نص خطبة :الإصلاح الحسيني بين الواقع والمأمول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وآله الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾([1]).
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصةً لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته.
العلمُ رأس الإصلاح الحسيني:
يقول الإمام الحسين (ع): «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي»([2]).
الإصلاح في مدرسة الإمام الحسين بن علي (ع) له مبادئ وأبعاد، لكننا تخلينا عن الكثير من تلك المبادئ، وأسقطنا الكثير من تلك الأبعاد، واختصرناه ضمن حدود ضيقة جداً، لم تكن هي الهدف الأول والأخير من حركة الإصلاح الغالية الثمن، التي قُدّم في سبيل دفع عجلتها روح وصيٍّ من الأوصياء، ووليٍّ من الأولياء، وإمامٍ من الأئمة، من الكوكبة النيرة من آل محمد هو الحسين بن علي (ع).
والإصلاح الذي أراده الإمام الحسين (ع) في وسط الأمة يشمل جميع النواحي، فمفردة واحدة كانت تحتاج إلى الإصلاح، أُقصر الكلام في حدودها، ألا وهي مفردة العلم. فعندما وصل الأمر بالأمة إلى ما وصل إليه، من توسع رقعة الجهل والابتعاد عن حياض العلم والمعرفة، أراد الإمام الحسين (ع) الإصلاح.
واليوم، بعد ألف وأربعمئة سنة من القضاء على الثورة الحسينية، والراية التي أرادها أن تبقى خفاقة، من حقنا أن نسأل: هل لا زلنا في ركبه؟ وهل لا زلنا نحرّك الراية خفاقة من ميدان إلى آخر؟ وهل تقدمنا كأفراد ومجتمعات وأمة في مسارنا العلمي، أم ما زلنا نتذيل القائمة إذا ما قيست بالأرقام مع الأمم من حولنا؟
يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبير}([3]). فالدعوة للعلم دعوة قرآنية، ولكن هذه الآية كأنها لم تطرق سمع المسلمين من قبل، فغابت الكثير من العلوم والمعارف، فثار الإمام الحسين (ع) من أجل الإصلاح العام، ومن مفردات هذا الإصلاح الواقع العلمي.
تصوروا أن الإمام علياً (ع) بعد أن آلت إليه أمور الخلافة، صلى بالناس صلاة فتذكر بعضهم صلاة النبي محمد (ص). فعن مطرف بن عبد الله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبّر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فلمّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكّرني هذا صلاةَ محمد صلى الله عليه وسلم. أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد عليه الصلاة والسلام([4]).
تأمل هذا الخبر، وانظر حجم الجهل في ذلك الواقع، بحيث مرت بالأمة خمس وعشرون سنة وهم يجهلون صلاة نبيهم.
وفي الحديث الشريف عن النبي (ص): «يوزن مداد العلماء ودماء الشهداء يوم القيامة، فلا يفضل أحدهما على الآخر. ولغدوة في طلب العلم أفضل من مئة غزوة، ولا يخرج أحد في طلب العلم إلا وملكٌ موكل به يبشره بالجنة، ومن مات وميراثه المحابر والأقلام دخل الجنة»([5]). فالمداد إذن مقدَّم على الدم، فمن يعطي الشرعية للدم هو المداد والفتوى التي يسطرها العلماء. ومن هنا جاءت خصوصية التقديم.
ومن الظلم أن نقصر النص النبوي على مسارات العلوم الشرعية فقط، فالألف واللام في النص استغراقية عامة، تشمل جميع وجوه العلم وعناوينه المطروحة، من علوم شرعية ومدنية وما يتفرع عن هذا القسم وذاك. فأنت أيها الشاب الذي تذهب إلى المدرسة أو الجامعة من مصاديق هذا النص، وأنت أيها الشاب الذي تكمل مسيرتك العلمية من المهد إلى اللحد من مصاديقه كذلك، وأنت أيتها الأخت الشابة المؤمنة الراغبة في التطور في الجانب العلمي من مصاديقه بلا شك. فلا يمكن إذن أن نقصر هذا النص في حدود قراءة ضيقة ونخرّج منه من هم في حدوده.
من أدب المجالس:
لقد اشتمل النص القرآني الذي ذكرناه على لفظ المجالس، وهي جمع مجلس، وهذا المجلس قدم له المفسرون تعاريف وقراءات عديدة، فقالوا مثلاً: إن المراد بالمجلس هنا هو مجلس الرسول الأعظم محمد (ص) باعتبار أن البعض عندما يحضر في مجلس الرسول (ص) يحتل مكاناً معيناً، ثم يضيّق على القادمين، فلا يسمح لهم بإيجاد المحل المناسب للجلوس قريباً من النبي (ص). وهذا ما نراه في الكثير من مجالس أهل العلم اليوم، حال أن المفترض عندما يأتي قادمٌ للمجلس، وهو ممن لم يألف كثرة التردد على المكان، أن يُفسح له المجال بالجلوس، لاحتمال الحاجة للسؤال أكثر منك.
وفي تفسير آخر أن المجالس هنا مجالس الحرب، فهنالك يعرف المرء ما له وما عليه، فلا بد أن يفسح المجال. وقد كانوا آنذاك يتسابقون إلى الشهادة بين يدي رسول الله (ص) بحيث لا يتركون المجال لأيٍّ كان أن ينفذ فيتقدم عليهم في ذلك، فلم تحلُ الدنيا في أعينهم، إنما رأوا الآخرة كمن رآها عياناً. ولذلك كانوا يضيِّقون الفُرَج، كي لا يسبقهم إلى الشهادة والتضحية سابق.
وقد تكرر هذا المشهد في كربلاء عندما كان يتقدم أحدهم أمام الحسين (ع) ليتلقى السهام بصدره ونحره، فيقي الحسين (ع) نبل القوم، وهذا الموقف كان يتمناه كل واحد من أصحاب الحسين (ع).
وهنالك تفسير آخر يرى أن المجالس في الآية هي مجالس المؤمنين، كما في حسينياتهم وأماكن استراحتهم. فهل نحن اليوم نجسّد المقصود من الآية الشريفة بأن نفسح المجال للآخرين؟ الجواب: أن الحالة العامة ليست مبنية على أصول إيمانية صرفة، إنما على أعراف ومجاملات أخوية في أحسن الأحوال والتقادير.
أنواع العلوم:
وفي تفسير آخر أن المقصود بالمجالس، مجالس العلم والمعرفة، من رجال الدين والمراجع والوكلاء وغيرهم، وكلٌّ بحسبه.
أما النشوز في الآية فمعناه المسارعة لطلب الخير، أي قوموا بسرعة واندفعوا في وثبة واحدة، لتحقيق ما يوصلكم إلى طلب الخير. بمعنى آخر: إذا أردت أن تحقق مبدأ الفسح فعليك أن تبادر للنشوز، في حركة سريعة تترك فيها المكان للآخر.
إننا نلاحظ في مجالسنا اليوم، أن بعض الشباب ممن لا يتجاوز الخامسة عشرة أو العشرين من العمر، يجلس في المحل المناسب، لكنه يرى أمامه من يبلغ الثمانين وهو جالس في منتصف المجلس لا يجد مكاناً مناسباً، دون أن يفسح له المجال. مع أن شبابنا اليوم في مستوىً جيد من التعلّم، وهم شباب مؤدبون مثقفون مختلطون بالكثير من شرائح المجتمع، مطّلعون على الآداب العامة، فيفترض أن يقدم الشاب منهم النموذج الأفضل، ونحن على أبواب محرم الحرام، فلا بد أن نحافظ على الوضع الأفضل. فالجدار أفضل للشيخ الكبير أن يتكئ عليه، والكرسي كذلك، حتى لو لم تكن علامات الضعف أو المرض بادية على كبير السن.
وفي الروايات الشريفة في باب طلب العلم: «طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم، ألا وإن الله يحبّ بغاة العلم»([6]). والعلم هنا هو مطلق العلم، من الهندسة والطب والزراعة والإدارة والاقتصاد والسياسية، وفي جميع مجالات العلم، ومنها العلوم الشرعية في الحواضر العلمية الدينية، كالفقه والأصول والتفسير وغيرها.
إلا أن العلم سلاح ذو حدّين، فقد يتقدم بالبشرية، وقد يرجعها إلى الوراء، وقد ينير سماء الكون، وقد يحرقه، كل ذلك بالعلم. فالكون تحت رحمة الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنّ زناداً واحداً يمكن أن يطلق الصواريخ النووية التي تدمر هذا الكوكب بما فيه، لكن الله تعالى أقوى من البشر، ومقاليد الأمور والضبط وحفظ التوازن بيده وليست بيد الإنسان. لذا فإن الإنسان المؤمن لا تخيفه الأخبار التي تبلغه عن الصراعات والنزاعات اليومية والاضطرابات، لأن لديه رصيداً إيمانياً يحقق له عدم الخوف مما يجري من حوله، فالكون منذ أن وجد، وإلى يومنا هذا، لم يتعدَّ هذه الحدود، غاية ما في الأمر أنّ الآليات تغيرت، فبالأمس كانوا يدخلون القرية بسيوفهم، فيحرقون البيوت ويقتلون الرجال، ويعبثون بالناس ويسرقون الأموال، وكانت تباد أمم بكاملها، كما هو الحال في تاريخ المغول، وتاريخ أوربا، فمن أدار الحروب العالمية هم من يدّعون العلم والحداثة والتنوير، وقد ذهب ضحية الحربين العالميتين ستون مليون إنسان، بلا رأفة ولا رحمة. ولولا العلم لما بلغ حجم التدمير إلى هذه الدرجة.
ومن العلوم ما هو من العلوم السماوية، وهي عبارة عن رسائل الوحي التي هبط بها جبريل الأمين على الأنبياء، ومنهم خاتمهم وسيدهم النبي محمد (ص)، وهذه الرسائل تتمثل بالكتب السماوية. والأمر الآخر في العلوم السماوية خطاب الأنبياء المباشر للأمم من حولهم، وهو وليد الساعة والحدث، ومنه الأحاديث التي وصلت إلينا بالطرق المعتبرة. أما غير المعتبرة والموضوعة فليست من السنة.
وسوف يأتي شهر محرم الحرام، ونسمع فيه من الروايات الموضوعة ما يُصمّ الآذان، كما في عدد من يقتلهم العباس (ع) وهم بالآلاف، أو كون زينب (ع) بمظهر مأساوي منكسر، حال أن زينب (ع) هي التي حملت اللواء بعد أن سقط من يد أبي الفضل العباس (ع) وسارت به خفاقاً بين يدي سيدها وسيدنا الإمام زين العابدين (ع)، من كربلاء إلى الكوفة إلى الشام، إلى المدينة. واللواء الخفاق أعني به راية القضية الحسينية التي عنوانها الإصلاح في وسط الأمة، ولذلك لم يمنعها ما حصل في كربلاء من أداء رسالتها، وكان بيتها جامعة دينية، فكانت تُسأل في الفقه فتجيب، وفي التفسير والتربية والحوادث فتجيب. هذه هي زينب (ع) التي وقفت على مصرع الحسين (ع) فقالت: يا رب، إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى. لا أنها المرأة الحزينة المنكسرة التي انشغلت بالبكاء والعويل.
إنها جبل الصبر التي حاول أن ينال من موقفها ذلكم الجيش الطاغي وقائده الأرعن، إلا أنها بقيت صامدة.
انظروا إلى موقفها أمام عبيد الله بن زياد، وكيف أنه ضاق بها ذرعاً، حتى قال: إنها سجّاعة، أي أنها تتفنن في الكلام، وكانت تفرغ عن لسان أبيها علي (ع) وهو كالنبي محمد (ص).
وهنالك نوع من الأحاديث يسمى بالأحاديث القدسية، وهي ما يُخبر به النبي (ص) عن الله سبحانه وتعالى، من غير القرآن الكريم. وهي كنز ثرّ عظيم. ولكن للأسف الشديد لا نكاد نسمع منها إلا القليل. حال أنها تطرح بين أيدينا عطاءً لا يقف عند حدّ، وهي مدارس الأنبياء عامة، منذ آدم (ع) حتى خاتمهم النبي الأعظم محمد (ص).
وسوف أتناول في الأسابيع الآتية موضوع السنة النبوية بالأرقام، لنرى الفرق الكبير بين ما أراده لنا النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع)، ويبن ما يسوَّق له اليوم من خلال المنابر، لا على أساس من العلم والمعرفة، وسوف نرى أنفسنا أمام أي وضع في مدرسة الحديث نحن.
ورحم الله الشيخ الوائلي الذي كان يقول: إن لم يكن من يعتلي منبر الإمام الحسين (ع) مجتهداً، فلا أقل من أن يكون قد أنهى مرحلة السطوح كاملةً.
فمع جلّ الاحترام لجميع الخطباء، لكنني من باب التذكير والنصيحة أقول: الدين أمانة في أعناقكم، والناس أمانة بين أيديكم، وأنتم مؤتمنون على تراث أهل البيت (ع)، وقضية الإمام الحسين (ع) أمانة في أعناقكم، فلا تفرطوا فيها ولا تتسامحوا، وابتعدوا عن بعض النصوص التي تعطي المشهد قتامةً وشتاتاً وضياعاً أكثر مما هو عليه.
أما علوم أهل الأرض اليوم فهي في دورتها المتسارعة وإنتاجها العالي الجودة والمتقدم، وقد جاء هذا العلم على أساس من العلوم المدنية الحضارية التي تندفع البشرية في تحصيلها اليوم بقوة. فلا شك أن الرغبة في العلوم الشرعية اليوم في أدنى مستوياتها، ولم تمر بنا فترة زمنية كهذا العقد المنصرم، في عدم رغبة الناس في الدخول للحواضر العلمية الدينية، ورغبتهم في الانصراف لتحصيل العلوم في الجهات الأخرى الأكاديمية. ولا أريد أن أتطرق للأسباب الآن، لكنني أقول: ما لم ندخل ساحة النقد اليوم، فسوف ينتظرنا الجَلد في القادم من الأيام، وهو ما نحن فيه اليوم، حيث لا نجد شيئاً من النقد، إنما هو الجلد بقوة.
إن الركن الأساس في هذه العلوم في الجانب الأكاديمي، هو التنظير الدقيق المدار من قبل مؤسسات علمية راقية في الغرب والشرق، ثم حركة التطبيق لما يُنظّر له. ومع شديد الأسف أننا أمة وإن اختصت بالقراءة، إلا أنها لا تقرأ، فمثلاً نحن مقبلون على شهر محرم، فهل قرأ أحدٌ منا كتاباً أو حتى كتيّباً عن مسيرة الحسين (ع) وأحداث الطفّ؟ وهل أعدّ أحدنا نفسه لهذا الوضع؟ وهل بحث عن هذا الأمر بنفسه؟ غاية ما في الأمر أن يسأل عن مكان المجلس والخطيب ووقت القراءة، بشرط أن لا يطيل الحديث على المنبر. ففي الوقت الذي يفني الساعات الطوال هنا وهناك، يستثقل ساعة واحدة في ذكر الحسين (ع) في أعلى التقادير.
لقد قام أحد المؤمنين بمقارنة بين موقعين، من حيث الارتياد، أحدهما سوق تجاري، والآخر مكتبة عامة، يقول: جلست بين السوق والمكتبة أحصي الداخلين في كل منهما، فلما انتهيت من الإحصاء خلال عشرة أيام، وجدت أن نسبة 93.5٪ يرتادون السوق التجاري، في مقابل 6.5٪ يرتادون المكتبة، فهل هذه هي الأمةُ التي أمرها الله تعالى بالقراءة؟ وهل هي الأمة التي أمرها نبيها بطلب العلم من المهد إلى اللحد؟
ولو سألنا سؤالاً آخر في حسينية أو مسجد أو مدرسة أو غيرها: أين المكتبة العامة في المدينة أو الحي أو المنطقة أو المحافظة؟ فماذا يكون الجواب؟ لا شك أن الكثيرين لا يعرفون مكانها، وفي أفضل الأحوال يبحثون في الانترنت عن موقعها، ثم يجيبون.
والأسوأ من ذلك كله أن تسأل أحدهم عن المكتبة العامة في الجامعة التي يدرس فيها، فتكتشف أن علاقته بها ضعيفة أو معدومة.
إن الإصلاح الذي ابتغاه الإمام الحسين (ع) لا يكون في وجبات الأكل والولائم ولبس السواد وإقامة التعازي فقط، إنما المطلوب هو الإصلاح من الداخل، وتحريك الأمة. ونسأل الله تعالى أن يكون واقعنا في المستقبل أفضل مما نحن فيه.
تنمية المواهب، وتشجيع الدراسات العليا:
وسؤال آخر: هل أعطينا للمواهب الكامنة في داخلنا المساحة الكافية كي تستغل في إدارة حركة التنمية والتطور، سواء كان فردياً أم عائلياً أم حكومياً أم غيره؟ فليس هناك من هو فاقد للموهبة، كالرسم والتمثيل والرياضة بأصنافها، وكذلك المواهب العلمية المتعددة، فهل استثرنا في نفوس الأجيال هذه المواهب وحاولنا استغلالها؟ لا شك أن الجواب سيكون بالنفي.
وقد يسأل سائل: من هو المسؤول عن عدم تحفيز المواهب في الداخل؟ الجواب: أنا وأنت والجميع، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأب عليه مسؤولية اكتشاف الموهبة لدى ولده قبل المدرسة والجامعة، ثم يهيئ له أسباب التطور وتفجير هذه الموهبة كي يتقدم ويُقدِّم للمجتمع من حوله.
هنالك نعمتان مجهولتان، هما الدراسات العليا والابتعاث، وهذه الظاهرة من النعم الكبرى على أبنائنا وبناتنا، فعليهم أن يتطوروا في دراساتهم ويرتقوا، وهي نعمة لا تحظى بها الكثير من دول العالم. فإذا ارتقت الأمُّ في دراستها ارتقى أبناؤها، ثم ارتقى المجتمع بعد ذلك. فالبعثة الواحدة للفرد الواحد تكلف الدولة الكثير، فلماذا يرفضها البعض إذا ما جاءته الفرصة، تحت ذرائع غير مقنعة؟ فالناس تبذل الأموال كي تحظى بابتعاث، وتبعث أولادها على حسابها الخاص عندما لا يتيسر لهم الأمر. فعلينا أن نستغل هذه النعمة، وهي مفردة من مفردات الإصلاح الذي أراده الحسين (ع). فالحسين أراد إصلاح وضع الأمة، ومن ضمن ذلك الإصلاح أن يتغير نمط التفكير المتحجر عندنا. وأن تُرمَّم علاقاتنا مع بعضنا، وأن يتطور تلمُّسنا للواقع من حولنا، فكل ذلك مربوط بهذه الشعيرة، وهو الهدف الأساس للنهضة الحسينية.
إن مناسبة عاشوراء من النعم العظيمة علينا، شرط أن توضع في موضعها المناسب، وكربلاء المقدسة نعمة عظيمة، ولكن لا بد أن يكون الانطلاق من واقعها المتناسب معها، فهي مقدسة ولكن لا في ترابها فحسب، إنما في عطائها وفكرها وتنويرها. فالفرد الحسيني لا بكثرة الدموع فحسب، ولا بكثرة اللطم، ولا بغيره، إنما الحسيني بالفكر والعلم.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين.