نص خطبة:  الإمام الرضا (ع) وولاية العهد أسباب الاختيار ومبررات القبول

نص خطبة: الإمام الرضا (ع) وولاية العهد أسباب الاختيار ومبررات القبول

عدد الزوار: 542

2013-06-24

عالم آل محمد (ص):

قال الإمام الكاظم (ع) في حق الإمام الرضا (ع) في جمعٍ من إخوته: «هذا أخوكم علي بن موسى الرضا، عالم آل محمد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإني سمعت أبي جعفر بن محمد غير مرة يقول لي: إن عالم آل محمد (ص) لفي صلبك، وليتني أدركتُه، فإنه سمي أمير المؤمنين علي (ع)»([1]). 

بارك الله لنا ولكم وللسائرين على نهجهم، ومن يتشرف بذكرهم من عموم المسلمين على وجه الأرض، ذكرى ميلاد الإمام الثامن الضامن، سلام الله عليه وعلى آبائه وأبنائه.

بين الدين والسياسة:

من المحطات المهمة التي مر بها الإمام الرضا (ع) مسألة ولاية العهد، ورب قائل يقول: إن هذا الموضوع قد لاكته الألسن كثيراً، ولا موجب للخوض فيه، ولكن بظني أننا لا زلنا في أمسّ الحاجة أن نتوقف عند كل مفردة صدرت عنهم، ناهيك عن موقف تم اتخاذه وإجراؤه، وتقرر على أساس منه مصير الأمة.

هنالك مساران منذ أن غاب الرسول الأعظم (ص) أريد لهما أن يسودا حياة الناس:

المسار الأول هو فصل الدين عن السياسة، والمسار الثاني جعل السلطة للدين على السياسة.

وللساسة قواعدهم التي يسيرون وفق معطياتها، ولرجال الدين والمؤسسات الدينية قواعدها الخاصة بها أيضاً، وعندئذٍ يأتي السؤال: ألا يمكن أن نزاوج بين هذين المسارين بما فيه الصالح العام؟ وهل هذا من البدع التي حذّر منها النبي الأعظم (ص) والرسالة الإسلامية؟ أو أنها من الأمور الطبيعية جداً في رحم الأمة بسبب الحاجة للتماشي مع هذين المسارين؟

رب قائل بالقول الأول، ورب آخر يقول بالثاني، ولذلك أيضاً أسبابه وهي كثيرة جداً لكلا الاتجاهين.

من هنا يجوز لنا أن نسأل: هل نظّر النبي الأكرم محمد (ص) لهذين المسارين أم فكَّك بينهما؟

القارئ لمسيرة النبي (ص) وحركة الرسالة يجد أن هناك توأمية لا يمكن التفكيك بينها، كان ينهجها الرسول الأعظم (ص) طوال مسيرة حياته في قراراته المفصلية والخاصة والقرارات المباشرة أو مع الواسطة، وكان يزاوج بين هذين المسارين. لذلك تجد أن الفكر النبوي الواصل بالطرق الصحيحة لآحاد الأمة، لديه القدرة على المعصومية في التعاطي مع مجريات الأحداث مهما امتد الزمن، أو تغيرت الأمكنة أو تبدل الأفراد واستعيضت المشاهد، والسر في ذلك أن المزاوجة بين هذين المسارين تعطي هذه الخصوصية للرأي، مما يولِّد ثباتاً واستقراراً وديمومة، مع قدرة على الحراك والتغيير، على العكس من ذلك لو نظرنا إلى البناء الفكري في أي مدرسة أو تنظيم أو تحزُّب أو توجه، تحاول الفكيك بين هذين المسارين، حيث تجد أنها تكبو في بعض مراحل الطي التي ترغب أن تتخطاها لتصل إلى الهدف.

والسبب هو أن الطائر إذا ما أعيق في أحد جناحيه، تعذَّر عليه الطيران، وإذا ما قُدِّر له أن يحلِّق فلا يستطيع الاستمرار، وإذا ما أراد الهبوط فلا يهبط هبوطاً طبيعياً، إنما يستقبل الأرض بمقاديم جسده، مما يتسبب في التلف الكبير. وهذا شأن الأحزاب والتنظيمات والمؤسسات المدنية والدينية التي لا تزاوج بين هذين المسارين.

ولاية العهد ودوافع السلطة:

والإمام الرضا (ع) باقترابه من ولاية العهد لم يأت من مساحة فراغ، إنما كانت هنالك أسباب ودواعٍ دفعت بالخليفة العباسي أن يسند إليه هذه المهمة التي يقف في مقابل قراره فيها جميع أعلام المدرسة المتوارثة، من الصف الأموي إلى الدولة المستحدثة بمسمى خلافة بني العباس.

فالقضاة والولاة والأمراء ورؤساء الشرطة والوجهاء والأعيان والمقربون من السلطة ورجالات البلاط والمبصبصون بأذنابهم، لم تكن لديهم الرغبة أن يصل الإمام الرضا (ع) إلى مقام ولاية العهد.

أما الخليفة العباسي المأمون فكان على درجة عالية من الوعي والدهاء والفطنة بل وحتى من الحكمة، فليس بالضرورة أن توصل الحكمةُ الإنسان للحق، إنما توصله إلى الهدف، لأن الهدف قد يكون شخصياً، وقد يكون عاماً، فإن كان شخصياً فقد تحقق، وهذه من مقتضيات الحكمة والمقدمات التي ينتهجها في سبيل الوصول إلى ذلك. وكان المأمون بهذه المثابة، إذ كان ذا ثقافة عالية وأفق مفتوح، وهناك من يُنظِّر من حوله، وبذلك صُقلت مواهبه، وقرأ المشهد بانفتاح، وكانت بيئته تعيش أجواء الانفتاح، وأضحت ملتقى حضارات في خراسان، والمدرسة الفلسفية قطعت شوطاً، بعيداً عن عصا الدين وجلد المتدينين.

إذن كانت هنالك أسباب دفعته لذلك، وإلا فإنه لم يرَ مناماً كي يعقد ولاية العهد للإمام الرضا (ع)، ولم يستخر على هذا الأمر، ولم يشاور ربات الحجال وأصحاب أنصاف العقول، إنما اختص بمن اختص به في الرأي مع تحكيمٍ لرأي الفرد.

قد يتصور البعض أن الديكتاتورية لا تكون إلا في زاوية القتل والسجن وتقطيع الأطراف، لكنها أبعد من ذلك وأكثر شمولية، ومساحاتها كثيرة، من الأمر المادي إلى المعنوي، وبين ذلك مستويات ودرجات وألوان.

1 ـ إجهاض حركات التمرد:

فالرغبة الأولى التي كانت لدى المأمون هي إجهاض جميع الحركات التي تحمل طابع التمرد والاصطدام مع السلطة. من هنا فقد وضع يده على الرقم الأول في البيت العلوي المحمدي، وجاء به ليسكت الأصوات من حوله، ويجهض جميع الرغبات في النفوس الطموحة للتغيير، وليس بالضرورة أن يعني التغييرُ الإطاحةَ بالحاكم، إنما قد يكون في التوسعة على الحال، أو فسح المجال أمام أبناء الأمة ليتحدثوا في ما يرغبون ويعبرون عن آرائهم، وهو أبسط الحقوق وأقلها، فلو لم تكن هناك حاجة فطرية لدى الإنسان في لسانه لما خلقه الله تعالى له، ولو لم تكن هناك إرادة وحكمة وراء هذا الصنيع لما منّ الله تعالى علينا به، وعلى هذا قس ما وراء ذلك من الجوراح والجوانح.

2 ـ البحث عن الدعم الشرعي للخلافة:

أما الدافع الثاني فهو أن الخليفة العباسي، كان قد وقع بينه وبين أخيه الأمين خلاف، قبل وصوله للخلافة، بعد موت أبيه هرون، حيث وقعت إشكالية عنيفة قدّمها لنا التاريخ بأكثر من لون، فهناك أقلام متزلفة للمأمون، صوَّرت المشهد بتصوير خاص، له مثيلاته اليوم في الكثير من الدول المسحوقة، لا سيما في عالمنا العربي والإسلامي. وهناك أقلام أخرى كتبت بمنأى عن السلطة والسياسة، إلا أنها أخذت جانب الأمين، ولكن يبقى للقوي حضوره وثباته، لذلك حسمت الأمور لصالح للمأمون مقابل أخيه الأمين.

من هنا كان المأمون يرى أنه بهذا الفعل ربما يكتسب الشرعية. فللشرعية مصدران: الأول هو الحق، والثاني هو القوة. ويشترك في مصدر القوة كل من يسير على النهج البراغماتي في الحياة. أما مسلك الحق فينحصر في الأولياء، وهم الذين ينتزعون دستورهم وأحكامهم وقوانينهم ونظمهم على أساس من الكتاب المنزل على النبي المرسل، وما ورد من نص عن النبي الأعظم محمد (ص). أما الحكام والخلفاء والسلاطين والولاة فيتسعون في هذا ويتضيقون، بحسب مقتضيات الحاجة. لذا فإنّ مسألة التقسيم إلى علماء بلاط وعلماء دين لم تكن حديثة عهد، فعلماء البلاط منذ القديم، يسبِّحون ويقدِّسون باسم الحاكم أو الخليفة ويصححون له ما كان خطأ، لكن النتيجة أن لا يصح إلا الصحيح.

وأكثر ما أنعاه أنا على الأمة أنها لا تقرأ تاريخها قراءة صحيحة، وكان بظني إلى عهد قريب أن المبتلى بهذا الداء هم من لا يتفقون معنا، في أي مشرب كانوا، ولا أعني الأخوة من أهل السنة على وجه التحديد، إنما جميع من لا يتفق معنا في مشرب من المشارب، ولكن اتضح لي في الفترة الأخيرة ـ مع شديد الأسف ـ أننا أُصبنا أيضاً في بعض محطاتنا بأناس لا يحسنون القراءة للتاريخ، لذلك يرتكبون جناية على الماضي، ويغرقون المجتمعات من حولهم في أتون أمور هم في شديد الغنى عنها، لا لشيء، إلا لأنهم لم يقرأوا، أو أنهم قرأوا فلم يحسنوا التعامل مع ما قرأوا، فقدموه زاداً مشوهاً. فنحن ننتقد التحريض، ونركب مطيته في الوقت نفسه، ونرفض الإقصاء ونعتمده مسلكاً موصلاً لأهدافنا، ونندد ونشجب من يحاول أن يسقط الشخصيات من مقاماتها، لكننا نمارس هذا الدور في أبشع الصور، حتى لو كانت مقدمة ذلك الدور هو الكذب والدجل والتدليس والنفاق وطي المقدمات. وإلا فإنني لا أدري كيف يكون بعض الناس في وضع معين ومسيرة طويلة محمودة، يمجده الجميع، ثم يصبح فجأة معرضاً لكل شيء، وأنتم بحمد الله ممن تقرأون وتسمعون وتتابعون وتستنتجون.

وهنالك أمر يعصف بنا، وأخشى أن نكون بعض القمح الذي يُطحن في دورة طاحونته، فلا ننتبه إلا وقد أصبحنا عجيناً بيد من يستحق ومن لا يستحق.

3 ـ الفصل بين الإمام وقاعدته الشعبية:

أما الدافع الثالث لدى المأمون، فهو أنه كان يرغب بدهائه أن يفصل بين الإمام الرضا (ع) وهو رأس الهرم، وبين أتباعه ومريديه، لذلك عمد إلى إشخاصه من المدينة المنورة إلى خراسان، ولا نقف عند هذا كثيراً لأنه واضح جداً.

لماذا قبل الإمام (ع) بولاية العهد؟

وربما يسأل سائل: ما هي المبررات التي دعت الإمام الرضا (ع) أن يقبل بولاية العهد، وهو الذي يشترط أن لا يولي ولا يعزل ولا يمارس دور ولي العهد الفعلي؟

إن الأمر لم يكن بهذه السهولة، والإمام المعصوم، وإن كان البعض يستشكل من الاقتراب من ساحته، ويعتبرها محظورة، وهي كذلك، إذا كان الهدف من الاقتراب هو النيل منه، فنحن لا نرضى بالنيل ممن هو دون المعصوم بكثير، فكيف بالمعصوم؟ فمن أطّر المعصوم بالعصمة هو خالق السموات والأرض، وهو أدرى بمستوجبات ذلك التأطير.

ولكن عندما نرجع إلى نصوص أهل البيت (ع) نجد أنهم فتحوا الدعوة على مصراعيها في ممارسة النقاش للأحداث والأقوال، فلا أدري لِمَ تُغلق هذه البوابة الواسعة فلا يسمح لنا إلا أن ننظر من كوَّة ضيقة للمشهد من حولنا، وكأن هناك صكوكاً معينة أُخذت في هذا الشأن؟

إن الإمام الرضا (ع) وجد أن قبول ولاية العهد في حدها الأدنى تحقق مجموعة من المصالح، وهي بالضرورة في صالح أتباع مدرسة أهل البيت (ع) بعد عقود من المطاردة والاستئصال والتنكيل والتضييق، إذ من الطبيعي أن يكون نائب الرئيس أو الملك أو الخليفة ذا تأثير في هذا الشأن.

1 ـ حفظ الجماعة الصالحة:  

من هنا رأى (ع) أن الأرضية الصالحة يمكن أن يوضع لها حجر أساس في وسط الأمة، ويبنى المشروع الرسالي لتأسيس دولة الحق، ولا يمكن لأحد أن يعترض على هذه المصلحة الراجحة.

ثم إن أهل البيت (ع) لا يقتربون من مقام السلطة إذا كانت تضيف لهم شيئاً، لأنها لا تضيف لهم شيئاً مطلقاً، أما إذا كانت تؤمّن للحق شيئاً، فالمعصوم مسؤول أن يحافظ على ذلك الحق. فالإمام الحسن (ع) مثلاً، أمضى عشر سنوات في تهيئة الأرضية وبناء القواعد للمشروع الرسالي الكبير الذي نهض به الإمام الحسين (ع).

2 ـ إسقاط مشروع السلطة:

أما الأمر الثاني فهو إسقاط المشروع العباسي، وهو رغبة العباسيين في إيجاد بديل للإمام الرضا (ع) في حال رفضه، حيث رأى الإمام (ع) أن في المشروع البديل ما فيه. فمن المحتمل جداً أن يكون الرجل المقترح في ذلك الموقع المهم، ممن يحمل لوناً من ألوان المجاراة والممالأة للعباسيين، فتُدفع الضريبة من العلويين وأتباعهم على حساب مبدأ مهم.

من هنا نجد أننا حتى في هذه المراحل الزمنية، يفترض أن من يجعل من نفسه جسراً للتواصل، عليه أن يقرأ جميع الحيثيات، وأن لا يضع يده على أية مفردة ما لم يقرأ المفردات من حولها. فالتواصل حسن، وخدمة المؤمنين أحسن، والتضحية من أجلهم في ميزان الله تعالى لا يعرف قدرها إلا الله تعالى، ولكن يجب أن يكون ذلك بحكمة، وهي تعني وضع الشيء في موضعه، ولا يكفي الوعي والفهم، فما قيمة الوعي والفهم إذا هيأنا الأرضية لتكون المصلحة للجهة المقابلة؟

أما الاحتمال الآخر في البديل، فهو أن تكون هنالك جهة انتهازية تتصيد في الماء العكر، وتنضوي تحت عباءة الإمام (ع) في سبيل الوصول إلى أهدافها ومآربها، وهذه الطبقة والنمرقة لها نماذجها في العصر الحاضر في أكثر من موقع وموقع، فترى أحدهم مع الدين، يلبس عباءة الدين، أو على الأقل يسير في ظلها، ولكن ليس حباً فيها، ولا رغبة في مشروعها، ولا تطلعاً لما هو المستشرف، إنما لحاجة في نفس يعقوب قضاها، من هنا تجد أنه ما من صداقة أو صحبة أو زمالة أو رفقة تُبنى على أساس المصلحة إلا وتنتهي بانتهاء المصلحة. وما من صحبة بنيت على المكاشرة فأنتجت.

لذا فإن الإمام (ع) كان يخشى أن يكون لهؤلاء المتلصصين ـ أو طبقة النفاق في وسط الأمة حسب المنطق القرآني ـ رغبة في الوصول لهذا الموقع، بحكم اقترابهم من رجال الدين من ذوي الصدارة في المجتمع، فقَدَرُ هذا المجتمع أن يحتل فيه رجل الدين موقع الصدراة، بغض النظر عن ماهية هؤلاء. وعلى المجتمع أن يشخص بنفسه صلاحية أو عدم صلاحية البعض لهذه الصدارة.

إن المجتمع اليوم لم يعد كما كان عليه الأمر في السابق، فالعقول اليوم مفتَّحة، وما عادت تقبل التلقين، إنما أصبحت هي التي تزرِّق المعلومة كيف شاءت، وتقبل أو ترفض، وهذه حالة مُطَمئِنة، تُكسبنا نوعاً من الثقة في شبابنا الطيب.

والاحتمال الثالث أنه (ع) خشي من وصول فردٍ ساذجٍ بسيط، يُنفَّذ من خلاله الكثير من المشاريع التي لا تعود على الأمة بخير. ولم تكن هناك مشكلة لدى المأمون أن ينزو إلى ذلك المقام من أفراد الأمة من هو بهذه الصفة.

من هنا فإن الإمام (ع) قطع الطريق على هذه الاحتمالات المذكورة، وهذا منتهى الحكمة، ويكشف عن قراءة تامة للمشهد، وإلا فإن علياً الرضا (ع) من علي المولى (ع) الذي كان يقول في الخلافة والإمرة، وقد سأل ابنَ عباس عن نعل كان يخصفها: ما قيمة هذا النعل؟ قال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (ع): والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً([2]).

أكتفي بهذا القدر، وللحديث بقية.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.