آخر، إنما تريد هلاك الجميع.

أسأل الله تعالى أن يفقنا وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.