نص خطبة: الإمام علي وليد الكعبة أمير الغدير شهيد المحراب
عدد الزوار: 2645
2015-10-09
18/ 12 / 1436 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
وليد الكعبة:
عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «كنت في غار حراء أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة»([2]). وعن الإمام الصادق (ع): «كان علي (ع) يرى مع رسول الله قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت»([3]).
علي (ع) مدينة زاخرة، أنّى طرقت باباً من أبوابها بلغت إليها. فيها الكثير من المعاني المستعصية على الفهم، ناهيك عن أن ينالها بشر، إلا سيد البشر محمد (ص) يأخذك إلى جوانب العظمة منذ اللحظات الأولى التي أبصر الوجود فيها.
ولد في الكعبة المشرفة على الرخامة الحمراء، حيث لا نور إلا نور المطلق، ولا تسبيح إلا ما يسند إلى الملائكة، وعلي يتقلب في تلك الأجواء:
ولدته في حرم الإله وأمنه والبيت حيث فناؤه والمسجدُ
في ليلة غابت نحوسُ نجومها وبدت مع القمر المنير الأسعُد
ما لُفَّ في خرق القوابل مثله إلا ابن آمنةَ النبي محمدُ([4])
أشرق بوجهه الكريم بعد أيام ثلاثة في ضيافة ربه، ليستقبله بعد ذلك أشرف البشر وأنبلهم وأصدقهم وأكرمهم وأكملهم بما تحمل الكلمة من معنى، وهو النبي محمد (ص). ليلتقي عند ذلك نور النبوة ونور الإمامة، فيشكلان تمازجاً.
من الكعبة إلى العرش مسافة لا تقاس بالحسابات المادية، إنما حسابها حصرٌ في يد من وهب وأعطى، والذي إذا أعطى لا يمنّ، غاية ما في الأمر أنها ذوات اصطفاها الله، حيث قلّب الوجود ظهراً لبطنٍ، وفي نهاية المطاف ليس ثمة في الوجود من يحمل الظرفية الكاملة المهيأة القابلة للطف من المطلق بالمطلق، سوى محمد وعلي.
مجمع الكمال:
لذلك كان من السهل أن يحسد علي، وأن يحارب ويقصى، وأن يقتل في نهاية المطاف، لكنه يأبى إلا الامتياز حتى في تصفيته التي فرضت عليه من خصومه، وخطط لها ونفذت بإتقان، وإلا فمن يجرؤ أن يقترب من دائرة علي (ع) في أي حال من الأحوال؟
كان (ع) إذا انخرط في صلاته لا يتحرك منه إلا ما حركته الريح، أو شفاه تتمتم بذكر الله والصلاة على النبي محمد (ص). لذا نجد أنه يتميز حتى في آخر مفردةٍ من مفردات حياته. وكأنه يقول: بدأت حياتي في مسجد، فلتنته في مسجد.
وهنيئاً للأرواح الطاهرة التي عرجت إلى ملكوت ربها في الأعصر الأخيرة، وهذه الأيام التي نعيشها، وهي في دائرة الله، وفي بيت من بيوت الله، جعل الله قبورهم رياضاً من رياض الجنة، ودفع عن المؤمنين والمسلمين ساعات السوء، وجعلنا في بلادنا هذه وسائر بلاد المسلمين آمنين مستقرين مطمئنين.
دخل عليٌّ في صلاته ليجعلها الخاتمة، في أجواء صيام، وفي مسجد بارز، وفي حال سجود هو الأقرب إذا ما أراد الإنسان عروجاً ووصولاً إلى السموات العلا، بل إلى العرش حيث القدرة والجلال.
دخل ابن ملجم وضرب علياً ضربة جعلت الأمة تبقى إلى اليوم لا تقوى على الإفاقة، لأن الأمة لا ترغب أن تضع يدها على الجرح. حتى أننا إذا ما صدرت الأخطاء من أبنائنا أصبحنا لا نعنّف ولا نعاقب ولا نضع حلولاً، لا لشيء إلا لأننا لا نريد أن نذهب بالأمور لمسافات بعيدة، فهي حسابات في دائرة ضيقة ربما تعطي نتاجاً وعلاجاً آنياً، لكنها لا تمتلك القدرة أن تتقلب في جميع المواضع لتضع الحلول لجميع الإشكاليات التي تعرض في أكثر من مكان ومكان. وكيف لا يُحسد عليٌّ وهو يجسد الامتياز في مولده وعبادته وعلمه وسبقه للإسلام وتضحياته، وما من علم رفعه النبي (ص) إلا وتلقفته يد علي (ع) لا يجاريه في ذلك أحد، ولا يشق له غبار من أحد.
لقد أرادته السماء فكان كما أرادته، وكان للأمة كما أراده النبي (ص) وأبى أن يخرج من دائرة اختطها النبي (ص) له. كما أنه أراد لنفسه كوناً خاصاً اسمه علي، وأبى أن يكون ذلك العالم إلا في دائرة علي. ونسأله تعالى أن يجعلنا ممن يتعرف ذات علي (ع) في مكنونها، وأن يقترب من مفرداتها، وأن يسرج الظلماء في داخله بقبس من نور علي، صهر النبي محمد (ص).
ذكرى الغدير:
في مثل هذا اليوم بويع علي (ع) في مشهد عام حضره الحاضر والبادي، العربي والأعجمي، الذكر والأنثى، الكبير والصغير، وكلهم بايع علياً، وبخبخ له بالإمرة، وأعطاه عقد الطاعة، ولكن ما هي إلا أيام وإذا بالأمور تتبدل وتتحول، وتنحرف البوصلة كثيراً عن محورها، وتأخذ في أكثر من اتجاه واتجاه، وإلى يومنا هذا والبوصلة تبحث عن محوريتها، لأن المحورية فيها في عالم غيب. فالله سبحانه وتعالى جعل ذلك الأمر حتماً مقضياً لتغربل الأمة ويعرف أبناؤها ما لهم وما عليهم، حتى إذا ما أذن الله تعالى للفرج من آل محمد (عج) كانت الأمة قريبة في حال التعاطي مع ما يَطرح ويَستعرض ويطلب، فهو الحجة الذي ينتظر الكثير منا نحن، فهل أعددنا أنفسنا له؟
كان علي محسوداً، إذ لم تكن الحرب تحسم إلا بكفه، ولا تحل معضلات المسائل العلمية إلا عن طريقه، وكانت السماء تشير إليه في أكثر من موطن، وقد اصطفاه النبي (ص) أخاً له، فلا نعجب أن يحسد، إنما العجب أن لا يُحسد، لأن الكامل مزعج للناقصين الذين لا يستطيعون أن يصلوا إلى أدنى موقع منه.
لقد خلقه الله جوهرةً، وأبدع النبي محمد (ص) في تقسيماتها، فهي جوهرة السماء المصاغة بكف النبي محمد (ص).
والله تعالى يشير إلى هذه الحالة التي بلغتها الأمة، فيقول مخاطباً النبي (ص): ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوْكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُوْرُ﴾([5]). فليس غريباً أن يكذَّب نبينا كما كُذّب من كان قبله من الرسل، في هذه القضية أو غيرها.
قائد في الزمن العسير:
أيها الأحبة: إن علياً (ع) بقدر ما حقق من الامتياز إلا أن الدنيا ضاقت به. ذلك لأنه أراد للأمة أن تكون على المحجة البيضاء، ومن يقيَّض لذلك هم النزر اليسير من أبناء الأمة.
لذا تجد الإمام علياً (ع) ومن خلال نهج البلاغة يقدم نصوصاً، من خلالها نستكشف الحالة، ومرارة المرحلة التي عاش فيها فيقول مثلاً: «اللهم إنني مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً مني»([6]).
هذا هو حال تلك الجماعة التي عاشها علي (ع) في الكوفة التي قلبت له ظهر المجنّ، وأبت إلا أن تكون الورقةُ الأخيرةُ من حياته بين أبنائها، وفي أقدس البقاع فيها وهو الجامع الكبير، رابع المساجد العظمى. فقد قتل في الكوفة، وبأيدي الكوفيين، ومن رجال يحسبون عليه، لتأخذ الأمة من ذلك دروساً وعبراً.
أيها الأحبة: علينا أن لا نبرر في محل لا يمكن فيه التبرير، وأن لا نلقي بأخطائنا على الآخر، وأن لا نجعل من الآخر شماعة نلقي عليه الكثير من الأخطاء التي نقع فيها، فمن لا يعترف بالخطأ لا يمكنه التصحيح، ومن يدير ظهره لإخفاقة ما في مسيرته لا يستطيع أن يتقدم. هكذا علمتنا السماء، وهكذا علمنا الأمناء من السماء على أهل الأرض وهم محمد وآل محمد (ص).
وربما تسأل: لم آل الأمر إلى هذه الحالة في زمن علي؟ فيأتيك الجواب:
1 ـ غياب الطبقة الخيرة الأولى، وهم الرعيل الأول من أوساط الصحابة وخيار القراء وحملة السنة المطهرة الصحيحة التي اكتنزوها في صدورهم وقدموا نحورهم فداء لأجلها.
2 ـ التمرد الداخلي للجيش الكوفي الذي يفترض أن يكون منح ولاءه لعلي، إلا أنه لم يف بذلك، فقد انشقوا على قيادتهم، عسكرية أم مدنية، فكان هنالك قادة أداروا ظهورهم لعلي (ع) ويمموا شطر الشام، حيث معاوية، وأعطوا له ما أعطوا.
ثم جاء الحراك الشامي، الذي وجدت الأمة في الكوفة نفسها عاجزة أن تتعاطى الحدث معه. فكان علي (ع) يستنفرهم شتاءً فيستمهلونه إلى الصيف، حتى إذا ما جاء الصيف استمهلوه حتى يأتي الشتاء، وكأنهم في لعب مع صبية، لا أنهم يتخاطبون مع السماء يوم لا بوابة بينهم وبينها سوى علي (ع).
وتحرك الجيش الأموي من الشام، ليضع أكثر من خنجر في أكثر من موضع من خاصرة الإسلام. فتجد سفيان بن عوف الغامدي يغير على الأنبار والمدائن بعد أن تجاوز «هيت»، ويقتل عامل علي عليها حسان بن حسان البكري. وتجد بسر بن أرطاة يهاجم مكة والمدينة ويتوجه صوب اليمن. والضحاك بن قيس يهاجم أكثر من نقطة، وعلى رأسها «واقصة».
أيها الأحبة: اقرأوا التاريخ، الذي لم نكتبه نحن، إنما كتبه الآخر، وانظروا ماذا يقدم لنا من صفحات سجلها هؤلاء، فسوف تجدون العديد من الشواهد السوداء. فلا تستغرب أيها المؤمن إذا ما صادفك شاهد في كتاب تاريخ أن الوالي على الجيش يأمر أن يُنتقى له من النساء الأجمل، فإن كانت حاملاً بقر بطنها، وإلا هتك عرضها.
ودخل بسر إلى اليمن وهو يتعقب عبيد الله بن العباس فلم يمسك به، إنما أمسك بصبيين له، فذبحهما أمام نظر أمهما([7]).
هذا هو تاريخ أولئك، فلا تستغرب ما يجري اليوم من قتل، وإزهاق للأرواح، وانتهاك للأعراض، ونهب للأموال، وإرباك للأوضاع العامة والخاصة، فهم أبناء أولئك، وتلك هي جذورهم.
أيها الأحبة: إننا نعيش علياً (ع) في هذا اليوم، وربما نقول: ليتنا كنا معهم، ونرددها كثيراً، لكن السؤال المشروع: ما هو مقدار الحقيقة في ذلك؟ فلو قُدر لأحدنا أن يكون في محضر المهدي (عج) هذه الساعة، وطلب منه بياناً عن كل مجريات الأمور من أقوال وأفعال وعلاقات والتزامات، فهل تكون الصحيفة بيضاء تبيض الوجه أمام الخلف الباقي من آل محمد (عج)؟ أو تكون سوداء؟.
سفينة الغدير:
عيد الغدير سفينتي ونجاتي أسرجت فيه مسارحي ولغاتي
وكتبتُ دستور الحياة بريشتي أسست شطراً من طقوس صلاتي
وأعيدُ للقلب الجريح ثباته من بعد فصلٍ متعب القسماتِ
فوجدتُ في القلب الجريح ثلاثة لولاها ضاعت في الزحام أناتي
عينٌ هي السر العظيم تجذرت في كل عرق مد حبر دواتي
واللام معراج الوصول لخالقٍ برأ الوجود لأشرف الغاياتِ
والياء من روح الوصي عشقتها فيها رسمت البُعد من تاءاتي
يا حلقة الوصل الأصيل تحركت منا القلوب بأقدس الساعات