نص خطبة: الإيمان أساس قوة الإنسان في الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
تقبل الله أعمالنا وأعمالكم، وعظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب سيدنا ومولانا الإمام علي (ع).
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ~ يُصْلِحْ لَکُمْ أَعْمَالَکُمْ وَيَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾([2]).
العقل بوابة الإيمان:
الإيمان هو المكسب الأول للإنسان في الحياة، وعنه تتشعب سائر الطرق، وهو القوة الدافعة للإنسان للتعلق بالله سبحانه وتعالى. إلا أنه لا يتأتى للإنسان إذا كان على قلبه أقفال، وعلى عقله مثل ذلك، فمتى ما تخلّص من ذلك دخل حظيرة الإيمان.
فالعقل هو الأساس في كل شيء، والمحرك لجميع الأجواء المعرفية وما ينحلّ عنها. فالعقل بوابة المعارف، ومن لا عقل له لا معرفة له. والعقل يختلف عن العلم، فقد يكون الإنسان عالماً في فنّ من فنون العلم التي فاقت اليوم العد والحصر، لكن الأهم أن يكون ثمة عقل حاضر يسوس حركة الإنسان في بحثه المعرفي من جهة، وما يرغب أن يحققه من مكاسب في الخارج من جهة أخرى.
فالعقل هو البوابة، فإن أغلقتها أسقطت جميع لمكاسب من حولك، المعنوية منها والمادية. فهو القوة المحركة للإدراك عند الإنسان، وتبدأ بأشدّ قوتها واستحكامها ثم يتعامل الإنسان مع هذا المكوّن وفق ثقافة الأسرة أحياناً، وثقافة المجتمع وإسقاطاته أحياناً أخرى، وأحياناً يدلف إلى ما هو أكثر من ذلك فيتأثر بالتوجهات المتعددة، وقد يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيكون في دائرة فكرٍ جمعي مسيَّس موجَّه. فتكون الفكرة بين يديه، إلا أن من الصعب جداً أن تقف على شخصية صاحب الفكرة. ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، بتنا نعيش هذا المشهد واضحاً وجلياً.
ومن النعم التي نكتسبها بالعقل، الإيمان بالدين، بمبادئه العامة وقيمه، فالعقل هو الذي يسوقنا بهذا الاتجاه، لأنه ما من أمر حسن إلا أرشد العقل باتجاهه ووجّه البوصلة نحوه بمنتهى الدقة والتحديد. ومتى ما تشخص أمرٌ بالخلاف من ذلك فإن العقل يدفع الإنسان أن يغلق البوابات ويضع حاجزاً أمام تلك البؤرة في أي مكان كانت، وبأي زمان ارتبطت.
فلو أنك قلّبت وريقات التاريخ، وقرأت حياة الإمام علي (ع) النورانية، لوجدت نفسك مندفعاً ومنجذباً، ومحلقاً ومنفتحاً، على العكس مما لو قلبت وريقات سيرة حياة أحد طواغيت الأرض الذين أحرقوا الأرض بالنار، وسقوها بالدماء، فإن النفس البشرية سوف تنفر من ذلك، وكذلك العقل، يغلق الأبواب أمامك إن كنت لا زلت تحتضن العقل في فطرة سليمة، أما إذا كانت الفطرة على خلاف ذلك، وكانت قد تلوثت ـ والعياذ بالله ـ ببعض المكتسبات فإن الأمر لن يساعد الإنسان على قوة الدفع لتغلق الأبواب أمامه.
والعقل هو أساس صلاح الإنسان ومحركه نحو الصلاح، والقرآن الكريم يرشدنا إلى هذه الحقيقة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِکَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي کُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾([3])، فما من إنسان قريب من الله، ممتثل لأوامره منتهٍ عن نواهيه إلا وحفته الملائكة، لا طالب العلم فقط كما في الروايات. فالملائكة تبشرهم بالهدف السامي الذي يسعى إليه وهو الجنة.
من هو المؤمن؟
ومن هنا يرد السؤال: من هم المؤمنون الذين عنتهم الآيات والروايات وجاءت فيهم الكثير من النصوص بأنهم صدقوا الله وعده؟
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُکِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَکَّلُونَ﴾([4]). فهؤلاء يشعرون بالوجل لمجرد ذكر الله من غيرهم، لا من قبلهم هم فقط، ونحن نعلم أنّ ما من حجر ولا مدر ولا بشر ولا شجر إلا وهو ناطق بذكر الله لو التفت الإنسان لذلك. فإذن أنت في دائرة ذكر الله في جميع آناتك وحالاتك.
فهؤلاء إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، ثم إذا سمعوا آياته تُتلى زادتهم إيماناً. فالإيمان قوة وليس مركباً من أجزاء. وبقدر ما نكتسب من المكاسب المعنوية تشتد تلك القوة في داخلنا وتولّد الجديد، ويزداد الإيمان قوةً واستقراراً وتتفتح لنا أبواب جديدة نسعى وراءها وعلى إثرها ونقف على حقيقتها ويستحكم الإيمان في داخل قلوبنا حتى لا نرى شيئاً إلا ونرى الله قبله وبعده ومعه وفيه كما ورد في الأثر.
والميزة الثالثة في هؤلاء أنهم على ربهم يتوكلون، والنموذج الواضح في هذا هو الإمام علي (ع) الذي كان النبي (ص) يرفع له في كل يوم علماً من نور وعلم ومعرفة، حتى بلغ به الحال أن يقول: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً»([5])، لأن اليقين المطلوب قد تربّع في قلب علي (ع) لذا كان مع الحق والحق معه يدور حيثما دار، كما ورد عن رسول الله (ص).
والسؤال هنا: هل يمكن لأحد أن يصل في مرحلة من مراحله إلى المساحات القريبة من هذا الدور وتلك المرتبة؟ الجواب: إنه أمر ممكن وفق معطيات القرآن الكريم والسنة المطهرة. وسَير العلماء في سبيل الوصول إلى هذه المقامات يثبت إمكانية الوصول والاقتراب من تلك المساحة الخاصة، غاية ما في الأمر أنه لا بد من لطف مساعد يذلل الصعاب، مع جهد اكتسابي يسعى من خلاله الإنسان للوصول، وأكثر الناس إنما يخفقون بسبب هذين العاملين، أما الأنبياء والرسل والأولياء فيمدُّهم اللطف الإلهي، وإن كانوا بشراً، ولكنهم يأخذون بأسباب التوفيق بقوة.
ضرورة الإيمان بالغيب:
ومن مفردات الإيمان المهمة: الإيمان بالغيب، فهنالك أمور دعا النبي (ص) للإيمان بها، وهي واضحة بينة والإيمان بها سهل يسير، وهنالك أمور أخرى لم تكن من الوضوح بمستوى القسم الأول، فهذه يجب الإيمان بها أيضاً.
فبعد أربعة عشر قرناً من الزمن من البعثة النبوية الشريفة، وما حصل فيها من تضحيات كبيرة أصبح من السهل علينا الإيمان بذلك، ولكن هل هذا الإيمان مستقر أو مستودع؟ فأنا مؤمن وأنت مؤمن، ولكن من أي القسمين إيماننا؟ هل هو من نوع الاستقرار والاستحكام بحيث لا يؤثر فيه معول هادم ممن يقومون بدور الهدم؟ أو أنه مستودع يمكن سرقته منك من أقرب الناس وأجهلهم كما نرى اليوم؟ فالانتقال اليوم والمغادرة من مربع إلى مربع، أو من دين إلى دين، أو من مذهب إلى مذهب، أو من مسار إلى مسار، أو من توجه إلى توجه، ليس أشبه بحركة السلحفاة، إنما هو أقرب إلى قفزات الأرنب. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الإيمان مستودع وليس مستقراً. فلو اجتمع الإنس والجن على إقناع إنسان مستقر الإيمان، فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. أما إذا كان الإيمان مستودعاً، فيستطيع هؤلاء بتشكيك واحد أن يزحزحوه ذات اليمين أو ذات الشمال.
وهنالك الإيمان بالمغيَّبات والحوادث المستقبلية، وهذا معروف في آيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ~ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾([6])، وكذلك ما وُعد به النبي (ص) من الانتصار على أعدائه في بعض معاركه، وأن الله سيكفيه أولئك الأعداء.
وكذلك في الروايات والأحاديث عن النبي (ص) والأئمة الأطهار (ع)، حيث تحدثوا عن أمور تحققت فيما بعد.
يقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾([7]). فمطلب الإيمان بالغيب مطلب رئيس وأساس لا بد منه.
المعجزة الحقيقية والمصطنعة:
ومن هنا أعطف على ما تحدثت عنه في الأسبوع الماضي، فقد قال بعضهم: إنك تحدثت عن المعجزة في القرآن الكريم، ولم تُسقطها على مصاديق بعينها، فكان الأمر ضبابياً لنا نوعاً ما، إذ لم تعطنا خلاصة البحث كما اعتدنا أن نسمعه منك.
أقول: إن المعجز نوعٌ من الغيب، فالقوة المحدِثة والمحركة للفعل الخارق للعادة خارجاً هي غيب. فقد جرى الماء بين أنامل النبي (ص) كما أجمع عليه الفريقان، وهو أمر مسلَّم، فما الذي أجراه بين يديه؟ هل هي الأمور الطبيعية البشرية أم أمور أخرى خارجة عن قدرة البشر، أو ما نسميه ما وراء الطبيعة؟ هذا يحتاج إلى إيمان مستقر.
والمعجزة مرتبطة بالله تعالى، لأن النواميس الطبيعية تجري وفق قواعد معينة، وما يتخطى هذا الأمر يحتاج إلى من يوجِد المقدِّمة المؤثرة في حدوث الأمر الخارق للعادة، وليس هذا سوى الله سبحانه وتعالى. فالأنبياء والرسل واسطة في إجراء المعجز، والله تعالى يفيض هذه الكرامة أو المعجزة على أيديهم، ليجسدوها في الخارج بإذن الله، فما من نبي طرق باب معجزة إلا ربطها بالله سبحانه وتعالى، فمصدر المعجزة هو الله تعالى وليس غيره.
وهؤلاء الأنبياء والأولياء هم منّا، وليسوا من الملائكة، وإن كانوا أفضل من الملائكة في المنزلة والمرتبة، ولكنهم بشر مثلنا. وليسوا من الجن، لأنهم أفضل من الجن. كما أنهم وإن من البشر، ولكن ليسوا كسائر البشر ،لأن الاصطفاء لهم متقدم على وجودهم الخارجي، وهذه هي المغايرة بينهم وبين سائر البشر، وما تجسد في محمد وآل محمد يتضح من هذه الزاوية.
إن حصول الكثير من القضايا الإعجازية والكرامات في زمن أهلها مما لا ينبغي التوقف في حصوله على أيديهم، والآيات والروايات شاهدة عليها، والوقائع الخارجية أكثر من أن تحتاج لدليل، لكن ذلك أوجد بيئة منشطرة على نفسها إلى شطرين: شطرٌ من تلك البيئة يعيش حالة المعجزة والكرامة للاعتزاز وتقوية الإيمان وشكر المنعم واستجلاب البركات مما تستتبعه من ذكر الله والصلوات على النبي (ص) وآله (ع).
أما الشطر الآخر فلتوهُّمٍ أو أمرٍ آخر، تصور أن المعجزة كما تتحقق على أيديهم فيمكن أن تتحقق على يد سائر البشر، فراح يختلق الكثير من هذه القضايا، ويلبسها لباس المعجزة أو الكرامة.
وفي الآونة الأخيرة كثرت هذه الدعاوى في حدوث المعاجز والكرامات من أناس لا نصيب لهم في ذلك لا من قريب ولا من بعيد، إلا الاحتيال على الضعفاء من الناس، إما لاستلاب الأموال، أو لتحقيق جاهٍ أو منزلة هنا أو هناك.
وهذه الظاهرة يساعد عليها العقل المخدَّر أو الجاهل أو المستلَب، وذلك بالمنامات أو دعوى رؤية الأولياء الصالحين. فاليوم حتى (السالب بانتفاء الموضوع) بات يدّعي أن له مقامات ومنامات وكرامات، فأصبحت حتى قدمُه مقدسة، لأنه مثلاً يدعي رؤية الزهراء (ع) وأنها وطأت مُصلاه، ثم وضع قدمه هو على موضع قدم الزهراء (ع) فأصبحت قدمه مقدسة. فالأمر وصل بالبعض إلى هذه الحال بل أشدّ.
وقد حذرنا كثيراً من هذه الظواهر إلى أن وصلنا إلى هذا الوضع البائس، بحيث أصبحت بعض المقاطع تُستقطع وتُنشر لتكون مورد سخرية وتندُّر بنا وبأعلامنا. فهل حقاً أننا لا نمتلك الحصانة التي تحمينا في معتقدنا وتوجهنا وفكرنا ورؤانا؟
ثم إن هذه الأمور ليست للاستهلاك والابتذال، فأصحاب المقامات من علمائنا المخلصين، ممن بلغوا ما بلغوا كانوا يتكتّمون على ما حصل لهم من الكرامة أشد التكتم، حتى يموت بعضهم دون أن يصرح بما حصل من ذلك. أما أصحاب الكرامات المفتعلة المصطنعة فتراهم يذيعونها ويبثونها في كل وادٍ. وقد حذرنا من ذلك كثيراً.
ومن هنا أهمس في أذن من لديه القدرة على إيقاف هذه الحالة من الانكسار والهزيمة العقلية والتخلف الذهني والضحك على ذقون الناس وابتزازهم، أن لا يقف مكتوف اليدين متفرجاً على ذلك، وأن يعمل ما بوسعه على إصلاح ما يستطيع إصلاحه.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.