نص خطبة:الإمام علي (ع) تجسيدٌ للاستقامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في كتاب الله في عرش السماء نقشت بالنور في ذات اليمين
من أراد الفوز في آخرةٍ فليوالِ حيدر الصدق الأمين
كي يرى الإشراق من قبته يسكن القلب ويهدي الزائرين
حيدر نور بدا في كعبةٍ خصها بالنور رب العالمين
جمع الله لها نور التقى ومنار الحق قطب السالكين
فلنصلِّ ما بدت شمس الضحى فرحةً للآل أصحاب اليقين
عليٌّ منار الهدى:
في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع): «إن فوق كل عبادة عبادةٌ، وحبنا أهلَ البيت أفضل العبادة»([2]).
بارك الله لنا ولكم ميلاد الأمير علي (ع) وأعاد الله المناسبة علينا وعليكم وعلى عموم المسلمين والبشرية جمعاء بالبركة.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيْرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوْهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُوْنَ ~ وَقَالُوْا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَادَاً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِيْنَ﴾([3]).
وقال عز من قائل: ﴿أنؤمنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأَرْذَلُوْنَ﴾([4]).
وقال جل وعلا: ﴿فَقالَ الْمَلَأُ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَمَا نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِيْنَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبين﴾([5]).
لماذا علي؟ ولماذا الإصرارُ على علي؟ لأن علياً تحفة السماء، وهو الإنسان الكامل بعد رسول الله محمد (ص) وإشراقة اللاهوت، ومسيرة الرسالات، وهدي الأنبياء، كل ذلك في علي.
ميلاده في الكعبة، وكفى بذلك فخراً. وعروجه في محراب واحد من المساجد الأربعة، وبين الموضعين مسيرة طافحة بالعطاء والشرف والنبل والشجاعة والكرم والصبر والتضحية والفداء والاستقامة.
كلنا اجتمعنا واحتفلنا وابتهجنا من أجل ميلاد علي (ع) ومن حقنا أن نسأل: ما الذي انقدح في داخلنا من ذكرى ميلاده؟ هل اقتبسنا من هديه ونوره وعطائه؟ وهل تعاهدنا معه أن نسير وفق معطيات مسيرته الخلاقة في أبعادها كلها؟ أو أننا رضينا أن نتوقف في المحطة الأولى على أن لا نعبرها إلى محطة ثانية؟
مما لا شك فيه أن مناسبات أهل البيت (ع) في الفترات الأخيرة باتت تأخذ حيزاً، وتشغل واقعاً كبيراً في وسط محبيهم ومريديهم أينما كانوا، في شرق الأرض وغربها، وفي هذا شيء من التميز، وأجر لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى بمعطى الحديث الذي استهللت به عن الإمام الصادق (ع): « إن فوقَ كل عبادة عبادةٌ، وحبُّنا أهلَ البيت أفضل العبادة».
الاستقامة العلوية:
إلا أن أمراً مهمّاً لا ينبغي أن ندير ظهورنا إليه، ونعرض عن معطياته، ألا وهو الاستقامة المتجسدة في ذات علي (ع) والمترشحة على أقواله وأفعاله، بحيث لا نجد مفردة انطلقت على لسانه، سواء في الكوفة أم في المدينة أم في قوافل المعارك التي خاضها إلا ولها قيمتها، تسترعي الانتباه، وتستوقف الجميع عندها طويلاً، لأن علياً (ع) هو المجسمة الصغيرة للنبي الأعظم (ص) في قوله وفعله وتقريره. وحيث إن الأمر يصب في هذا الاتجاه، فعلينا أن لا نبتعد عنه كثيراً، وإذا ما شطّ بنا المسار يوماً فعلينا أن نرجع إلى واقعنا، وأن نتحرك من خلال موقفنا الأول فإن في ذلك عصمة ونجاة وهداية تستوعبنا وتستوعب الآخر من حولنا.
فعلي (ع) أراد للاستقامة أن تكون دستوراً، يحكم الإنسان على أساسها لنفسه أو عليها، كما أنه في الكثير من المواطن يحكم على الآخرين فيما لهم وما عليهم، وليس له من الأمر في ذلك من شيء. بل على الإنسان أن يقوّم نفسه في مسار الاستقامة، فمتى ما استقامت نفسه استقام المحيط من حوله، ثم اتسعت الدائرة بإضافة الفرد إلى الفرد حتى يتشكل المجتمع بأحلى وأجمل وأروع ما يمكن أن يكون. هكذا كان عليٌّ المرآة الصافية لمعطى الرسالة المتجسدة في محمد (ص).
مسيرة النور والصلاح:
ونعود ونقول: لماذا علي (ع) ؟ لأن علياً (ع) مع النبي (ص) في رسالته، وبعد أن آلت الأمور إليه بعد رحيل النبي (ص) وبعد أن تسنم القيادة الفعلية في الكوفة العلوية إلى أن ختم حياته بالشهادة. فعلي هو علي، لا يستطيع أحد أن يسافر أو يبحر به فيما هو أوسع وأشمل وأكمل وأتم مما اختطه هو لنفسه. فعلي لا ينتظر منا مزايدة، ولا يترقب منا وضع بعض القضايا التي لم ينزل الله بها من سلطان رغبة في إعلاء شأنه.
فمن اقترب من علي ازداد شرفاً، ومن أسلم له القياد ازداد سؤدداً، ومن سار على نهجه وتعبد بطريقته ازداد هدىً. فهو يشرّف الكرامة والمعجزة لا أنهما تشرفانه، لأنهما صنائع، وما في الوجود من صنيعة إلا وهي لمحمد وآل محمد (ص).
ودخل علي (ع) في المعترك الخطير، بل المعترك الأخطر بعد أن اجتاز المراحل واحدة تلو الأخرى، حيث كانت الراية خفاقة، ولم تخفق إلا بيد علي، ومن حملها في غيابه في بعض المواطن لسبب أو لعلة في الأعم الأغلب، كانت النتيجة معه غير متناسبة مع معطى راية ترفّ في يد علي (ع). فعلي على نحو الاختصاص في بدر وأحد والخندق وخيبر، وما برزت شوكة لصناديد العرب الذين نابذوا النبي (ص) وحاربوه، إلا وكان علي الشوكة المغروسة في صدورهم، والسيف المقوِّم لهم.
علي (ع) هو الذي يقرأ ما في الإنسان ثم يضع الحل المتناسب وشخصه، ودونك ما فعله مع عتاة قريش في بدر، فلم يستثنِ من استطاع أن يصل إليه بسيفه، ولكن في معركة الجمل فسح المجال للزبير، ومنحه الفرصة الأخيرة، كي يختار لنفسه ما يختار، رغم أن بمقدوره أن يسوّي به الأرض، إلا أن علياً لا يتحرك على أساس البصر فقط، إنما على أساس البصيرة.
ونحن أيها الأحبة، إذا كنا نحب علياً ونعشقه ونواليه فعلينا أن نتحرك على أساس من بصائرنا، لا أبصارنا، فالبصر يخطئ، لكن البصيرة إذا ما تشكلت على أساس من القيمومة الصحيحة والنهل من خلال الموارد العذبة لمحمد وآل محمد (ع) فإنها تفتح الطريق صوب الهدف.
وجاءت الخلافة الظاهرية لعلي (ع) وتولى أمور المسلمين بعد هَنٍ وهن، وبعد أن شط المسار، وأُجهز على الخليفة الثالث من قبل المعارضة التي تحركت في أكثر من اتجاه، وقد حاول علي أن يدفع عن الخليفة ويحافظ على حياته ويمنع المهاجمين له، لكن الأمور لم تتماشَ وفق ما أراد، وقد أرسل بولديه السبطين، الإمام الحسن والإمام الحسين (ع)، من أجل الحفاظ على روح الخليفة الثالث، لكن الثائرين كانوا في حالة من الهيجان الزائد، فتسلقوا بيت الخليفة وأجهزوا عليه في بيته.
وأصبح علي خليفة المسلمين، إذ لم توجد الشخصية التي يمكن أن يتفق عليها الجميع في هذ المنعطف إلا شخصية علي (ع) وإن كانت هي الشخصية التي اصطفتها السماء من قبل، وبايعتها الأمة بمحضر من الرسول (ص) مع كونه الأفضل والأعلم والأشجع والأقضى، لكن الأمة اختارت لنفسها طريقاً آخر.
وكانت النتيجة أن أصبح علي بعد مقتل الخليفة الثالث خليفة للمسلمين، وكانت خيرات الدنيا تجبى بين يديه، وتوضع في بيت مال المسلمين، إلا أن ذلك لم يغير من شخصيته شيئاً. فقد نزل في بيت لابن أخته ابن هبيرة المخزومي، فكان إذا وقف ضرب رأسه بالسقف. ولو أنه نزل في قصر الإمارة لكان ذلك من أبسط حقوقه، فالخليفة يختلف عن سائر الرعية، بما يقتضيه الحال من مناسبة الأحكام لموضوعاتها، وهو أمر طبيعي سارت عليه البشرية، لكنه أبى إلا أن يضرب للأمة رقماً قياسياً خاصاً ينفرد به، يضاف إليه ولا يضاف إلى غيره، خذها من حياة البشرية الأولى حيث الفصل الآدمي، مروراً بتطورات الحضارة وتقلباتها، وانتهاءً بالعصر الذي نعيش فيه، فعلي هو علي، ولا يمكن أن نساوي بعلي إلا من فضل عليه، وهو الحبيب المصطفى محمد (ص).
وإذا كان علي (ع) بهذه المثابة فلماذا نجد ثائرة هنا وأخرى هناك؟ ولماذا لم يمدّ البساط له في السنوات الخمس، وهي الأخيرة من حياته؟ ولماذا حسمت حياته بالسيف، وخضبت كريمته الشريفة بدم جبينه في شهر الله؟ ولماذا كان ذلك في ليلة هي خير من ألف شهر؟ ولماذا حصل ذلك وعلي في أقرب المواطن إلى الله في حال سجوده؟ ولماذا ولماذا؟ ولا ينتهي السؤال، لكن السبب يبقى هو السبب، وهو الاستقامة التي رسم معالمها علي، وأراد للأمة أن لا تتخطاها ولو قيد أنملة، فمتى ما تخطتها الأمة أردت نفسها بنفسها.
أيها الأحبة: كلمة واحدة نقولها في ذكرى ميلاد علي وهي (الاستقامة)، فلم تجرِ هذه الكلمة على لسان علي (ع) بقدر ما تجسدت في الخارج، فعلينا أن نأخذ من ميلاده هذه المفردة المقدسة ونعطيها المساحة الكافية في داخلنا لنعيش علياً في وجداننا، وأقوالنا وأفعالنا. فمن أحب علياً وعاشه فلن يغادر مساحته. لأن علياً أراد للبوصلة أن تعود إلى مركزها وتتجه في الاتجاه الصحيح، كما خطه نبينا الأعظم محمد (ص).
يقول علي: «فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلوُّن واعتراض»([6])، وهو معنىً مقتبس من قوله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوْا أَنْ يَقُوْلُوْا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُوْنَ﴾([7]).
لماذا تقدَّم علي؟
إن علياً (ع) يقف في الموقع الثاني بعد النبي (ص) وقد أهّله لذلك مجموعة من الخصال، أبرزها:
1 ـ خصوصية البيت وكمال الصحبة: ودونكم علياً في بيته وصحابته الذين عاشهم وعاشوه، وإذا أردنا أن نقرأ فعلينا أن نتجرد عن العواطف، ونتعامل مع التاريخ مع التاريخ كما هو، وأن لا نطلق الأحكام المسبقة، بل علينا أن نقلب النصوص ونتحرك فيها طرحاً وجمعاً حتى نصل إلى نتيجة ربما لا ترضي أحداً في واقع الحال اليوم، ولكن سيكون لها مريدوها في القادم من الأيام حتماً، على أن نبتعد عن حالة الصراع والتسقيط، فهو لا يوصل إلى هدف، فمن رفعه الله سيرفعه، ومن أبى لنفسه إلا الانحدار فقد أعان على نفسه أن يكون منحدراً، ومن عشق الكرامة والفضيلة لا يرضى لنفسه إلا الرشد والارتقاء والسمو والرفعة.
إن خصوصية بيت علي معروفة، فهو من هاشم، وهاشم سنام العرب. وأما صحبته فهم الذين عاشوا النبي (ص) وضحوا من أجله، لم يفترقوا عنه، ولم يختلفوا عليه، إنما ظلوا أولئك الصحابة المنتجبين الذين حملوا المسؤولية وأوصلوها إلى ما وصلت إليه.
2 ـ قوة الحجة والبرهان في منطقه: حيث بلاغة الكلام التي لا يشق له فيها غبار، فقد أعجز من تقدمه، وأتعب من جاء بعده.
أيها الأحبة: هنا سؤال بسيط نود الإجابة عنه: كم يشغل منكم علي في نهج بلاغته؟ وكم قرأتموه من خلال ذلك النهج؟ وكم قبلتم الضيافة مع علي في نهج بلاغته؟ وأي زاوية من بيوتنا يشغلها نهج البلاغة؟ وأي خطبة من خطب علي اجتمعنا عليها في بيوتنا وقرأناها كورد؟ أين منا نهج البلاغة؟ وأين نحن منه؟
من أراد أن يقرأ علياً فدونه النهج. فهو نهج وتدوين لمسيرة فاضلة يقدمها لنا علي زاداً، يبدؤها بالتوحيد، ويتحرك في العبادة، وينطلق إلى التنظير والتوجيه الاجتماعي، ثم يختم المطاف بعوالم الآخرة. فهو مدرسة بخمسة عناوين، تأخذ الإنسان الموالي إلى حيث أراد إذا ما أنصف نفسه.
أيها الأحبة: إذا رجعنا إلى بيوتنا علينا أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا، قبل أن نسأل أمهات بيوتنا عن حال الغداء والطبخ والأكل: هل لدينا كتاب نهج البلاغة في البيت؟ هل نكتفي أن نسمي أبناءنا باسم علي؟ إن في ذلك شرفاً وكرامة، إلا أنه لا يكفي.
3 ـ الابتعاد عن مظاهر الترف في الحياة: فقد ضرب علي (ع) أروع الأمثلة في ذلك. ولكن كانت للأمس ظروفه ومقدراته وإمكانياته، أما اليوم فكما تعلمون. فإن كان للترف مساحة بالأمس فعلينا اليوم أن نكون واقعيين مع أنفسنا، ومع المشهد من حولنا، ومع ما نستشرفه في القادم من الأيام.
علينا أن ننتهج التخطيط والدراسة والوعي والنظرة الثاقبة البعيدة، فتلك أجندة مهمة، إذا جمعناها وعملنا وفق معطياتها استطعنا أن نخرج من الكثير من الأزمات، وإلا فالمخاض طويل.
لقد جاء الإمام علي (ع) للخلافة فرأى أن الأمة قد نهبت خيراتها، فجعل مصادر الثروة من حقوق الأمة المسلمة والبشرية من حوله.
لقد عطف على النصراني الذي عاش المسلمين في أوساطهم، وعلى اليهودي الذي عاشهم في أوساطهم، فلم يتركه مستخدَماً ثم يلقى به خارج الدائرة، فكسر بذلك الأطر الضيقة من حوله، وأبى لنفسه إلا أن يكون إنساناً كي يعيش الإنسانية وتعيشه. فالدين المعاملة، ولا ينبغي أن نُمسخ لنعيش الخرافة.
ليس الدين عبادة فحسب، ومن عاش الدين في العبادة فقط، كان أشبه بمن يمتلك رجلاً واحدة، أو عيناً واحدة. فالدين عبادة ومعاملة، وما ينفعني أن تكثر من الصلاة أو لا تكثر، ما دامت أخلاقك سيئة وتصرفاتك خاطئة، فلا تعطي الآخرين حقوقهم ولا تحترمهم؟
كان النبي (ص) يستوقف العجوز ويبدؤها بالسلام في المدينة، وكان يلاطف الطفل الصغير، وكان علي (ع) كذلك، يتواضع لفقير من النصارى جار عليه الزمن، لأنه يعيش في دار المسلمين يفترش التراب قريباً منه، ثم يلقي باللائمة على الوالي المسؤول عن مجريات بيت مال المسلمين فيقول: «اسْتَعْمَلْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا كَبِرَ وَعَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ؟ أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ»([8]).
فماذا أبقى علي (ع) من مقامات الكرامة والشرف كي لا يحسد ولا يحارب ولا يقتل؟
أيها المحب لعلي: إن أردت أن ترفع رأسك شامخاً فبعلي، وإن أردت أن تعيش كريماً فبعلي، وإن أردت أن تعيش لنفسك بنفسك فبعلي.
لقد وضع علي (ع) يده بعد أن وصلت إليه الخلافة، على أصحاب الثراء الفاحش ممن بنوا الثروات على أساس دماء أبناء الأمة المسحوقة، لصالح الفقراء من أبناء الأمة، وقد عاشوا نعيماً لا محدوداً، وترفاً فاحشاً، فلم يرضوا أن يساووا بالبسطاء من الناس، أو أن يقال لهم: للناس في أموالكم حق. «فما جاع فقير إلا بما متع به غني»([9]). فالغنى مطلوب، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولكن على الغني أن يلتفت للبسطاء من أبناء أمته، وكلٌّ مسؤول عن رعيته. فالفقر ليس قدراً على أبناء البشر، والناس في الثروة سواء، في الماء والهواء والتراب. وكل صنيعة هي من نتاج هذه العناصر. إلا أن الإنسان بأنانيته وحسده وسوء ظنه بالله سبحانه وتعالى، والسير على نهج الفراعين ممن تولوا كثيراً من أمور الأمة في الكثير من الحقب الزمنية، أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
وضع علي يده على هذا الأمر، ودخل في دائرة الإنفاق المقنن لنظام الدولة على مبدأ: لكلٍّ حسب حاجته. لا أن تفتح الأبواب لجهة على أن تغلق في الجهة الأخرى. فالمساواة هي الملاك في العطاء وفي فرص التوظيف بين أبناء المسلمين، فكان أيام خلافته يولي البعيد كما يولي القريب، والملاك والميزان عنده هو التقوى ليس إلا. أما كونه من آل فلان، أو في محسوبية جماعة فلان، فما كان علي يقيم لها وزناً.
استعاد علي (ع) الممتلكات التي نهبت من بيت مال المسلمين لصالح العامة من الفقراء، ثم وضع مراقبة شديدة على الولاة الذين كانت أيديهم مطلقة، حتى أولئك الذين تمردوا ناجزهم القتال، وما حصل في صفين كان شاهداً واضحاً على ذلك.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتعرف علياً (ع) ويعيش نهجه، وممن يحب علياً ليحب الناس على أساس من نهج علي، فالدنيا جميلة إذا ما أردناها أن تكون كذلك، وهي جحيم إذا أبينا إلا أن نجعلها كذلك. فقليل من الرجوع لعلي يجعلنا نعيش حياةً سعيدةً كريمة أرادتها السماء في محمد وعلي وأهل البيت (ع).